التفسير الموضوعي للقرآن الكريم سورة البقرة: الآيات من 281- 286

التفسير الموضوعي
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الأسلامى

maxresdefault

قال تعالى
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا
فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ

يقول الله سبحانه : {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلي الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [البقرة: 281] .

عن ابن عباس قال: آخر آية نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: ((واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ((.
يقول ابن كثير في تفسيرها : ((هذه الآية آخر ما نزل من القران العظيم وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى، واحذروا أيها الناس يوما ترجعون فيه إلى الله فتلقونه فيه أن تَردوا عليه بسيئات تهلككم أو بمخزيات تخزيكم أو بفضيحات تفضحكم فتهتك أستاركم، أو بموبقات توبقكم فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به)) .

إنها لأعظم وصيه كيف لا؟ وهي وصيه رب العالمين وخالق الخلق أجمعين فهو سبحانه عالم بما يصلح أحوالهم وهو سبحانه المطلع علي مصيرهم  وما لهم وما ينتظرهم من مواقف وأهوال لا ينجوا منها إلا المتقون فأوصانا وهو الرحيم بنا بما ينجينا من سخطه وعذابه فأمرنا بالتقوى .

والله سبحانه يَعِظُ عِبَاده وَيُذَكِّرهُمْ زَوَال الدُّنْيَا وَفَنَاء مَا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَال وَغَيْرهَا وَإِتْيَان الْآخِرَة وَالرُّجُوع إِلَيْهِ تَعَالَى وَمُحَاسَبَته تَعَالَى خَلْقه عَلَى مَا عَمِلُوا وَمُجَازَاته إِيَّاهُمْ بِمَا كَسَبُوا مِنْ خَيْر وَشَرّ وَيُحَذِّرهُمْ عُقُوبَته : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه ثُمَّ تُوَفَّى كُلّ نَفْس مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة آخِر آيَة نَزَلَتْ مِنْ الْقُرْآن الْعَظِيم فَقَالَ اِبْن لَهِيعَة حَدَّثَنِي عَطَاء بْن دِينَار عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ آخِر مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن كُلّه “ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه ثُمَّ تُوَفَّى كُلّ نَفْس مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ « وَعَاشَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْد نُزُول هَذِهِ الْآيَة تِسْع لَيَالٍ ثُمَّ مَاتَ يَوْم الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيع الْأَوَّل رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم « وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث يَزِيد النَّحْوِيّ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس قَالَ آخِر شَيْء نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن « وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه ثُمَّ تُوَفَّى كُلّ نَفْس مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ « وَكَذَا رَوَاهُ الضَّحَّاك وَالْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَ
 آية الدين:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا معنى تداينتم: داين بعضكم بعضًا، والمراد بالدين هو المال الذي يكون في الذمة من قرض أو سلم أو ثمن مبيع مؤجل، سواء من عروض المال أو العقارات والمجوهرات وغير ذلك.

وهذا إرشاد عظيم كريم من الله لعباده بحفظ أموالهم وضبطها بالكتابة أو الاستيثاق بالرهن.

وقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}. فيه توكيد ثان لحفظ الدين وسائر الحقوق والعهود بطريق أولى، لأن مرور الزمن مدعاة للنسيان، وموت الشهود أو أحد الطرفين ذوي العلاقة بدون توثيق للحق مدعاة للإنكار وأكل أموال الناس بالباطل
وفي قوله سبحانه: { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}.

قدم الله صفة العدالة على صفة العلم، لأن من كان عدلًا سهل عليه أن يتعلم ما ينبغي لكتابة الوثائق.
ويأتي من الله سبحانه التأكيد بقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} يعني يلقي عليه ويصرح له بما يريد أن يكتب عليه ليكون إقراره حجة عليه تثبته الكتابة حسب إملائه على الكاتب.

ثم يأتي التأكيد مربوطًا بالوجدان الديني، وهو قوله سبحانه: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}.
وقد ذكر الله سبحانه في هذه الجملة من الآية ثلاثة أصناف لا يصلح إملاؤهم ولا تصح الكتابة عليهم إلا بواسطة أوليائهم، وأولهم السفيه الذي لا يحسن التصرف بالمال لضعف عقله أو تبذيره، والثاني الضعيف لصغره أو هرمه، والثالث الجاهل الذي لا يستطيع الإملاء، ويلحق به الأخرس والألكن، فهؤلاء الأصناف لابد لهم ممن يتولى أمورهم إما بتعيين حاكم أو رجال محتسبين.

والتأكيد الآخر هو قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} يعني استحصلوا على شهادة رجلين من رجالكم المسلمين، سواء ممن حضر العقد أو سمع الإقرار، فقوله سبحانه:{مِنْ رِجَالِكُمْ} حصر للمسلمين في قبول الشهادة دون غيرهم من الكفار على اختلاف مللهم. ويدل سياق الآية على أن وصف الكمال معتبر في الشهود لقوله تعالى: {ذَوَيْ عَدْلٍ}[الطلاق: 2] كما هو معتبر في الكاتب والولي.

وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} يعني فإن لم يحصل رجلين استشهد رجل وامرأتان ممن يرضى دينهم وأمانتهم ويطمئن إلى عدالتهم.

 ومن أحكام هذه الآية الكريمة وتوكيداتها هو استثناء التجارة الحاضرة من قيد الكتابة والاكتفاء فيها بشهادة الشهود أو الثقة المتبادلة بين الناس، وذلك تيسيرًا للمعاملات التجارية التي يعرقلها التعقيد والتي من ضروراتها أن تتم بسرعة وتتكرر في أوقات قصيرة، فلذا قال سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} يعني تدار بين المتعاملين بالمعاطاة بأن يأخذ البائع الثمن ويقبض المشتري المبيع أو يجري استلام السلعة ودفع الثمن بالحساب حسب ثقة الأسواق وكسب العملاء.

وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار:
أحدها: أنه تجوز جميع أنواع المداينات من سَلَم وغيره، لأن الله أخبر عن المداينة التي عليها المؤمنون إخبارًا مقررًا لها، ذاكرًا أحكامها.

الثاني والثالث: أنه لا بد لِلسَّلم من أجل، وأنه لا بد أن يكون معينًا معلومًا فلا يصح حالًَّا ولا إلى أجل مجهول.

الرابع: الأمر بكتابة جميع عقود المداينات، إما وجوبًا وإما استحبابًا، لشدة الحاجة إلى كتابتها، لأنها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم.

الخامس: أمر الكاتب أن يكتب.
السادس: اشتراط عدالته في نفسه لأجل اعتبار كتابته، لأن الفاسق لا يعتبر قوله ولا كتابته.
السابع: أنه يجب عليه العدل بينهما، فلا يميل كل الميل لأحدهما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك، لقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}.

الثامن: أن يكون الكاتب عارفًا بكتابة التوثيق، وما يلزم فيها كل واحد منهما، وما يحصل به التوثق، لأنه لا العدل إلا بذلك.

التاسع: يفهم من الآية: أنه إذا وجدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة أنه يعمل بها، ولو كان هو والشهود قد ماتوا، لأنه لو لم يكن كذلك لم تكن الكتابة تامة.

العاشر: قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} أي: لا يمتنع من منَّ الله عليه بتعليمه الكتابة أن يكتب بين المتداينين، فكما أحسن الله إليه بتعليمه، فليحسن إلى عباد الله المحتاجين إلى كتابته، ولا يمتنع من الكتابة لهم.

الحادي عشر: أمر الكاتب أن لا يكتب إلا ما أملاه عليه مَنْ عليه الحق.

الثاني عشر: أن الذي يُملي بين المتعاقدين هو من عليه الدين، لأنه إنما يكتب إقراره واعترافه.

الثالث عشر: أمره أن يبين جميع الحق الذي عليه، ولا يبخس منه شيئًا.

الرابع عشر: أن إقرار الإنسان على نفسه مقبول، لأن الله أمر من عليه الحق أن يمل على الكاتب، فإذا كتب إقراره بذلك ثبت موجبه ومضمونه، وهو ما أقر به على نفسه، ولو ادعى بعد ذلك غلطا أو سهوًا.

الخامس عشر: أن من عليه حق من الحقوق التي لا بينة على مقدارها وصفتها من كثرة وقلة وتعجيل وتأجيل، أن قوله هو المقبول دون قول من له الحق، لأنه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي عليه، إلا أن قوله مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته.

السادس عشر: أنه يحرم على من عليه حق من الحقوق أن يبخس وينقص شيئًا من مقداره أو طيبه وحسنه أو أجله أو غير ذلك من توابعه ولواحقه.

السابع عشر: أن من لا يقدر على إملاء الحق لصغره أو سفهه أو خرسه أو نحو ذلك، فإنه ينوب وليه منابه في الإملاء والإقرار.

الثامن عشر: أنه يلزم الولي من العدل ما يلزم من عليه الحق من العدل وعدم البخس، لقوله : {بِالْعَدْلِ}
التاسع عشر: أنه يشترط عدالة الولي، لأن الإملاء بالعدل المذكور لا يكون من فاسق.

العشرون: فيه دلالة على ثبوت الولاية في الأموال.

الحادي والعشرون: أن الحق يكون على الصغير والسفيه والمجنون والضعيف لا على وليهم، لأن الله أضافه إليهم.

الثاني والعشرون: أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون والمعتوه ونحوهم وتصرفهم غير صحيح، لأن الله جعل الإملاء لوليه، ولم يجعل لهم منه شيئًا، لطفًا منه بهم، وخوف تلف أموالهم.

الثالث والعشرون: صحة تصرف الولي في مال من ذُكر.

الرابع والعشرون: فيه مشروعية كون الإنسان يتعلم الأمور التي يتوثق بها المتداينون، لأن المقصود من ذلك التوثق والعدل، وما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع.

الخامس والعشرون: أن تعلم الكتابة مشروع، بل هو فرض كفاية، لأن الله أمر بكتابة الديون وغيرها، ولا يحصل ذلك إلا بالتعلم.

السادس والعشرون: أنه مأمور بالإشهاد على العقود، وذلك على وجه الندب، لأن المقصود من ذلك الإرشاد إلى ما يحفظ الحقوق، فهو عائد لمصلحة المكلفين، نعم إن كان المتصرف ولي يتيم أو وقف ونحو ذلك مما يجب حفظه، تعين أن يكون الإشهاد الذي به يحفظ الحق واجبًا.

السابع والعشرون: أن نصاب الشهادة في الأموال ونحوها رجلان، أو رجل وامرأتان، ودلَّت السُّنة أيضا أنه يقبل الشاهد مع يمين المدعي.

الثامن والعشرون: أن شهادة الصبيان غير مقبولة، لمفهوم قوله: {رجُلَيْنِ}
التاسع والعشرون: أن شهادة النساء منفردات في الأموال ونحوها لا تقبل، لأن الله لم يقبلهن إلا مع الرجل، وقد يقال: إن الله أقام المرأتين مقام رجل للحكمة التي ذكرها، وهي موجودة سواء كن مع رجل أو منفردات.

الثلاثون: أن شهادة العبد البالغ مقبولة كشهادة الحر لعموم قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}، والعبد البالغ من رجالنا.

الحادي والثلاثون: أن شهادة الكفار ذكورًا كانوا أو نساء غير مقبولة، لأنهم ليسوا منا، ولأن مبنى الشهادة على العدالة، والكافر غير عدل.

الثاني والثلاثون: فيه فضيلة الرجل على المرأة، وأن الواحد في مقابلة المرأتين لقوة حفظه، ونقص حفظها.
الثالث والثلاثون: أن من نسي شهادته ثم ذُكِّرها فذكر، فشهادته مقبولة، لقوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى }
الرابع والثلاثون: يؤخذ من المعنى أن الشاهد إذا خاف نسيان شهادته في الحقوق الواجبة، وجب عليه كتابتها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

الخامس والثلاثون: أن الشاهد إذا دعي للشهادة وهو غير معذور لا يجوز له أن يأبى، لقوله:{ وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}.

السادس والثلاثون: أن من لم يتصف بصفة الشهداء المقبولة شهادتهم، لم يجب عليه الإجابة لعدم الفائدة بها ولأنه ليس من الشهداء.

السابع والثلاثون: النهي عن السآمة والضجر من كتابة الديون كلها من صغير وكبير، وصفة الأجل، وجميع ما احتوى عليه العقد من الشروط والقيود.

الثامن والثلاثون: بيان الحكمة في مشروعية الكتابة والإشهاد في العقود، وأنه {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} ، فإنها متضمنة للعدل الذي به قوام العباد والبلاد، والشهادة المقترنة بالكتابة تكون أقوم وأكمل وأبعد من الشك والريب والتنازع والتشاجر.

التاسع والثلاثون: يؤخذ من ذلك أن من اشْتَبه وشَك في شهادته لم يجز له الإقدام عليها بل لا بد من اليقين.

الأربعون: قوله : {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا }.
فيه: الرخصة في ترك الكتابة إذا كانت التجارة حاضرًا بحاضر، لعدم شدة الحاجة إلى الكتابة.

الحادي والأربعون: أنه وإن رُخِّص في ترك الكتابة في التجارة الحاضرة، فإنه يشرع الإشهاد لقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ }
الثاني والأربعون: النهي عن مضارة الكاتب، بأن يدعى وقت اشتغالٍ وحصول مشقة عليه.

الثالث والأربعون: النهي عن مضارة الشهيد أيضًا، بأن يدعى إلى تحمل الشهادة أو أدائها في مرض أو شغل يشق عليه أو غير ذلك، هذا على جعل قوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} مبنيًا للمجهول، وأما على جعلها مبنيًا للفاعل، ففيه نهي الشاهد والكاتب أن يضارا صاحب الحق بالامتناع أو طلب أجرة شاقة ونحو ذلك.

وهذان هما الرابع والأربعون والخامس والأربعون والسادس والأربعون: أن ارتكاب هذه المحرمات من خصال الفسق، لقوله:{ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ }.

السابع والأربعون: أن الأوصاف كالفسق والإيمان والنفاق والعداوة والولاية ونحوها تتجزأ في الإنسان، فتكون فيه مادة فسق وغيرها، وكذلك مادة إيمان وكفر، لقوله: {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ولم يقل فأنتم فاسقون أو فُسَّاق.

الثامن والأربعون: - وحقه أن يتقدم على ما هنا لتقدم موضعه- اشتراط العدالة في الشاهد، لقوله:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
التاسع والأربعون: أن العدالة يشترط فيها العرف في كل مكان وزمان، وكل من كان مرضيًا معتبرًا عند الناس قبلت شهادته.

الخمسون: يؤخذ منها عدم قبول شهادة المجهول حتى يُزَكَّى.

فهذه الأحكام مما يستنبط من هذه الآية الكريمة على حسب الحال الحاضرة، والفهم القاصر، ولله في كلامه حكم وأسرار يخص بها من يشاء من عباده.اهـ
تيسير المعاملة أثناء السفر:
قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283]
في هذه الآية الكريمة فوائد وملاحظات:
إحداها: أن الله سبحانه يسر للمسلمين أن يتعاملوا معاملة شفوية حال السفر إذا عدموا الكاتب شريطة أن يستوثقوا برهان يضمن الحق.
ثانيها: ليس تعليق مشروعية أخذ الرهن في السفر وفي حالة عدم الكاتب مقيدًا له في تلك الحالات فقط، بل يجوز أخذ الرهن في الحضر وعند وجود آلاف الكتاب.
ثالثها: أن الله يستجيش ضمائر المؤمنين لأداء الأمانة والوفاء بدافع من تقواه ومراقبته إذا ائتمنوا على أي شيء من أمور البيع والشراء بأن كره بعضهم أن يأخذ على صاحبه كتابًا بالعقد وتفصيل الثمن والشرط.
وقوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} نهى الله الشهود عن كتمان الشهادة بعد نهيهم عن إباء تحملها، إذ قال: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}، فإن فيه تأكيدًا كتأكيد أمر الكاتب بأن يكتب بعد نهيه عن الإباء يقول: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}.
وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان يؤاخذ على ترك المعروف، كما يعاقب على فعل المنكر، لأن الترك للمأمور فعل يعاقب عليه، كما يعاقب على فعل المنهي، وذنب كتمان الشهادة عظيم خصوصًا إذا كان صادرًا عن عدوان مؤمن.
علم الله المحيط بكل شيء.
قال تعالى:{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [284]
هذه الآية الكريمة لها معان جليلة
فأول معانيها: تقرير علمه المحيط بكل شيء
وثاني معانيها: استغناؤه عن الولد
فهو الملك الوحيد لذلك جميعًا.
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}. اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول اله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة.

وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية)). فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .

الإيمان الأول:
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 35].

عندما نتأمل هذه الآية الكريمة نجد أن الإيمان الأول بالله كان من الرسول صلى الله عليه وسلم: “آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه». وبعد ذلك يأتي إيمان الذين بلغهم الرسول بالدعوة «والمؤمنون». وبعد ذلك يمتزج إيمان الرسول بإيمان المؤمنين «كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير”.

وإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربه هو إيمان التلقي المباشر . تلقي قلبه النقي للوحي العلي . واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة .

والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب
والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها الإسلام
والمؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله يتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم ويعرفون أنهم صائرون إليه فيطلبون مغفرته من التقصير.

ونختم بما تناولته الآية من دعاء:
{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}