فضـــل سورة آل عمران:

التفسير الموضوعي
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد

المحكم الصريح ليس محلا للفتنةلوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه

أبرز صفات المتقين.. الصبر والصدق والقنوت والإنفاق في سبيل الله وطلب المغفرة وقت الأسحار

ذكر الله تعالى صفات المتقين الذين آثروا نعيم الآخرة الباقي على متع الدنيا الزائلة، فاسمع لصفاتهم، وتمثلها في نفسك، عسى أن تكون منهم فتفوز فوزًا عظيمًا

فضـــل سورة آل عمران:
عن النواس بن سمعان قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقْدمهم سورة البقرة وآل عمران)).

تســـميَـــة السورة:
سميت السورة بـ ((آل عمران)) لورود ذكر قصة تلك الأسرة الفاضلة ((آل عمران)) والد مريم أم عيسى عليه السلام، وما تجلّى فيها من مظاهر القدرة الإِلهية بولادة مريم البتول وابنها عيسى عليهما السلام.

سَبَبُ النّزول:
نزلت هذه الآيات في وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكباً، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ثلاثة منهم أكابرهم “عبد المسيح” أميرهم و”الأيهم” مشيرهم و”أبو حارثة بن علقمة” حبرُهم، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم منهم أولئك الثلاثة معه فقالوا تارةً عيسى هو “الله” لأنه كان يحيي الموتى، وتارةً هو “ابن الله” إِذ لم يكن له أب، وتارة إِنه “ثالث ثلاثة” لقوله تعالى “فعلنا وقلنا” ولو كان واحداً لقال “فعلتُ وقلتُ.

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت وأن عيسى يموت)) قالوا: بلى، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إِلا ويشبه أباه!! قالوا بلى، قال ألستم تعلمون أن ربنا قائم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إِلا ما علم؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وأن عيسى كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث!! قالوا بلى فقال صلى الله عليه وسلم فكيف يكون كما زعمتم؟ فسكتوا وأبوا إِلا الجحود فأنزل الله من أول السورة إِلى نيفٍ وثمانين آية.

الله قيوم السماوات والأرض:
{الَمَ(1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(6)}.

{الَمَ} إِشارة إِلى إِعجاز القرآن، وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية، وقد تقدّم في أول البقرة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: لا ربَّ سواه ولا معبود بحقٍ غيره {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} أي: الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم على تدبير شؤون عباده {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي نزّل عليك يا محمد القرآن بالحجج والبراهين القاطعة {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب المنزّلة قبله المطابقة لما جاء به القرآن .

ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب، الذي هو أجل الكتب وأعظمها، وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه { مصدقا لما بين يديه } من الكتب السابقة، ثم قال تعالى { وأنزل التوراة } أي: على موسى { والإنجيل } على عيسى.

أي أنزل الكتابين العظيمين ((التوراة)) و((الإِنجيل)) من قبل إِنزال هذا القرآن هداية لبني إِسرائيل {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} أي جنس الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وقيل: المراد بالفرقان القرآنُ .

ولا شك أنها أنزلت بطريقة الوحي ينزل به أمينه جبريل عليه السلام. قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ*وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ{ [الشعراء:193ـ 196] وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً{ [النساء:163] وأخرج الطبري من حديث الربيع بن خثيم في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}، قال: أوحى الله إليه كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله.

وفي الصحيحين: ((أن ورقة بن نوفل لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكيفية التي فعل به الملك وما أوحى إليه به قال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم، ياليتني فيها جذعا))... الحديث.

وقد كلم الله بعض الرسل قال تعالى: {تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ{ [البقرة: 253]. وقال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164ٍ].

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} أي: جحدوا بها وأنكروها وردّوها بالباطل {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: عظيم أليم في الآخرة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} أي: غالب على أمره لا يُغلب، منتقم ممن عصاه .

{إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي: لا يغيب ولا يغرب عن علمه أمرٌ من الأمور، فهو مطَّلع على كل ما في الكون لا تخفى عليه خافية {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} أي: يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء من ذكرٍ وأنثى، وحَسن وقبيح {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: لا ربّ سواه، متفردٌ بالوحدانية والألوهية، العزيز في ملكه الحكيم في صنعه، وفي الآية ردٌّ على النصارى حيث ادعوا ألوهية عيسى فنبّه تعالى بكونه مصوّراً في الرحم، وأنه لا يعلم الغيب على أنه عبد كغيره من العباد.

المحكم والمتشابه في القرآن:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }

القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله { منه آيات محكمات } أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال { هن أم الكتاب } أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، { و } منه آيات { أخر متشابهات } أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد { فيتبعون ما تشابه منه } أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، { ابتغاء الفتنة } لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه.

وقوله { وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله }اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، وهل ((الراسخون)) معطوف على اسم ((الله)) ، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه ، أم هم مستأنف ذكرهم ، بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون : آمنا بالمتشابه وصدقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله ؟

فقال بعضهم : معنى ذلك : وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردا بعلمه ، وأما الراسخون في العلم ، فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون : آمنا بالمتشابه والمحكم ، وأن جميع ذلك من عند الله .

ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} أي: لا تملها عن الحق جهلا وعنادا منا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين، فثبتنا على هدايتك وعافنا مما ابتليت به الزائغين {وهب لنا من لدنك رحمة} أي: عظيمة توفقنا بها للخيرات وتعصمنا بها من المنكرات {إنك أنت الوهاب} أي: واسع العطايا والهبات، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات.

{ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنك لا تخلف الميعاد} فمجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها.

يوم لا تنفع الأموال ولا الأولاد:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}

يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله، الجاحدين بدينه وكتابه، قد استحقوا العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وأنه لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم شيئا، وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد عليهم، ويقولون {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} فيوم القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون {وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن} وليس للأولاد والأموال قدر عند الله، إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة، كما قال تعالى {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}

وأخبر هنا أن الكفار هم وقود النار، أي: حطبها، الملازمون لها دائما أبدا، وهذه الحال التي ذكر الله تعالى أنها لا تغني الأموال والأولاد عن الكفار شيئا، سنته الجارية في الأمم السابقة.‏

فعل هؤلاء المشركون المكذبون بما أرسلت به يا محمد كما فعل الأمم المكذبة قبلهم ، ففعلنا بهم ما هو دأبنا ، أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل، الكافرين بآيات الله {فأخذهم الله بذنوبهم} أي : بسبب ذنوبهم أهلكهم ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر {إن الله قوي شديد العقاب} أي : لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب .

ثم قال تعالى { قل } يا محمد { للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } وفي هذا إشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وتحذير للكفار، { قد كان لكم آية} أي: عبرة عظيمة {في فئتين التقتا} وهذا يوم بدر { فئة تقاتل في سبيل الله } وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه { وأخرى كافرة } أي: كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، فجمع الله بين الطائفتين في بدر، وكان المشركون أضعاف المؤمنين، فلهذا قال { يرونهم مثليهم رأي العين } أي: يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة، تبلغ المضاعفة وتزيد عليها، وأكد هذا بقوله {رأي العين} فنصر الله المؤمنين وأيدهم بنصره فهزموهم، وقتلوا صناديدهم، وأسروا كثيرا منهم.

زينة حب الشهوات:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}
قال ابن كثير - رحمه الله -: يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، روى البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)).

ثم إن الله تعالى بعد ذكره الموازنة بين متع الدنيا ونعيم الآخرة، ذكر صفات المتقين الذين آثروا نعيم الآخرة الباقي على متع الدنيا الزائلة، فاسمع لصفاتهم، وتمثلها في نفسك، عسى أن تكون منهم فتفوز فوزًا عظيمًا.
فأولها: الإيمان بالله وبرسله وكتبه، المتضمن الإيمان باليوم الآخر، وما أعد الله فيه للمؤمنين من الفضل العظيم، وما أعد للكافرين الغافلين من العقاب الأليم.

ثانيها: اعترافهم بذنوبهم، وعلمهم أنه لا يغفرها إلا الله ربهم.

ثالثها: إيمانهم بالنار وعذابها، وسؤالهم ربهم أن يقيهم منها.

رابعها: صبرهم عن شهوات الدنيا وملذاتها، إيمانًا منهم بأن الله سيعوضهم خيرًا منها، والصبر من أفضل خصال الإيمان، ولا يتم إلا باستكمال أركانه الثلاثة، وهي الصبر على طاعة الله، والصبر على معاصي الله، والصبر على أقدار الله.

خامسها: الصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والصديقون مع الأنبياء والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.

سادسها: قنوتهم لله رب العالمين، وذلك يقتضي محبتهم له، وانكسارهم بين يديه، والتجاءهم إليه رغبة ورهبة وخشوعًا.

سابعها: إنفاقهم في سبيل الله ابتغاء مرضاته، لا رياء وسمعة.
ثامنها: طلبهم المغفرة من ربهم في وقت الأسحار، حين ينزل الرب إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، فيقول: “هل من سائل يعطى! هل من داع يستجاب له! هل من مستغفر يغفر له! حتى ينفجر الصبح، وهم يدعونه ويسألونه ويستغفرونه، والغافلون يغطون في نوم عميق.
يقول تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

شهادة الله والملائكة وأولو العلم:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
شهد تعالى - وكفى به شهيدا ، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم ، وأصدق القائلين – {أنه لا إله إلا هو} أي : المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق ، وأن الجميع عبيده وخلقه ، والفقراء إليه ، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى:{ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا} [ النساء : 166].

ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام .

{قائما بالقسط} منصوب على الحال، وهو في جميع الأحوال كذلك .
{لا إله إلا هو} تأكيد لما سبق {العزيز الحكيم} العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره .

وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته ، صلوات الله وسلامه عليه ، إلى جميع الخلق ، كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث ، فمن ذلك قوله تعالى {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} [ الأعراف : 158] وقال تعالى {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان : 1 ] وفي الصحيحين وغيرهما، مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة ، أنه بعث كتبه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ملوك الآفاق ، وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم ، كتابيهم وأميهم ، امتثالا لأمر الله له بذلك . وقد روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أهل النار ((رواه مسلم .

وذكر ابن جرير: أن ابن عباس قرأ {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام} بكسر إنه وفتح أن الدين عند الله الإسلام أي شهد هو والملائكة وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام والجمهور قرءوها بالكسر على الخبر وكلا المعنيين صحيح ولكن هذا على قول الجمهور أظهر والله أعلم

قال صلى الله عليه وسلم: (( بعثت إلى الأحمر والأسود)) وقال – صلى الله عليه وسلم – ((كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) . وقال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل ، حدثنا حماد ، حدثنا ثابت عن أنس ، رضي الله عنه : أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه ويناوله نعليه ، فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ((يا فلان ، قل : لا إله إلا الله)) فنظر إلى أبيه ، فسكت أبوه ، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر إلى أبيه ، فقال أبوه : أطع أبا القاسم ، فقال الغلام: أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ((الحمد لله الذي أخرجه بي من النار)) أخرجه البخاري في الصحيح .