قتل الأنبياء منهج الكافرين:والآيات القرآنية توضح قتل اليهود للأنبياء

الحكم الربانية
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

قتل الأنبياء منهج الكافرين:
وردت العديد من الآيات القرآنية التي توضح قتل اليهود للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].
وقال الله - جل وعلا: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]؛ أي: “ظلمًا؛ فإنهم قتلوا شعياء، وزكريا، ويحيى وغيرهم.

وقال البيضاوي - رحمه الله - في تفسيره: “بسبب كفرهم بالمعجزات، التي من جملتها ما عدَّ عليهم من فلق البحر، وإظلال الغمام، وإنزال المنِّ والسلوى، وانفجار العيون من الحَجَر، أو بالكتب المنزلة؛ كالإنجيل، والفرقان، وآية الرجم، والتي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة، وقتلهم الأنبياء، فإنهم قتلوا شعياء، وزكريا، ويَحيى وغيرهم بغير الحق عندهم؛ إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم، وإنما حملهم على ذلك اتِّباع الهوى، وحب الدنيا؛ كما أشار إليه بقوله : {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}؛ أي: جرَّهم العصيان والتمادي والاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات، وقتل النبيين، فإن صغار الذنوب سبب يؤدي إلى ارتكاب كبارها، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها، وقيل: كرر الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما هو بسبب الكفر والقتل، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي، واعتدائهم حدود الله تعالى.

وقال الله - تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، وقال الله - تبارك وتعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112].

إحباط العمر جزاء الكافرين:
جاءت هذه الجملة {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} فى فئات مختلفة
قجاءت فى المرتدين فى قوله تعالى : {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولئِك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلئكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 157].

وجاءت فى بعض علماء أهل الكتاب: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران: 22].

وجاءت فى المنافقين : {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69 ].

ومعلوم أن للإيمان مردود إيجابى على الذات الإنسانية - فى الدنيا - فهو يصلحها ويرفع من أخلاقها كما يكسبها البركة فيما تأتي وفيما تدع ، فإذا حُرم الإنسان هذا أصبح عمله بلا ثمرة، بل قد أقول: إنه يُمحى من قلبه الأثر الإيجابى الذى أوجده الإيمان، هذا بالنسبة للمرتد؛ وكذلك الكتابى الذى لم يؤمن بآيات الله التى جاءته فى الرسالة الخاتمة، أما المنافق فحبط عمله ألا يصلح فساد قلبه .

وحبط العمل فى الآخرة معلوم من قوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 105]، فلا عمل يوزن له أو عليه .

الإعراض عن كتاب الله:
يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه، فكان يجب أن يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقيادا لأحكامه، فأخبر الله عنهم أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم يعرضون، تولوا بأبدانهم، وأعرضوا بقلوبهم، وهذا غاية الذم، وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل كفعلهم، فيصيبنا من الذم والعقاب ما أصابهم، بل الواجب على كل أحد إذا دعي إلى كتاب الله أن يسمع ويطيع وينقاد، كما قال تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا}.

ورُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – ((أنه أَرَادَ الْيَهُودَ حِينَ دُعُوا إلَى التَّوْرَاةِ وَهِيَ كِتَابُ الله وَسَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمْ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ كَمَا قال تعالى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ.

وَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَمَا أَعْرَضُوا عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَى مَا فِي كُتُبِهِمْ، وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ آمَنُوا، وَصَدَّقُوا لِعِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَلِمَا عَرَفُوهُ مِنْ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الله مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا ادَّعَاهُ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ لَمَا أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ بَلْ كَانُوا يُسَارِعُونَ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا فِي كُتُبِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنُوا بُطْلَانَ دَعْوَاهُ، فَلَمَّا أَعْرَضُوا، وَلَمْ يُجِيبُوا إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ.

وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَحَدَّى الله تعالى بِهِ الْعَرَبَ مِنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَدَلُوا إلَى الْقِتَالِ وَالْمُحَارَبَةِ، لِعِلْمِهِمْ بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا؛ وَكَمَا دَعَاهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ فِي قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} إلَى قوله تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ} .

وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ((لَوْ حَضَرُوا وَبَاهَلُوا لَأَضْرَمَ الله تعالى عَلَيْهِمْ الْوَادِيَ نَارًا، وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَى أَهْلٍ، وَلَا وَلَدٍ)).

وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّمَا أَرَادَ بِقوله تعالى: {يُدْعَوْنَ إلَى كِتَابِ الله} إلَى الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ يُوَافِقُ مَا فِي التَّوْرَاةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالشَّرْعِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَتْ بِهَا الْبِشَارَةُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

وَالدُّعَاءُ إلَى كِتَابِ الله تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ: جَائِزٌ أن يكون نُبُوَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَيَحْتَمِلُ أن يكون أَمَرَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ دِينَهُ الإسلام، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ حَدٍّ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى بَعْضِ مَدَارِسِهِمْ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَدِّ الزَّانِي، فَذَكَرُوا الْجَلْدَ وَالتَّحْمِيمَ وَكَتَمُوا الرَّجْمَ، حَتَّى وَقَّفَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ بِحَضْرَةِ عَبْدِ الله بْنِ سَلَامٍ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ مُحْتَمَلَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أن يكون الدُّعَاءُ قَدْ وَقَعَ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ؛ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا خَصْمَهُ إلَى الْحُكْمِ لَزِمَتْهُ إجَابَتُهُ؛ لِأَنَّهُ دَعَاهُ إلَى كِتَابِ الله تعالى وَنَظِيرُهُ أيضا قوله تعالى: {إذَا دُعُوا إلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}.

الافتراء على الله:
قوله: {ذَلِكَ بأنهمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} الإشارة إلى توليهم وإعراضهم، والباء للسببية: أي: إنهم فعلوا ما فعلوا بسبب زعمهم أنهم في أمان من العذاب إلا أياما قليلة، فانعدم اكتراثهم باتباع الحق؛ لأن اعتقادهم النجاة من عذاب الله على كل حال جرأهم على ارتكاب مثل هذا الإعراض. وعبر عن الاعتقاد بالقول دلالة على أن هذا الاعتقاد لا دليل عليه وأنه مفترى مدلس، وهذه العقيدة عقيدة اليهود.

وقوله: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: ما تقولوه على الدين وأدخلوه فيه، فلذلك أتي بفي الدالة على الظرفية المجازية، ومن جملة ما كانوا يفترونه قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، وكانوا أيضا يزعمون أن الله وعد يعقوب ألا يعذب أبناءه.

وقد أخبر الله تعالى عن مفاسد هذا الغرور والافتراء بإيقاعها في الضلال الدائم، لأن المخالفة إذا لم تكن عن غرور فالإقلاع عنها مرجو، أما المغرور فلا يترقب منه إقلاع، وقد ابتلى المسلمون بغرور كثير في تفاريع دينهم وافتراءات من الموضوعات عادت على مقاصد الدين وقواعد الشريعة بالإبطال.

يوم الجمع ويوم الحسرة:
حكى القران ما سيكون عليه حالهم من عذاب وحسره بأسلوب موثر فقال: {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} فالاستفهام هنا للاستعظام والتهويل والرد على مزاعمهم الباطلة، وكيف في موضع نصب على الحال والعامل فيه محذوف، أى: فكيف تكون حالهم أو كيف يصنعون ويجوز أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف، أى فكيف حالهم قال الفخر الرازي أما قوله : {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} فالمعنى أنه لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بين أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل، وينكشف فيه ذلك الغرور؛ فقال: {فكيف إذا جمعناهم} وفي الكلام حذف والتقدير فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيرا مع كيف لدلالتها عليه تقول: كنت أكرمه وهو لم يزرني، فكيف لو زارني أى: كيف حاله إذا زارني واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغه لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامه في قول القائل: لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية والمعنى فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم لجزاء يوم لا ريب في مجيئه وحصوله، واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا، ووفيت كل نفس ما كسبت من خير أو شر وهم لا يظلمون شيئا، بل يجازى كل إنسان على حسب عمله لا شك أنهم في هذا اليوم الهائل الشديد سيفاجأون بذهاب غرورهم، وبفساد تصورهم وأنهم سيقعون في العذاب الأليم الذي لا حيله لهم في دفعه ولا مخلص لهم من ذوقه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .

قال الزمخشري: روى أن أول رايه ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار رايه اليهود فيفضحهم الله على رءوس الأشهاد، ثم يامر بهم إلى النار وبذلك تكون هذه الآيات الكريمه قد وبخت أحبار اليهود الذين يعرضون عن الحق توبيخا شديدا وأبطلت أكاذيبهم وغرورهم، وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم وصورت حالهم يوم القيامة تصويرًا موثرًا هائلا تهتز له القلوب، وترتجف منه الأفئده، ويحمل العقلاء على التزود من التقوى والعمل الصالح، حتى يفوزوا برضا الله من توجيهات القران الكريم بعد أن تحدثت سوره آل عمران عن المعرضين عن الحق أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أمر كل مومن أن يتوجه إليه بالضراعه.

الله الملك يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء:
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل اللهم مالك الملك} أي: أنت الملك المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها، فقال: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد، وقد فعل ولله الحمد، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع، قال الله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور، وقال تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} الآية وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} فأخبر أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء، وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم، ثم قال تعالى: {وتعز من تشاء} بطاعتك {وتذل من تشاء} بمعصيتك {إنك على كل شيء قدير} لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك.

{تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل} أي: تدخل هذا على هذا، وهذا على هذا، فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون والانتشار، ما هو من أكبر الأدلة على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته: {وتخرج الحي من الميت} كالفرخ من البيضة، وكالشجر من النوى، وكالزرع من بذره، وكالمؤمن من الكافر {وتخرج الميت من الحي} كالبيضة من الطائر وكالنوى من الشجر، وكالحب من الزرع، وكالكافر من المؤمن، وهذا أعظم دليل على قدرة الله، وأن جميع الأشياء مسخرة مدبرة لا تملك من التدبير شيئا، فخلقه تعالى الأضداد، والضد من ضده بيان أنها مقهورة {وترزق من تشاء بغير حساب} أي: ترزق من تشاء رزقا واسعًا من حيث لا يحتسب ولا يكتسب.

موالاة الكفار وحكم مخالطتهم:
حرم الله تعالى على المؤمنين اتخاذ الكافرين أولياء، وتوعد على ذلك وعيداً شديداً .
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] .

وذكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى مِن المسلمين فإنه يكون منهم بتوليه إياهم، وبيَّن في موضع آخر أن توَلِّيهم موجب لسخط الله ، والخلود في عذابه ، وأن متوليهم لو كان مؤمناً ما تولاهم ، وهو قوله تعالى {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة/80 ، 81] .

ونهى في موضِع آخر عن تَوليهم مبيناً سبب التنفير منه ، وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13].

وبيَّن في موضع آخر أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف ، وتقية ، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور، وهو قوله تعالى : {لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] . فهذه الآية الكريمة فيها بيانٌ لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً وإيضاحٌ أن محل ذلك في حالة الاختيار، وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة، ومن يأتي الأمور على اضطرار فليس كمثل آتيها اختياراً .

ولا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم ؛ لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] . وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] .

وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع ، قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1 ].

أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم فهذا لا بأس به ؛ لأنه من باب التأليف على الإسلام، ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به.

الله يعلم السر وأخفى:
{قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير} انتقال من التحذير المجمل إلى ضرب من ضروب تفصيله وهو إشعار المحذر باطلاع الله على ما يخفونه من الأمر وذكر الصدور هنا والمراد البواطن والضمائر جريا على معروف اللغه من إضافه الخواطر النفسيه إلى الصدر والقلب لأن الانفعالات النفسانيه وترددات التفكر ونوايا النفوس كلها يشعر لها بحركات في الصدور، وزاد (أو تبدوه) فأفاد تعميم العلم تعليما لهم بسعه علم الله تعالى لأن مقام اثبات صفات الله تعالى يقتضي الإيضاح وجمله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض معطوفه على جمله الشرط فهي معموله لفعل قل، وليست معطوفه على جواب الشرط لأن علم الله بما في السماوات وما في الأرض ثابت مطلقا غير معلق على إخفاء ما في نفوسهم وإبدائه وما في الجمله من التعميم يجعلها في قوه التذييل وقوله: {والله على كل شيء قدير} إعلام بأنه مع العلم ذو قدره على كل شيء، وهذا من التهديد إذ المهدد لا يحول بينه وبين تحقيق وعيده إلا أحد أمرين الجهل بجريمة المجرم أو العجز عنه فلما أعلمهم بعموم علمه وعموم قدرته علموا أن الله لا يفلتهم من عقابه وإظهار اسم الله دون ضميره فلم يقل وهو على كل شيء قدير لتكون الجمله مستقله فتجري مجرى المثل، والجمله لها معنى التذييل والخطاب للمومنين تبعا لقوله: {لا يتخذ المومنون الكافرين} {ال عمران: 28}.

يوم أن تكشف الأعمال:
قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [سورة آل عمران ، الآية رقم 30].

قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: ((يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة يُحْضِر لِلْعَبْدِ جَمِيع أَعْمَاله مِنْ خَيْر وَشَرّ، فَمَا رَأَى مِنْ أَعْمَاله حَسَنًا سَرَّهُ ذَلِكَ وَأَفْرَحَهُ، وَمَا رَأَى مِنْ قَبِيح سَاءَهُ وَغَصَّهُ وَوَدَّ لَوْ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَأَنْ يَكُون بَيْنهمَا أَمَد بَعِيد، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُؤَكِّدًا وَمُهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا {وَيُحَذِّركُمْ اللَّه نَفْسه} أَيْ يُخَوِّفكُمْ عِقَابه ثُمَّ قَالَ جَلَّ جَلَاله مُرْجِيًا لِعِبَادِهِ لِئَلَّا يَيْأَسُوا مِنْ رَحْمَته وَيَقْنَطُوا مِنْ لُطْفه {وَاَللَّه رَءُوف بِالْعِبَادِ} انتهى كلامه رحمه الله، فمن يطيق أن يعصي الخالق جل جلاله بعد قراءة هذه الآية؟ بل من يطيق ألا تدمع عينه من خشية الله ورجاء بواسع رحمته؟؟ لا إله إلا الله، اللهم لك الحمد على رحمتك التي سبقت غضبك سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك.