الاستاذ الدكتور / أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
كتاب “دلائل الإيمان ”
يقول الإمام ابن القيم فى كتاب الفوائد: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.
المؤمن بالله سبحانه وتعالى، يعرف مصدر توجهه، ومبدأ حيإن العقيدة هى صمام الأمان، وهى المحرك القوى للإنسان، بها يهتدى إلى فطرته الأولى، ويضع يده على النور الذى أودعه الله فيه؛ فيأمن من خوفه، ويهتدى من حيرته ويستقر بعد تخبط، ويطمئن بعد قلق واضطراب، وبأركان الإيمان تتم العقيدة ويكتمل اليقين.
والإيمان ستة أركان، وإن الركن الأساسى الذى تُبنى عليه بقية الأركان هو الإيمان بالله تعالى الإيمان به ربًّا وخالقـًا، والإيمان به حكيمًا، ومدبرًا ومنظمًا لهذا الكون ومهيمنًا عليه قال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام :13].
والإيمان ليس دعوى يدعيها أى إنسان، بل لقوة الإيمان دلائل يستدل بها على قوة إيمان صاحبها قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات:14].
فلا يخفى على مسلم أن الإيمان له أركان وثمرات، ومن تلك الثمرات ما قد يجده البعض من المؤمنين من إحساس داخلي؛ فيتلذذ به وهو ما يعبر عنه بحلاوة الإيمان، وهذه الحلاوة قد يحصل عليها المسلم عندما يسلك بنفسه وسيلة من الوسائل التى توصله إلى هذه النتيجة.
ومعنا اليوم كتاب “ دلائل الإيمان” وفيه نتناول الوسائل والطرق التى يجب على المسلم أن يسلكها لينعم بحقيقة الإيمان وحلاوته، ويستطيع أن يطبقه قولًا وعملًا وسلوكًا، ويأتى هذا الكتاب على سبعة فصول رئيسة، ويتفرع منها العديد من القضايا، حيث جاء الفصل الأول بعنوان حب الإيمان.
يتناول هذا الفصل كيفية حب الإيمان، وماذا تحب من الإيمان، وحب النبى صلى الله عليه وسلم من الإيمان كما أنه يبين أن الإيمان يقترن دائمًا بالصفات والأخلاق الحسنة.
- وجاء الفصل الثانى بعنوان من فيض الإيمان، ويشتمل هذا الفصل على ثلاثة مباحث رئيسة هي: تجديد الإيمان، الرضا بالله تعالى، التطلع إلى رحمة الله تعالى.
- الفصل الثالث بعنوان تلقيح الإيمان وتقويته، ويتناول هذا الفصل أيضًا ثلاثة مباحث رئيسة، تلقيح الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، تلقيح الإيمان بملائكة الرحمن، تلقيح الإيمان بصوم رمضان.
-الفصل الرابع بعنوان تثبيت اليقين، ويتناول هذا الفصل نماذج من حياة الأنبياء والصالحين من أهل اليقين فى الله عزو جل.
- الفصل الخامس بعنوان الذكر من دلائل الإيمان، ويشتمل هذا الفصل على الذكر بقراءة القرآن، والتسبيح.
- وجاء الفصل السادس بعنوان الخوف والخشية من دلائل الإيمان.
واختتم الكتاب بالفصل السابع، وهو “أولئك لهم الأمن” (الآمنون).
الفصل الأول حُــب الإيمان
إن الإيمان بالله تعالى له حلاوةٌ لا يتذوق طعمها إلا المؤمنون الصادقون الذين يتصفون بصفات تؤهلهم لذلك، وليس كل من ادعى الإيمان يجد هذه الحلاوة، وحلاوة الإيمان حقيقة معنوية يجعلها الله فى قلوب الصالحين من عباده.
وإن محبة الله تعالى، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهم صفات من يتذوق طعم الإيمان، فمحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعلو عليها أى محبة، بل هى مقدمة على محبة النفس والوالد والناس أجمعين؛ لما جاء عن عمر رضى الله عنه، أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لأنت أحب إلىَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبى صلى الله عليه وسلم :«لا والذى نفسى بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»، وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين».
ولمحبة النبى صلى الله عليه وسلم علاماتٌ منها:
* الإيمان بأنه رسول من عند الله أرسله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله وسراجًا منيًرا، وتمنى رؤيته صلى الله عليه وسلم والحزن على فقدها.
*امتثال أوامره صلى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه، فالمحب لمن يحب مُطيع، فمن خداع النفس أن تدعى محبته، وتخالف أوامره وترتكب نواهيه.
*نصر سنته، والعمل بها، ونشرها، والذب عنها، والمجاهدة فى سبيل ذلك.
*كثرة الصلاة والسلام عليه، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه.
*محبة أصحابه، والذب عنهم، ومحبة الاطلاع على سيرته ومعرفة أخباره.
ولتقوية الإيمان وتجديده وسائل كثيرة أهمها:
* إخلاص النية، والاستعانة بالله تعالى، تدبر القرآن الكريم، استشعار عظمة الله تعالى، طلب العلم النافع، كثرة الأعمال الصالحة، ذكر الموت وتذكُر منازل الآخرة، والتفاعل مع الآيات الكونية. مناجاة الله سبحانه والانكسار بين يديه، قصر الأمل، التفكير فى حقارة الدنيا، تعظيم حرمات الله، الولاء لله ورسوله وللمؤمنين والبراء من الكفرة والمشركين، السعى لمحبة الله رب العالمين.
* ومن الوسائل التى يمكن للمرء المسلم أن يعالج بها ضعف إيمانه ويزيل قسوة قلبه بعد الاعتماد على الله عز وجل، وتوطين النفس على المجاهدة:
تدبر القرآن العظيم الذى أنزله الله عزو جل تبيانًا لكل شيء ونورًا يهدى به سبحانه من شاء من عباده، ولا شك أن فيه علاجـًا عظيمًا ودواء فعالاً، قال الله عز وجل : {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [ الإسراء : 82 ] أما طريقة العلاج فهى التفكر والتدبر.
استشعار عظمة الله عز وجل ومعرفة أسمائه وصفاته، والتدبر فيها، وعقل معانيها، واستقرار هذا الشعور فى القلب وسريانه إلى الجوارح لتنطق عن طريق العمل بما وعاه القلب، فهو ملكها وسيدها، وهى بمثابة جنوده وأتباعه، فإذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت.
طلب العلم الشرعي، وهو العلم الذى يؤدى تحصيله إلى خشية الله تعالى، وزيادة الإيمان به عز وجل كما قال الله تعالى :{إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [ فاطر : 28].
الاستكثار من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها، وهذا من أعظم أسباب العلاج وهو أمر عظيم وأثره فى تقوية الإيمان ظاهر.
- المسارعة إلى الخيرات، والاستمرار عليها، والاجتهاد فيها، والاطلاع على حال السلف فى تحقيق صفات العابدين مما يبعث على الإعجاب ويقود إلى الاقتداء، واستدراك ما فات منها، ورجاء القبول مع الخوف من عدم القبول.
تنويع العبادات؛ من رحمة الله وحكمته أن نوع علينا العبادات، فمنها ما يكون بالبدن كالصلاة، ومنها ما يكون بالمال كالزكاة، ومنها ما يكون بهما معـًا كالحج، ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء، وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة، والفرائض تتنوع، وكذلك السنن.
الخوف من سوء الخاتمة؛ لأنه يدفع المسلم إلى الطاعة ويجدد الإيمان فى القلب.
الإكثار من ذكر الموت، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم « أكثروا من ذكر هادم اللذات يعنى الموت».
مناجاة الله تعالى والانكسار بين يديه عز وجل، وكلما كان العبد أكثر ذلة وخضوعًا كان إلى الله أقرب، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء».
- تعظيم حرمات الله، يقول الله تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [ الحج : 32].
الولاء والبراء، موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين المحاربين، وذلك أن القلب إذا تعلق بأعداء الله يضعف جدًّا وتذوى معانى العقيدة فيه، فإذا جرد الولاء لله فوالى عباد الله المؤمنين وناصرهم، وعادى أعداء الله ومقتهم، فإنه يحيى بالإيمان.
هناك مقامات ينبغى على العبد الوصول إليها لاستكمال استقامته والإبانة إليه، والاعتصام بالكتاب والسنة، والخشوع، والزهد، والورع، والمراقبة.
و لا ننسى محاسبة النفس ودورها فى تجديد الإيمان، يقول الله تعالى:{وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [ الحشر : 18].
الفصل الثاني، من فيض الإيمان .
إن أفضل ما يأخذه الإنسان فى هذه الحياة، هو عطاء الإيمان، كما ورد فى الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام يقول: « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِى الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِى الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّه». ويقول تعالى {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام : 44] أى: آيسون بعيدون عن رحمة الله عز وجل: «إن الله تعالى يعطى الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطى الإيمان إلا لمن أحب» فمن أعطاه الله الإيمان فقد أحبه، وإن أهل الإيمان يبحثون عن مواضع الإيمان ويبتعدون عن السوء وأهله، لأن من يفعل المعاصى ويقترب منها يكن أشبه حالًا بالطيور الجارحة؛ التى لا تقع إلا على الجيف، وتترك الشيء الطيب المباح الجميل، وتبحث عنها فى القاذورات؛ والإنسان عندما يجترح السيئات يهون على خالقه:{وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [ الحج : 18] وهذا هو السلب بعد العطاء، أى أن الإنسان يُسلب منه الإيمان بعد أن ذاقه، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا} [ الأعراف : 175] - يعني- إذا أقامك الله تعالى على طاعة تطلع إلى المزيد من الطاعات، ولا تستكثر الطاعة على نفسك لأن الله تعالى قد اختارك لها، ولا تعجب بنفسك، فإن أخطر ما بهذه الدنيا العجب بالطاعة، لك أن تفرح بالطاعة، لكن أن تعجب بها؟ تتباهى بها؟ كأن تقول: أنا أفضل! أنا أحسن! أنا! أنا! هذا لا يصح.
والإيمان بالله تعالى على مراتب ثلاث:
الأولى: وهى مرتبة تخليص الجوارح من المعاصي، وهى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} [ التغابن : 16] يعنى احذر أن تقع الأيدى فى المعصية، وأن يقع اللسان فى البهتان، وأن تمتد العين إلى حرام.
والمرتبة الثانية: وهى مرتبة حفظ القلب { وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ (197)} [ البقرة] أي: احفظوا قلوبكم لأجلي، واحفظوا قلوبكم من عدم العجب.
المرتبة الثالثة: {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [ الأنفال : 4] ولأجل هذا يظل المسلم دائمًا فى حالة رغبة وطموح.
الفصل الثالث تلقيح الإيمان وتقويته.
* تلقيح الإيمان وتقويته برسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما يستمع الإنسان للأذان، فإن المكان كله يتعطر بالإيمان وبطاعة الله عز وجل، وعليك أخى المسلم أن تستجيب للنداء وللصلاة، وعندما تمسك بالسواك لتستاك به وتطهر به فمك ولسانك وبدنك كله وقلبك، هذا تلقيح من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالكل لديه الجواهر واللآلئ والدرر، فلتبحثوا فيما لديكم عنها فإن لم تجدوا شيئًا، فهى كما قال ( أبو ذر الغفاري) رضى الله تعالى عنه “الأنفس”، هذا النَفسُ جوهرة، هذه الحياة أنفاس.
* تلقيح الإيمان بملائكة الرحمن، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمنا أن الملائكة يطوفون فى الطرقات يلتمسون مجالس العلم، ويبحثون عمن يُذَكِّر الناس بالله عز وجل وأفضاله، وإنعامه، فتنادى الملائكة بعضهم إلى بعض، ليجتمعوا من مشارق الأرض ومغاربها، من مصر والسعودية وإيران..إلخ، وهكذا فإن الكون كله يشرق بذكر الله تعالى، هلموا إلى حاجتكم “هنا مجلس علم”، هنا من يذكر الله تعالى فينتشر نور الله تعالى فى الأجواء الإيمانية، فعن أبى هُريرة، عن النبى - صلَّى الله عليه وسلم- قال: “ما اجتَمَعَ قَومٌ فى بَيتٍ مِن بُيوت الله يتلونَ كتابَ الله ويتدارسُونه بينهم، إلا نزلت عليهم السَّكِينة وغَشِيَتهُم الرَّحمَةُ، وحفَّتهم الملائكةُ، وذَكَرهُمُ اللهُ فيمَن عندَه”.
* تلقيح الإيمان بصوم رمضان.
إن الصوم باب عظيم من أبواب من أبواب تلقيح الإيمان؛ لأنه باب عظيم فى العفو عن السيئات، ورفع الدرجات؛ وهو باب التوبة، قال تعالى {وَالله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}[النساء ]؛ لأنه تعالى أراد أن يتوب علينا فجعل شعبان، وجعل رمضان وجعل الأيام البيض من شهر شوال:{وَالله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}؛ لأنه أراد أن يتوب علينا جعل ليلة القدر، وجعل الاعتكاف فى العشر الأواخر من رمضان،{وَالله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [ النساء : 27]؛ لأنه يريد أن يتوب عليكم جعل فم الصائم شريفًا فصار الصائم متشبهًا بالملائكة، صار فى حالة ملائكية.
الفصل الرابع تثبيت اليقين
إن أفضل يقين وُجِدَ فى الدنيا، هو يقين أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا فِى الدُّنْيَا خَيْرًا مِنْ الْيَقِينِ وَالْمُعَافَاةِ فَسَلُوهُمَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» أى أن اليقين كله موجود فى أمه الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو ما يساعد الإنسان على تحمل مصائب الحياة؛ لأن يقينه فى الله تعالى أن ما عند الله خير وأبقى :{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[ الضحى : 4- 5]. وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام، يوضح لنا كيف يكون تثبيت اليقين، كما وصفه الله عز وجل { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى (37) }[النجم]،{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ}[النحل: 120]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ}[ هود : 75].
ولهذا فإن اليقين حينما يتمكن من قلب المؤمن وتشتد أصوله لا يعدل بربه أحدًا، ولا يأبه بوعيد ما دون الله، وقد تجلى هذا الأمر كما رأينا عند الخليل إبراهيم عليه السلام، وفى موقف النبى صلى الله عليه وسلم، وفى مواقف أصحابه فى صبرهم على البلاء.
الفصل الخامس، الذكر من دلائل الإيمان:
قال الله تعالى{ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص]فالذكر غراس الجنة، وأنه يولد الطمأنينة، والسكينة فى قلب المؤمن، وأن الذاكرين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولن يجد المؤمن حلاوة الإيمان إلا بالذكر، وحلاوة الإيمان حقيقة معنوية يجعلها الله فى قلوب الصالحين من عباده.
قال الإمام النووى فى شرحه لمسلم، قال العلماء: معنى حلاوة الإيمان حب الطاعات، وتحمله المشاق فى رضى الله ورسوله، وإيثار ذلك على عرض الدنيا.
وفى الحديث “ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ورسولاً”.
والذى يريد أن يذوق طعم الإيمان يحافظ على الفرائض، ثم يكثر من النوافل والطاعات، كما فى الحديث «ما تقرب إلى عبدى بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به».
فإذا اتصف العبد بهذه الصفات، وتقرب إلى الله تعالى بالطاعات فلا شك أنه سيجد حلاوة الإيمان، كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم، ولذة الإيمان لا تشبه لذة الحرام، لأن لذة الإيمان لذة قلبية روحية، أما لذة الحرام فهى لذة شهوانية جسدية، ويعقبها من الآلام والحسرات أضعاف ما نال صاحبها من المتعة.
الفصل السادس: الخوف والخشية من دلائل الإيمان.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على تربية القلوب؛ لأن القلوب حياة، ولكن كيف يتربى هذا القلب؟ ونجد الإجابة فى قوله تعالى{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}[ لقمان : 15] فالأمر ليس فى مقدار التحصيل من العلم ولا حفظ المتون، أو الأساليب، بل كيفية تذوق حلاوة الإيمان، فالمؤمن يعيش حياته كلها بين الخوف والرجاء، وبين الأمل فى مغفرة الله والخوف من حساب الله، لا تهنأ له عين لكنه على ثقة من رحمة ربه، ولهذا فلذكر الله تعالى قوة بث الطمأنينة فى القلوب، فإذا حان أجل مغادرته الحياة فإن الله يُرَضِّيه، ولا يجمع عليه خوفين، خوفه وخشيته فى الدنيا وخشيته الحساب، بل تكون البشرى له { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{27} ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً{28} فَادْخُلِى فِى عِبَادِي{29} وَادْخُلِى جَنَّتِي{30}.[ الفجر]
والخوف من اللَّه هو الطريق الأمثل لنيل الجنة، ورضا اللَّه تعالى، وهو الطريق لإصلاح النفوس، ولهذا فالخائف من اللَّه تعالى لا يكذب ولا يغتاب، ولا يفعل ما يحرمه اللَّه تعالى، وعن عمر بن عبد العزيز قال: “مَن خاف الله، أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله، خاف من كل شيء”.
وقال إبراهيم التيمي: ينبغى لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار؛ لأن أهل الجنة قالوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر : 34]، وينبغى لمن لم يشفق أن يخاف ألا يكون من أهل الجنة؛ لأنهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26].
الفصل السابع أولئك لهم الأمن (الآمنون).
الآمنون هم: الآمنون فى الدنيا، والآمنون يوم القيامة، وهم صنف من عباد الله لا يفزعون عندما يفزع الناس، ولا يحزنون عندما يحزن الناس، أولئك هم أولياء الرحمن الذين آمنوا بالله، وعملوا بطاعة الله استعدادا لذلك اليوم؛ فيؤمنهم الله فى ذلك اليوم، وعندما يبعثون من القـبور تستقبلهم ملائكة الرحمن تهدئ من روعهم، وتطمئن قلوبهم والفزع الأكبر، هو ما يصيب العباد عندما يبعثون من القبور، وهؤلاء هم من ينادى الرحمن عليهم {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ{101} لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ{102} لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ{103} [ الأنبياء]، وهولاء من يقول الله تعالى لهم {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ }[الزخرف: 68] . وهذا الأمن الذى يشمل الله به عباده الأتقياء، أن قلوبهم كانت فى الدنيا عامرة بمخافة الله تعالى.
وفى ختام هذه الرحلة الإيمانية التى ما استطعنا أن نقطف من ثمارها إلا القليل فقط، وأن نلقى الضوء على بعض الجوانب الإيمانية فيه وليس الكل مما عشناه فى رحاب الإيمان وحبه وعلاماته وتجديده، نخلص إلى العديد من العناصر التى تعد بمثابة ومضات إيمانية، ومن هذه العناصر:
* إن للإيمان أركانًا عدة يقوم عليها، والركن الأساسى الذى تُبنى عليه بقية الأركان هو الإيمان بالله تعالى الإيمان به ربًّا وخالقـًا، والإيمان به حكيمًا ومدبرًا ومنظمًا لهذا الكون ومهيمنًا عليه قال تعالى : {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام :13].
* وللإيمان بالله تعالى حلاوةٌ لا يتذوق طعمها إلا المؤمنون الصادقون الذين يتصفون بصفات تؤهلهم لذلك، وليس كل من ادعى الإيمان يجد هذه الحلاوة، وحلاوة الإيمان حقيقة معنوية يجعلها الله فى قلوب الصالحين من عباده.
* ومن مظاهر الإيمان المحبة بين الإخوان، ومن هنا ينبغى أن تكون العلاقة بين المسلم وأخيه المسلم قائمة على الحب فى الله تعالى.
* دائمًا ما نحتاج للتجديد الإيماني، ليس علمًا نقوله ولا قصصًا نرويها، ولكن حياة قلب نحياها ويقظة نفس لا تغفل عن طاعة الله عز وجل.
* كل شُعبة من شُعب الإيمان هى أن تُحب ما أحب الله تعالى، وأن تحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام.
* إن أعلى مرتبة فى حب الإيمان أن تصير إلى ما صيرك إليه ربك سبحانه وتعالى، فأقامك على مودته، ومودة ما ودّ سبحانه، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [ مريم : 96]
* تجديد الإيمان يعنى قوة الإيمان المنبعثة من قلب المسلم.
* النفوس المطمئنة لا تستريح إلا إلى ما يرضى الحق سبحانه وتعالى، والمسلم أبدًا فى حياته لا ينبغى له أن يشترط على الله تعالى؛ لأن هذا يخالف الرضا.
* إن أفضل عطاء يأخذه الإنسان فى هذه الحياة، هو عطاء الإيمان، كما ورد فى الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام يقول:« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِى الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِى الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّه.
* العمل الصالح يرفع صاحبه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أفضل تسبيح هو تسبيح الملائكة، إن الله تعالى علمهم أن يقولوا: سبحان الله وبحمده، فإذا سبحتم فقولوا مثلما تقول الملائكة، فإن تسبيحهم، وإن دعاءهم سبحان الله وبحمده، هذا دعاؤهم، وهذه حالتهم.
* من استعد بالأعمال الصالحة وهبه الله تعالى أنوارًا لهذه الأعمال، فالله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا قال تعالى: { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا } [ الإسراء : 20].
* اليقين فى أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذى يساعد الإنسان على تحمل مصائب الحياة؛ لأن يقينه فى الله تعالى أن ما عند الله خير وأبقى :{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}[ الضحى] .
* إذا كان قلب المؤمن مربوطًا بالله تعالى، وموصولاً به فإن الشيطان يصعق وعندما تشعر أن هناك مواقف صعبة عليك بذكر الله تعالى، وعليك بدعاء يونس عليه السلام {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}[ الأنبياء].
الإيمان بالله تعالى له حلاوةٌ لا يتذوق طعمها إلا المؤمنون الصادقون
قضايا الكتاب
حب الإيمان
من فيض الإيمان
تلقيح الإيمان
تثيت اليقين
الذكر من دلائل الإيمان
الخوف والخشية من دلائل الإيمان
من هم”الآمنون”؟
النفوس المطمئنة لا تستريح إلا إلى ما يرضى الحق سبحانه وتعالى
المسارعة إلى الخيرات وتعظيم حرمات الله واستشعار عظمة الخالق تعالج ضعف الإيمان وتزيل قسوة القلب
كتاب “دلائل الإيمان ”
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة