كتاب (أخلاقيات الحرب فى السيرة النبوية)

عرض كتاب
طبوغرافي

maxresdefault

لفضيلة الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

إن سيرة رسول الله   صلى الله عليه وسلم هى حياة رجل عظيم جعله الله تعالى أسوة حسنة، وجمع الله تعالى فى سيرته معانى التمام والكمال التى أشار إليها القرآن الكريم، وعلى مدى تاريخ البشرية كلها لم يجد الناس سيرة متكاملة لحياة حافلة بالعطاء، كل ما فيها مرسومة معللة للقاصى والدانى ومسطرة ومدونة إلا فى حياة سيدنا محمد   صلى الله عليه وسلم التى تجد لديه تميزًا فى كل معانى البشرية، وأخلاقها، وشمائلها، من حيث نشأته، وحياته الشخصية والبيتية.

ودراسة السيرة النبوية بعامة تعطينا فهمًا لشخصية الرسول   صلى الله عليه وسلم النبوية من خلال ظروفه وحياته التى عاش فيها تأكيداً لكونه بشراً يوحى إليه، ويؤيده ربه تأييدًا، كما تكسب المسلم المعارف اليقينية، والعلوم الشرعية فى العقيدة، والأحكام، والأخلاق، والمعاملات، وذلك من خلال تلمس القدوة المثالية والأسوة الحسنة.

ويجد المسلم النموذج الحى المتكامل للمعلم، والمربى، والقائد، والشاب المستقيم، والأب والزوج، ورجل الدولة، والمتعبد، والناصح، والموجه، والداعية إلى الله تعالى فى شخصية الرسول الكريم   صلى الله عليه وسلم.

ومعنا فى هذا العدد تلخيص لكتاب أخلاقيات الحرب فى السيرة النبوية، حيث نلقى الضوء على أخلاقيات سيد الخلق   صلى الله عليه وسلم فى غزوات الحربية، والسرايا، وظروفها، وما تحمله مواقفها، وأحداثها والتوترات التى تصاحبها والاستعداد الذى يسبقها، والنتائج التى تليها من دلالات، وإشارات وتشريعات، وأخلاق يعد باباً قوياً فى تلمس الحكمة، والقيادة، وتكامل الأخلاق عند سيدنا محمد   صلى الله عليه وسلم وتجسيدًا لجانب القدوة والمثل الكامل فى حياته، كما أن دراسة أخلاقه   صلى الله عليه وسلم فى الحروب يعكس جانباً عظيماً فى شخصيته وقيادته للأمة، وفكره العالى فى التعامل مع المستجدات من الأمور، وفهم نفسية العدو، وتقديم التسامح والعفو على الانتقام، والثأر من العدو، وهذا الفقه الصحيح عن أخلاقه فى الحروب يعد صورة مضيئة للأخلاق فى الإسلام، كيف ربى النبى   صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأتباعه على الرحمة، والعفو والكرم، والإيثار، والتثبت والعدل، والإنصاف، والحلم، والصبر، والتواضع، والتياسر، والتحمل مع الصفح، وهذا فى حد ذاته دفاع عنه   صلى الله عليه وسلم وعن سيرته، وعن سنته، وعن أمته مما يردده الحاقدون والمهاجمون للإسلام والمتهمون له بالعنف والقسوة والسيف والإرهاب، وهو كذلك رد على الشبهات والدعاوى والافتراءات، والاتهامات الموجهة إلى سنته وسيرته وحياته الشريفة.

فى ساعة العسرة تلمح جوانب اليقين مع قلة الماء وشدة العطش فترى التأييد الإلهى للنبى العظيم

وجاء الكتاب فى اثنى عشر فصلا تناول فيها :

عفو النبى الكريم ورحمتها   صلى الله عليه وسلم فى الحروب والغزوات

تبدو رحمته   صلى الله عليه وسلم واضحة يوم أحد بعد انتهاء المعركة حيث عفا عن هؤلاء الذين خالفوا أمره   صلى الله عليه وسلم واستغفر الله تعالى لهم، وهكذا يؤدى العفو إلى تجميع قلوب الناس، وتقوية عزيمة الأمة، كما كان من رحمته   صلى الله عليه وسلم يوم أحد أنه لم يستجب لما طلبه بعض أصحابه منه بالدعاء عليهم كما تقدم، وإنما كانت رحمته أقرب مما جعل الناس يدركون جوانب العظمة المحمدية.

وفى غزوة بنى النضير ظهرت أخلاق نبى المرحمة   صلى الله عليه وسلم فى قيادة الجيش من خلال هذه التعليمات الحربية الرحيمة التى قالها خليفة النبى   صلى الله عليه وسلم ( أبو بكر الصديق ) لقواد الجيش، وهى علامات رحمة فى عدم قتل النساء والصبيان والشيوخ، والحفاظ على البيئة والنعم. وقد تأسى الصديق عليه السلام بالنبى الكريم   صلى الله عليه وسلم فيما أوصى به .

وتظهر رحمته   صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ويوم الحديبية ويوم خيبر فى مواقف يتفرد فيها النبى ، ويكون لها تأثير عظيم فى تبليغ الرسالة، وتحقيق روح الإسلام. لقد كان ما أراده النبى  حتى تجلت رحمته قوية يوم فتح مكة ويوم حنين، ففى يوم حنين كانت هناك مواقف كثيرة استلزمت توجيها كريماً منه  لخالد بن الوليد رضى الله عنه وغيره.

شورى النبى الكريم وديمقراطيته مع الصحابة.

خلق الشورى جزء من شخصية النبى وقيادته الحربية؛ حيث لا يستأثر بالرأى، وإنما يعرض الأمر على أصحابه ويسمع صدى كلامهم وتعبيراتهم وفى ضوء هذا يتخذ قراره الحكيم كما حدث يوم بدر عندما رغب أن يستمع إلى رأى الأنصار ورأى المهاجرين، ورأينا أن النبى أخذ بمشورة الحباب بن المنذر رضى الله تعالى عنه فى الموضع الذى ينزل فيه يوم بدر ، ورأينا كيف شاورهم فى كل قضايا القتال يوم بدر، وهل يتقدم لملاقاتهم أم ينتظر قدومهم ثم كان التشاور حول الأسرى جزءًا من نهاية الأحداث فى الغزوة؛ حيث الفداء للأسرى بعد أخذٍ ورد طويلين بين أصحاب النبى   صلى الله عليه وسلم.

اخلاقيات الحرب 6

يتضح فى يوم أحد أن رسول الله ربى أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم فى الحروب حتى ولو خالفت رأيه، وهو يشاورهم فيما لا نص له، كى يهيأهم للقيادة، ومعالجة مشاكل الأمة وحرية إبداء الرأى لديهم، فإنهم سيكونون قادة الأمة فى المستقبل، وأما مشاورته الصحابة يوم الخندق فكانت مثالاً للفكر الإبداعى من أصحابه والموافقة العملية منه   صلى الله عليه وسلم، وكان للشورى الأثر العظيم فى إبطال خطة الأحزاب، وعودتهم خائبين مهزومين منكسى الرأس ولله الحمد على فرجه وعونه وتأييده.

وتظهر استشارته أصحابه يوم الحديبية عند ما بلغه خبر استعداد قريش لصده عن دخول البيت الحرام، وعرضه على أصحابه المشورة، واستحسانه رأى الصديق ما يشير إلى أن الشورى عندما توافق الوحى وحكم الله تعالى فيبغى النزول عليها، والأخذ بها، فإن فيها الخير بإذن الله تعالى، وهذا ما حدث بالفعل فى أحداث الحديبية، فى قدومه   صلى الله عليه وسلم، وجلوسه مع أصحابه فى انتظار ما تنتهى إليه المفاوضات، ثم بيعة الرضوان، ثم عودته   إلى المدينة، كان النبى القائد يحرص على الاستئناس برأى الصحابة، وحتى وإن بدا اختلاف فى الرأى فإن النبى يتقبل هذا ويستوعبه بعقله الكبير.

وانظر إلى صراحة منطقه، وميله إلى السلام والمهادنة عند المفاوضات مع رسل قريش؛ فقال جملة عظيمة تؤسس رؤيته الإيمانية فى الحرب والسلام:- والذى نفسى بيده لا يسألوننى خطة يعظمون فيها حرمات لله إلا أعطيتهم إياها.

وظهر رشد التفكير المحمدى ونضجه بصورة جلية فى غزوة تبوك، حيث قبل مشورة الفاروق ورأيه فى عدة مسائل أثناء المسير، ونزوله على أراء كبار الصحابة فى هذه المواقف الصعبة يشير إلى اتساع أفقه ورحابه صورة   صلى الله عليه وسلم، وفى ساعة العسرة مع طول المسير.

عدل النبى   صلى الله عليه وسلم فى الحرب

- يظهر عدله   صلى الله عليه وسلم فى حكمه، وقضائه فى قسمة الغنائم فى غزوة بنى قينقاع؛ فإن حكمه للفارس بثلاثة أسهم، وللراجل بسهم واحد، ما يشير إلى إعطائه المغانم والغنائم وفق جهد كل منهم، ثم يساوى فى العطاء عندما يتساوى الجميع فى الجهد، وهذه قسمة عادلة حقه طيبة منه ، تشعر الجميع بالأمان، والأمن، والسكينة، والرضا، والموافقة.

وعدله   صلى الله عليه وسلم يوم أحد فى المعاملة بالمثل مع عدم الاعتداء، وعدم تجاوز الحدود فى جميع الأحوال، ثم ما جعله الله تعالى أفضل من هذا وذلك بخلق العفو الذى يليق بأخلاق المسلمين من التحلى بالصبر مع العفو لهو توضيح لتأثير القرآن العظيم فى أخلاقه وأن الله تعالى جعله مثالاً لخلق القرآن العظيم.

- وعدله يوم الخندق، فى تقاسمه العمل مع أصحابه، وانخراطه معهم كواحد منهم، ما يشير إلى عدالة الشريعة الغراء فى المساواة بين الحاكم، والمحكوم، وتحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل دون حظوة أحد بامتيازات فئوية أو طبقية، وهو ما جعل هذه الشريعة توصف بأنها شريعة العدل والفضل.

- وانظر إلى عدله   صلى الله عليه وسلم فى قصة المرأة المخزومية يوم فتح مكة، والتى حسنت توبتها بعد إقامة الحد عليها، وكيف أن إقامة الحدود تحقيق للمفهوم الشامل للعدل فى الإسلام.

- ثم تجلى عدله قويًا يوم حنين فى قسمته العادلة؛ رغم ما أحدث هذا من غضب لدى الأنصار لكنه يوضح لهم ولغيرهم (والله إنى لا أعطى أحداً، ولا أمنعه، إنما أنا قاسم؛ أضع حيث أُمرت). ثم تجد القائد العادل سيدنا محمداً وهو يشرح، ويعلل للأنصار العلة من تفضيله أهل مكة، وذلك بأسلوب تربوى بديع؛ يعكس حرصه على رسالته وأنه يؤلف قلوب أهل مكة بالعطايا والغنائم؛ لأنهم حديثو عهد بالإسلام، ويدع الأنصار لإسلامهم وإيمانهم ثم يستمر فى التوضيح لهم بذكاء القائد، وعدله وروحه العالية:- أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير، وتعودون أنتم برسول الله   صلى الله عليه وسلم، وهكذا يتصرف القائد العظيم بحكمة، وشورى، وقوة، وتوجيه، وحجه، وإقناع.

شجاعة النبى الكريم   صلى الله عليه وسلم فى المواقف الحربية:

- تبدو شجاعته النادرة ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ يوم بدر عندما كان يتقدم أصحابه وكان من أشدهم بأساً، وكان فى مقدمة القوم وهذا المثل يوم بدر لم يختلف كثيراً عن بعض الغزوات فى “أحد” وذات الرقاع؛ حيث يتصدى النبى لمن أراد قتله وهو نائم بقلب ثابت وشجاعة فريدة، ثم تحول النبى إليه غير أنه ظهرت شجاعته ليس فى الانتقام، وإنما فى العفو.

- وأما شجاعته يوم الخندق، ويوم حنين، فهى مضرب الأمثال؛ حيث كانت له معجزة دالة على عظمته يوم الخندق، وأما يوم حنين فإن النبى تفلت الناس عنه، وهو واقف كالجبل الأشم وانظر إلى حال قلوب الناس، فهذا أبو سفيان الذى كان عدواً لدوداً ويسعى إلى قتال النبى العظيم وأصحابه ويسعى الصحابة إلى قتله كذلك، انظر إلى يوم حنين كيف ثبت سفيان بن الحارث رضى الله عنه بجوار النبى : والنبى يسأله من أنت؟، فقال أخوك فداك أبى وأمى، أبو سفيان بن الحارث، فقال   صلى الله عليه وسلم: نعم أخى، فانظر كيف أن المواقف تصنع قلوب الرجال، وتكشف عن بأسهم وثباتهم، وها هو رسول الله هو الشجاع الثابت، هو النبى لا كذب هو ابن عبد المطلب، ولديه من شدّة البطش مالا يدانيه أحد ولديه من النجدة والجود والشجاعة مالا يبلغه أحد إلا رسول الله   صلى الله عليه وسلم. هكذا نجد أخلاق القائد العظيم التى لا يتفاضل فيها خلق عن آخر، وإنما نجد تمازجاً فى أخلاقه وفقاً للمواقف التى يعرض لها، وقد رأينا من شجاعته ما يشير إلى رباطة جأشه وثبات قلبه، ومواجهته الصعاب بيقين بربه العظيم.

- وأما فى يوم حنين فليس خافيا على كل ذى عقل، كيف أن النبى كسب أرضًا طيبة بحلمه قبل الغزوة، وأثناء الغزوة وبعد الغزوة مما أثمر عن دخول الكثيرين فى الإسلام، عندما شاهدوا رسول الله وهو يكال له بالكلمات الصعبة التى فيها اتهام له بعدم العدل، وأنه ما أراد وجه الله تعالى فى قسمته؛ رغم هذا فإنه يرد بأدب شديد ورفق ولين، ويقول : ومن يعدل إذا لم أعدل؟.

حلم الرسول الكريم ورفقه فى الحروب   صلى الله عليه وسلم.

- حلمه ورفقه   صلى الله عليه وسلم يوم أحد “ مع أصحابه بعد ما أصاب قلوبهم من القرح والمعاناة، وآلام الانكسار، وكذلك ما أصابه هو، ثم يجدونه صلوات الله وسلامه عليه يخفف عنهم أحزانهم، ويطيب خاطرهم، ويزيدهم ثباتًا، وهذا القدر من التأييد منه لهم يعكس لك أنه رغم الهزيمة المفاجئة فى “احد” فإنه يرتضى بأمر ربه، ويعلم أن كل شئ بقدر؛ ولذا فإنه حليم رفيق، حتى مع هؤلاء الذين خالفوا تعليماته   صلى الله عليه وسلم.

-وفى غزوة الخندق ـ نجد ثبات أعصاب القائد العظيم، وقد حوصرت مدينته ومع هذا فإنه لا ينكسر ولا ينفعل، وإنما يحلم ويترفق، ويبث الأمل ويشد العزائم، ويرفع المعنويات، وهو يقول: أبشروا بفتح الله ونصره.

- وأما غزوة بنى المصطلق (المريسيع) وهى التى جرت فيها حادثة الإفك، فلك أن تتحدث ولا حرج عن حلمه مع هؤلاء المنافقين الذين آذوا رسول الله فى زوجته، وهو مترفق بها لا يتوجه إليها بحديث، منتظرًا الحكم من الله تعالى ، ثم تجد تكامل حلمه، وكريم رأفته، مع كبير المنافقين وهو عبد الله بن أبى سلول الذى قال فى شأنه النبى بعد كل ما حدث: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقى معنا.

- وأما حلمه الكبير يوم “الحديبية” فذلك مضرب الأمثال، فانظر كيف يتطاول عليه المفاوضون الذين يأتون من الكفار، حتى كان عروة بن مسعود يمسك بلحيته والنبى صابر ثابت كاظم غيظه، لا يقول ولا يفعل شيئًا. ثم يظهر لك حلمه الكبير فى محاورته المعروفة مع الفاروق “عمر” رضى الله عنه وكيف أنه تحمل غضب الفاروق رضى الله عنه، وما رد عليه بشيء يخرجه عن طوره وتماسكه وحلمه، تلكم هى أخلاقه فى الحرب التى تعكس عظمته   صلى الله عليه وسلم.

تواضع   صلى الله عليه وسلم فى قيادته الحربية:

- فى غزوة ذات الرقاع رأينا مدى تفهمه لظروف أصحابه، والتواضع معهم، فانظر كيف استشعر مشكلة جمل جابر بن عبد الله رضى الله عنه، وكيف أن جمله ضعيف، وكيف أنه رفع من روحه، وجبر خاطره، وأعطاه دفعة معنوية حتى لحق بركب الحبيب صلى الله عليه وسلم.

- وتواضعه يوم الخندق وعدم تكبره على أصحابه فى الحفر، ثم تواضعه لربه عز وجل وهو داخل مكة فاتحاً خاشعاً معظماً حرمة البيت العتيق وهذه من دلالات النبوة، وصدق أخلاقه الشريفة   صلى الله عليه وسلم، وبيان أن تواضعه أتى بآثار عظيمة فى تحبيب أصحابه فى الإسلام وفى شخصه الكريم خاصة عندما يكون هذا فى تحبيب بعض الناس فى الدخول فى الإسلام كما حدث مع والد أبى بكر الصديق رضى الله عنه وكيف أن تواضعه وترفقه ولينه جعله ينشرح صدره للإسلام، فأسلم طواعية لله رب العلمين، ببركة أخلاقه

كرم الرسول العظيم فى مواقفه الحربية:

- يبدو كرمه ممتزجاً برحمته يوم بدر فيما فعله مع الأسرى؛ حيث أوصى أصحابه الكرام رضوان الله عليهم بهم خيراً، وقد استجاب الصحابة بطواعية له فقال أحد هؤلاء الذين انتفعوا بهذا الكرم وهو أبو عزيز، كانوا إذا قدموا غذاءهم أو عشاءهم خصونى بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله   صلى الله عليه وسلم. فانظر كيف أن رحمته فى الحروب انتقلت إلى أخلاقيات أصحابه الكرام رضوان الله عليهم.

-وأما كرمه يوم الفتح فهو ما نطق به الأعداء من الكفار، فقالوا: عنه أخ كريم وابن أخ كريم، فوصفوه بالكرم؛ لما رأوه من سماحة نفسه   صلى الله عليه وسلم، وأنهم توقعوا منه الأذى والانتقام، ولكنه بادرهم بالكرم وعلى آله وصحبه، وأما أثر هذا الكرم المحمدى على نفوس أهل مكة، قد ظهر واضحاً فيما أثبتناه من تحولات قلبية لديهم، جعلت نظرتهم إلى الإسلام وإلى نبى الإسلام تتغير، فشرحت صدورهم للإسلام ولرسول السلام   صلى الله عليه وسلم.

-وأما عن أثر كرمه يوم حنين فإن ما فعله النبى معهم ومع الأسرى منهم ومع الأنصار الذين كان لهم موقف من توزيع الغنائم لهو تتويج لكرمه حتى قال صفوان ابن أمية رضى الله عنه كلامًا يعكس أثر الكرم المحمدى فى توجيه القلوب، فقال صفوان، أعطانى رسول الله يوم حنين، وإنه لأبغض الخلق إلىّ فمازال يعطينى حتى أنه لأحب الخلق إلىّ.

- وأما كرمه وهو فى طريقة إلى الجعرانة كى يحرم لأداء عمرة، وفى تقسيمه الغنائم فإنك تلاحظ مدى كرمه فى جبر قلوب الناس الذين حوله   صلى الله عليه وسلم، وأنه يعفو عن الكافر كى يعطيه فرصة؛ لكى يتوب هذا ما فعله مع مالك بن عوف الذى قال عنه   صلى الله عليه وسلم: أخبروه أنه إذا أتانى مسلمًا رددت عليه أهله وماله.

وكان لكلامه الأثر العظيم فى هذا التحول لدى هذا الرجل الذى أسلم وحسن إسلامه ورد إليه النبى أهله وماله ومائة بعير، وعبر هذا الرجل عن امتنانه بكرمه   صلى الله عليه وسلم، وأنه أوفى وأعطى للجزيل، وأنه يعطى حتى يرى علامات الرضا فيمن يأخذ فإذا ما استشعر القناعة فى عينيه عندئذ فقد شبع الآخر خيراً، وهذا مؤشر على جمعه بين الفطنة الشديدة، وبين الكرم والجود خاصة فى تأليفه القلوب وأثر هذا على الرسالة. ومن هنا دخل الناس فى دين الله أفواجاً.

الرسول الكريم شخصية قيادية فى الحروب والغزوات

- تبدو لنا شخصية القائد فى حرصه على أصحابه وعلى مستقبل رسالته فعندما خالف بعض الصحابة تنفيذ ما طُلب منهم، وما أدى إليه هذا الأمر من نتائج سلبية فى سير المعركة فإن النبى العظيم يتعامل مع الموقف بقلب حاضر، يستوعب كل مفاجأة غير متوقعة ويعلمهم القرآن بعد هذا درساً قوياً فى الاستجابة لسيدنا رسول الله  وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ  (آل عمران: 153).

- وقيادته يوم الخندق درس عظيم حكمته فى إدارة المعركة ، وكيف تعامل مع هؤلاء الذين نقضوا عهدهم بعد انكشاف الأحزاب، وهم بنو قريظة الذين نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضى الله عنه فيهم، وهو الحكم الذى وافق حكم الله تعالى جل جلاله من فوق سبع سماوات، وتجلت صفة القيادة عند سيدنا محمد   صلى الله عليه وسلم فى تعامله مع أطراف حادثة الإفك وغزوة بنى المصطلق دون أن يدخل نفسه طرفًا فى أحداث هذه الفتنة العارضة التى حسمها القرآن العظيم فى سورة النور.

- وقيادته فى الحديبية فهى قيادة جامعة لكل الأخلاق المحمدية التى كشفت عن سعة أفقه وروعة تفكيره واتساع رؤيته   صلى الله عليه وسلم، وإن بدا لبعض الصحابة أن ثمة تنازلا منه فى بداية الأمر فلما علموا أنه الفتح رضوا وأيقنوا بكمال بصيرته   صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن التنازل عن ضعف وإنما كان عن قراءة جيدة للمستقبل فقد تأكد من هذا الصلح مدى الرعب والخوف الشديد لدى قريش وأن الإسلام الآن آخذ فى الصعود، ودخل فى الإسلام خلق عظيم بعد الحديبية ومنهم عمرو بن العاص ، خالد بن الوليد ، عثمان بن طلحة رضى الله عنهم حتى قال النبى فرحاً بنصر الله وبوعد الله له إن مكة قد ألقت إلينا بأفلاذ أكبادها.

-وفى غزوة خيبر يبدو لك جليا أن النبى بقيادته ورؤيته وحكمته اعتمد على عنصرى المفاجأة والمداهمة؛ حيث لم يستطع يهود خيبر أن يجمعوا قوتهم، وحيل بينهم وبين الخروج من حصونهم.

-وقيادته الحكيمة فى فتح مكة وكيف أنه غضب على سعد بن عباده رضى الله عنه وهو يقول اليوم يوم الملحمة – اليوم تستحل الحرمات . وإذا بالقائد   يقول شيئاً مغايرا تماماً ويقول اليوم يوم الرحمة، اليوم تعظم الحرمات، وهكذا استطاع النبى   صلى الله عليه وسلم أن ينزع الشماتة والانتقام والتشفى من قلوب الفاتحين.

- وقيادته يوم تبوك يستدل منها أن النبى تعامل مع المنافقين والمتخلفين بصورة تعكس فهمه لشخصيتهم، وعندما تقدم المسير إلى بلاد الروم فإذا به وقد نصره الله بالرعب تعالى مسيرة شهر، ورغم هذا فإنه يستشير أصحابه رضى الله عنهم ويرجع إليهم ويناقشهم وكان من سمات الزعامة النبوية أنه أراد أن يجمع قلوب الصحابة بعد استقرارهم فى تبوك فخطب خطبة عظيمة جامعة جمع فيها قلوبهم على ما هم مقبلون عليه.

ثقة الرسول الكريم بربه عز وجل:

- فى يوم بدر رغم شدة الموقف غير أن رسول الله كان واثقاً من تأييد الله له. وكان يبشر أصحابه بتأييد الملائكة وهو يعاين هذا التنزل الملائكى (أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل عليه السلام آخذ بعنان فرسه يقوده وعلى ثناياه النقع). وقد رأينا فى الغزوة مع ما حدث مع عكاشة بن محصن رضى الله عنه عندما انكسر سيفه أثناء المعركة، فظهر يقينه لربه جليا عندما أمسك بالعود (الجزل) فصار سيفاً بإذن الله تعالى، ولا يتأتى هذا إلا من تمام ثقته بربه وهذا له أثر عظيم فى إنجاح المعركة وتحقيق النصر المبين.

- ويقينه بربه   صلى الله عليه وسلم يوم أحد فإنه يتمثل فى حسن لجوئه إلى ربه عز وجل، وما كان من تمحيص بعد هذا فذلك كى يزداد المسلمون وثوقًا بملاذ الله تعالى وعونه، ورغم كون يوم أحد من أيام الشدائد فى حياة النبى العظيم وأصحابه لكنه لم يتكرر بعد هذا فى تاريخ الإسلام، وأخذ الإسلام يعلو ويعلو، وينطلق، وينتشر، وتزداد رفعته بعد العام الثالث الذى شهد أُحدًا؛ حيث توالت الفتوحات والسرايا بعد ذلك. - وفى يوم الخندق بعد ذهاب أثر الكفار، وما حل بهم قال النبى العظيم   صلى الله عليه وسلم كلمة معبرة عن انتهاء عهد الغزوات والهجمات التى كانت تقودها قريش وأتباعها، فبعد العام الخامس لم يأتوا مكة محاربين وقال (الآن نغزوهم ولا يغزوننا). وقد تحقق هذا فعلاً أضف إلى ما تقدم أن النبى العظيم كان يمسك بالمعول ويكسر الصخرة، وفى يده اليقين الذى أسفرت عنه نبوءاته بفتح اليمن ـ الشام ـ المغرب فضلا عن الفرس والروم بإذن الله تعالى.0 - ويوم الحديبية فإن رسول الله   صلى الله عليه وسلم تعلم منه الصحابة مدى يقينه بنصر ربه سبحانه وتعالى جل جلاله فوق عرشه العظيم، ثم تأكد هذا لهم عندما طيب خاطر أبى جندل رضى الله عنه، وصبّره بأن الله تعالى جاعل له ولمن معه من المستضعفين مخرجاً، وبالفعل فإن صلح الحديبية أعطى المسلمين فرصة كبيرة لنشر الدعوة الإسلامية وتبليغها دون أن تكون هناك عوائق تمنع نشر هذا الدين العظيم.

- وفى يوم خيبر يبدو لك جليا أن رسول الله يعالج ما أصاب الإمام عليا رضى الله عنه من وجع فى عينه، فكان أن بصق فيها النبى صلى الله عليه وسلم، ودعا له فبرأ، ومن دلالات هذا الموقف أن النبى واثق من إحداث الشفاء بإذن الله تعالى للإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه، وفى الوقت نفسه، فإن الصحابة رضوان الله عليهم يستمدون الثقة منه ليس فقط فى شفاء عين الإمام على رضى الله عنه، وإنما أيضا فى أن النصر أتى على يد الإمام على رضى الله عنه، وهو الذى اختاره النبى وسلمه الراية، وهنا يدرك القارئ للسيرة النبوية الشريفة مدى قدرة النبى الكريم على توجيه المعركة، والتعامل مع الأحداث بيقين عظيم فى الله عز وجل.

- وفى باقى أحداث السيرة العطرة فى غزواته الشريفة نتبين أن فتح مكة قد تم بفضل من الله تعالى وبصدق رؤيته وسابق فطنته وحسن يقينه ثم يحدثك النبى بما سيحدث فتزداد حبًا له ووثوقًا به   صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبر بصفة الخوارج قبل ظهورهم، وهم الذين يخرجون من صلب ذى الخويصرة، وهذا تصديق لنبوءاته   صلى الله عليه وسلم.

- وفى غزوة تبوك، لك أن تزداد شوقًا إلى النبى فبينما هو فى ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، وعندئذ تلمح جوانب اليقين فى رحلة الصعاب وقد قل الماء، وجف الضرع. وانظر إلى الصديق رضى الله عنه وهو واثق من مكانة رسول الله عند ربه ويطلب إلى النبى الدعاء العاجل، فيرفع الرسول الكريم يديه، حتى جاء الفرج، ونزل المطر سخياً سقاءً، وغياثًا، وفيضًا، وريا، واستجاب الله له فكان هذا تأييداً من الله له، فارتفعت معنويات الصحابة، فأكملوا المسير حتى بلغ النبى غايته ومقصده.

تضرعه وافتقاره إلى ربه عز وجل:

- يعلمنا النبى أنه كلما اشتدت الأزمات والصعاب فإن العون يأتى من الله عز وجل فانظر إليه يوم أحد وهو يهتف بربه عز وجل ، رافعاً يديه إلى السماء يعلمنا كيف نتضرع “ اللهم أنجز لى ما وعدتنى، اللهم نصرك”، ويكررها كثيراً كلما اشتدت المعركة، ولم تكن كأى معركة؛ إنها معركة فاصلة فى بداية العهد المدنى فقادها النبى بقلبه وبنفسه؛ عندئذ فإن النصر مكافأة على الصبر والتضرع والإخلاص فى الدعاء، وهذا درس عظيم نتعلم منه كيف يستطيع المسلم أن يستغيث بربه سبحانه، ثم إذا دعا ربه سبحانه وتعالى بقلب حاضر مع وجود الأسباب تأتى الاستجابة قوية من الله العظيم.

- ولعل الجديد فى هذه الغزوة (الأحزاب) أن النبى استخدم الدعاء الجماعى فقال لهم: قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وهذا نوع من بث الثقة فى نفوس أصحابه (رضى الله عنهم) كما حدث وهو فى طريقه   إلى الحديبية ، عندما اشتد الموقف على أصحابه الكرام فقال لهم: قولوا: [نستغفر الله ، ونتوب إليه] فأحدث هذا سكينةً وطمأنينة فى قلوب أصحابه الكرام. - وفى يوم خيبر كان تكبيره وهو يتضرع إلى الله تعالى قبل قدومه إلى خيبر مستجيرًا لرب السماوات ورب الأراضين ورب الشياطين ورب الرياح، وسائلاً ربه تعالى خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها.

- ودعاء رسول الله ربه، واعتماده عليه وحده سبحانه لا يتناقض أبدًا مع التماس الأسباب البشرية للنصر فقد تعامل فى الغزوات مع الأخذ بالأسباب، فبذل جهده لتحقيق النصر وفك الحصار وغير ذلك، وإن رسول الله يعلمنا كيف نأخذ بالأسباب مع ضرورة الالتجاء إلى الله والإكثار من الإقبال عليه بالدعاء والاستغاثة، فقد كان الدعاء والتضرع إلى الله تعالى من الأعمال المتكررة الدائمة التى فزع إليها رسول الله فى حياته كلها وفى غزواته   صلى الله عليه وسلم.

قضايا الكتاب

 

الفصل الأول عفوه   صلى الله عليه وسلم فى الغزوات والسرايا

 

الفصل الثاني: رحمته فى الغزوات والسرايا

 

الفصل الثالث: الشورى فى غزواته وسراياه

 

الفصل الرابع: العدل فى قيادته الحربية

 

الفصل الخامس: شجاعته فى المواقف الحربية

 

الفصل السادس: الحلم والرفق فى غزواته وسراياه

 

الفصل السابع: تواضعه فى قيادته الحربية

 

الفصل الثامن: نماذج من كرمه بعد الغزوات والسرايا

 

الفصل التاسع: الشخصية القيادية له

فى مغازيه الشريفة

 

الفصل العاشر: ثقة الرسول الكريم

بربه عزّ وجل فى مغازيه الشريفة

 

الفصل الحادى عشر: الأخلاق الكاملة للرسول

فى الغزوات والحروب التى تعكس تفرد شخصيته الحربية.

 

الفصل الثانى عشر: تضرعه وبيان افتقاره

فى الغزوات (الرسول المتضرع).

لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا وَلَا طِفْلًا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً وَلَا تَغُلُّوا وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

سيرة النبى الكريم صورة مضيئة للأخلاق الإسلامية فى الرحمة والعفو والكرم والعدل والإنصاف والحلم