الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
العبادة والاستعانة
قال – تعالى - : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة : 5 ]
العبادة هى كمال الطاعة والانقياد لأوامر الله والانتهاء عن زواجره ، والوقوف عند حدوده ، وقبول جميع ما ورد عنه على لسان نبيه دون رد شيء من ذلك أو إلحادٍ فيه .وقد لخص العلماء تعريف العبادة بقولهم: كل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة، فمثال الأفعال الظاهرة الصلاة، ومثال الأقوال الظاهرة التسبيح، ومثال الأقوال والأفعال الباطنة الإيمان بالله وخشيته والتوكل عليه، والحب والبغض في الله.
وأصل معنى العبادة مأخوذ من الذل، يقال: طريق معبّدٌ إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، غير أن العبادة في الشرع لا تقتصر على معنى الذل فقط، بل تشمل معنى الحب أيضًا، فهي تتضمن غاية الذل لله وغاية المحبة له، فيجب أن يكون الله أحبَّ إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله عنده أعظم من كل شيء .
فالعبادة اسم جامع لكل أنواع الخير التي أمر الله تعالى بها واجتناب كل النواهي التي نهى الله عنها قال – تعالى - : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } [ النساء : 36].
وتنبع أهمية العبادة من كونها الغاية التي خلق الله الخلق لأجلها، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] ولأجل تحقيق هذه الغاية واقعا في حياة الناس بعث اللهُ الرسل، قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل:36] وقال تعالى{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له)) ) رواه أحمد) .
وبالعبادة وصف الله ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى: {وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} [الأنبياء: 19].
وذم المستكبرين عنها بقوله: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [الأنبياء: 19] ونعت أهل جنته بالعبودية له، فقال سبحانه {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} [الإنسان:6] ونعت نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالعبودية له في أكمل أحواله، فقال في الإسراء {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } [الإسراء:1 ] ، وقال في مقام الإيحاء {فأوحى إلى عبده ما أوحى } [النجم:10] وقال في مقام الدعوة {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} [الجن:19] وقال في التحدي { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله } [البقرة:23] فالدين كله داخل في العبادة وهي أشرف المقامات وأعلاها وبها نجاة العبد ورفعته في الدنيا والآخرة.
إن التذلل والخشوع في العبادة ناشئ عن حب وتعظيم ، فمن خضع لأحد مع بغضه له لا يكون عابداً له ، ومن أحبه ولم يخضع له بالقبول والانقياد لم يكن عابداً له أيضاً – كمحبة الإنسان لوالده أو صديقه ، إذ لا بد أن يقترن الحب بالتعظيم ليحصل الخضوع والانقياد ، فلو حصلا بسبب الخوف والإرهاب لا يكون عبادة ، ومن هنا وجبت محبة الله ورسوله وتعظيمهما وتقديم محبتهما على كل شيء .
ويشهد لذلك حديث عدي بن حاتم المشهور فى الصحاح والمسانيد حيث نص الرسول – صلى الله عليه وسلم - أن موافقة النصارى لأحبارهم ورهبانهم فيما يشرعونه عبادة لهم ، وإن كانوا لا يحسبونه ولا يعتقدونه عبادة . والله سبحانه يقول : {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} .ولباب العبودية الحب في الله ، والبغض في الله ، والمولاة في الله والمعاداة فيه فلا تجوز محبة شخص إلا في ذات الله .
وروح العبودية التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، ومن مقتضياتهما الأمر بالمعروف . والنهي عن المنكر .
وعلى عابد الرحمن أن يعرف نفسه حق المعرفة وأن يعرف دوره وواجبه في هذه الحياة ، فلا يعيش في مجتمعه مقلداً ومسايراً ، ولا تابعاً مسالماً ، بل يكون قائداً آمراً وناهياً ، يفرض عقيدته ومبدأه حيث حل .
أهمية الاستعانة بالله في حياة المؤمن
إن المؤمن الذي يريد أن يرتقي في أشرف منازل الآخرة ، لا يستطيع أن يرتقي إلا بعد عون الله وتوفيقه له ، والمصلي كل يوم يقول في صلاته {إياك نعبد وإياك نستعين}
إن الاستعانة ضرورية ومهمة في حياة المؤمن، ولن يستطيع أن ينجز شيئا من أعماله الدينية أو الدنيوية إلا بعد توفيق الله وإعانته وتسهيله وتيسيره له .متى تكون العبادة عبادة ؟
تكون العبادة عبادة ، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله ، فبهذين الأمرين تكون عبادة .- وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى.
فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
- وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق ؛ فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ، ودفع مضارّه ، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل .- فمن أعانه الله ، فهو المُعانُ ، ومن خذله فهو المخذولُ ، وهذا تحقيقُ معنى قول : ( لا حول ولا قوة إلا بالله(، فإن المعنى : لا تحول للعبد من حال إلى حال ، ولا قوة له على ذلك إلا بالله ، وهذه كلمة عظيمة ، وهي كنز من كنوز الجنة .
- فالعبدُ محتاج إلى الاستعانة بالله في : فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلِّها في الدنيا وعندَ الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل ، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه .
- قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((احرصْ على ما ينفعُكَ واستعن بالله ولا تعجزْ)).رواه مسلم
- ومن ترك الاستعانة بالله ، واستعان بغيرِه ، وكَلَهُ الله إلى من استعان به فصار مخذولاً .- كتب الحسن إلى عمر بن العزيز : لا تستعن بغير الله ، فيكِلَكَ الله إليه .
- ومن كلام بعض السلف: يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك، عجبتُ لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك ـأقسام الناس في العبادة والاستعانة
قال ابن القيم رحمه الله ، أقسام الناس في العبادة والاستعانة أربعة أقسام :
1-) أهل العبادة والاستعانة بالله .. فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ، ويوفقهم للقيام بها
2- من لا عبادة ولا استعانة .. وإن استعان به وسأله ، فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه .3-من له نوع عبادة بلا استعانة .. فحظه ناقص من التوكل والاستعانة به . ولهم من الخذلان والضعف والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم .
4- من عنده استعانة بلا عبادة .. وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر ، ولم يسير و يوافق ما يحبه الله ويرضاه ، فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته ، وأغراضه وطلبها منه سواء كانت أموالا أو رئاسات .. ولكن لا عاقبة له . اهـ
فاللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك، لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا.بعض أسرار تقديم العبادة على الاستعانة في قوله تعالى :
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ * وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
قال ابن القيم _رحمه الله تعالى_:” وَتَقْدِيمُ ( الْعِبَادَةِ ) عَلَى ( الِاسْتِعَانَةِ ) فِي الْفَاتِحَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْغَايَاتِ عَلَى الْوَسَائِلِ، إِذِ الْعِبَادَةُ غَايَةُ الْعِبَادِ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا، وَ الِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا،وَلِأَنَّ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. مُتَعَلِّقٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَاسْمِهِ_اللَّهِ_.{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاسْمِهِ_ الرَّبِّ _ فَقَدَّمَ : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. عَلَى : {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كَمَا قَدَّمَ اسْمَ_ اللَّهِ_عَلَى_ الرَّبِّ _ فِي أَوَّلِ الْسُورَةِ، وَلِأَنَّ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) قَسْمُ _ الرَّبِّ _ فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ، الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهِ، وَ( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَسْمُ الْعَبْدِ، فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الَّذِي لَهُ، وَهُوَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَلِأَنَّ _الْعِبَادَةَ_ الْمُطْلَقَةَ تَتَضَمَّنُ _الِاسْتِعَانَةُ_ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَكُلُّ عَابِدٍ لِلَّهِ عُبُودِيَّةً تَامَّةً مُسْتَعِينٌ بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَغْرَاضِ وَالشَّهَوَاتِ قَدْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى شَهَوَاتِهِ، فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، وَلِهَذَا كَانَتْ قَسْمَ الرَّبِّ.
وَلِأَنَّ _ الِاسْتِعَانَةَ _ جُزْءٌ مِنِ_الْعِبَادَةِ _ مِنْ غَيْرٍ عَكْسٍ، وَلِأَنَّ _ الِاسْتِعَانَةَ _ طَلَبٌ مِنْهُ، وَ الْعِبَادَةَ _طَلَبٌ لَهُ.
وَلِأَنَّ _ الْعِبَادَةَ _ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُخْلِصٍ، وَ _الِاسْتِعَانَةَ _ تَكُونُ مِنْ مُخْلِصٍ وَمِنْ غَيْرِ مُخْلِصٍ.
وَلِأَنَّ _الْعِبَادَةَ _حَقُّهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ، وَ _ الِاسْتِعَانَةُ _ طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى _الْعِبَادَةِ_، وَهُوَ بَيَانُ صَدَقَتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكَ، وَأَدَاءُ حَقِّهِ أَهَمُّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِصَدَقَتِهِ.وَلِأَنَّ _ الْعِبَادَةَ _ شُكْرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَشْكُرَ، وَالْإِعَانَةُ فِعْلُهُ بِكَ وَتَوْفِيقُهُ لَكَ، فَإِذَا الْتَزَمْتَ عُبُودِيَّتَهُ، وَدَخَلْتَ تَحْتَ رِقِّهَا أَعَانَكَ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْتِزَامُهَا وَالدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّهَا سَبَبًا لِنَيْلِ الْإِعَانَةِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَتَمَّ عُبُودِيَّةً كَانَتِ الْإِعَانَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَعْظَمَ.
وقد قال شيخ الإسلام كلاما هاما بين به - رحمه الله وطيب ثراه - العلاقة بين العبادة والاستعانة فقال:
وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره؛ خضع له وذل وانقاد وأحبه من هذه الجهة، وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه كما يصيب كثيرا ممن يحب المال، أو يحب من يحصل له به العز والسلطان.وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا كان استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه ،كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله، فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه وإلا فلا.
فالأقسام ثلاثة :فقد يكون محبوبا غير مستعان ،وقد يكون مستعان غير محبوب ،وقد يجتمع فيه الأمران ،فإذا علم أن العبد لا بد له في كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه، وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته؛ وتبين أن قوله : (إياك نعبد وإياك نستعين) كلام جامع محيط لا يخرج عنه شيء.
فصارت الأقسام أربعة :
*إما أن يعبد غير الله و يستعينه وإن كان مسلما (العبادة و الاستعانة اللتين لا تصلان إلى حد الشرك الأكبر كالرياء.
*وإما أن يعبد الله ويستعين غيره كمن تخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم ورزقهم كالملوك وغيرهم مع أنهم يقصدون طاعة الله وعبادته.* القسم الرابع :الذين لا يعبدون إلا الله ولا يستعينون إلا به.
واتفق المفسرون على أنّ تقديم لفظ (إيّاك) على (نعبد) و(نستعين) يراد منها التخصيص أي بمعنى أننا نعبدك لا نعبد غيرك ونستعينك لا نستعين بغيرك وهذا بخلاف ما لو قال: نعبدك ونستعينك فإن ذلك لا يمنع العبادة للغير والاستعانة بغيره، فمثلا لو كان هناك شخصين آمرين لك فقلت لأحدهما أطيعك فهذا لا يعني أن لا تطيع الآمر الآخر، ولكن عندما تقول له: إياك أطيع فمعناه أنك لا تطيعه إلا هو ولا تطيع الآمر الآخر.هذه الدلالة اللغوية للتخصيص تستفاد من تقديم ماله حق التأخير كما هنا إذ قدم المفعول به على الفعل.
روح العبادة
لا يخفى أن العبادة روح ولب وعلاقة تواصل بين العبد وربه سبحانه، فإذا اقتصرت العبادة على الحركات، وتخلف عنها لبها وجوهرها من الخشوع والخضوع لله والذل والانكسار بين يديه، كان العبد مؤديا لصورة العبادة لا لحقيقتها، فشرود القلب وغفلته في أداءه للعبادة من أعظم الآفات التي تؤدي لعدم قبول العمل، ولتجاوز هذا ذكر العلماء أسبابا لبعث الروح في عباداتنا منها:
1- تحديث القلب وتذكيره بالتعبد لله سبحانه، وأن سعادته في إحسان عبادته لربه والقيام لله بحقه.2- التهيؤ للعبادة والاستعداد لها، ويكون التهيؤ لكل عبادة بحسبه، فالتهيؤ للصلاة بالوضوء والحضور إلى المسجد مبكراً.
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: “ ما دخل علي وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها “.
وقال ربيعة بن يزيد رحمه الله: “ ما أذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد، إلا أن أكون مريضا أو مسافرا “.
3- الابتعاد عما يشوش القلب أثناء العبادة كالأصوات والزخارف ونحوها، فقد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته خميصة – ثوبا – له أعلام قائلا: ( ألهتني آنفا عن صلاتي ) متفق عليه .
4- الإقبال على العبادة بقلب فارغ من مشاغل الدنيا وملهياتها، ففي البخاري تعليقا عن أبي الدرداء رضي الله عنه: “ من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ “ كل هذا من أجل أن ينخلع القلب من علائق الدنيا وينجذب إلى حقيقة العبادة، ويجتمع في قلب العبد وفكره ووجدانه الاتجاه إلى الله تعالى.
5- التنويع في أداء العبادة على جميع صفاتها الواردة حتى لا تتحول العبادة إلى حركات ديناميكية يفعلها العبد دون شعور بالفرق بين عبادة الأمس وعبادة اليوم، ولعل ذلك من حكم التنويع في صفات العبادات، فمن قرأ دعاء الاستفتاح في صلاة بصيغة فليقرأه في صلاة أخرى بصيغة أخرى من الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شروط صحة العبادة
لصحة العبادة شرطان:
أحدهما: أن لا يعبد إلا الله، وهو الإخلاص الذي أمر الله به، ومعناه أن يقصد العبد بعبادته وجه الله سبحانه، قال تعالى : {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [البينة:5]. وقال صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) رواه مسلم .وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “ اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا “.
والثاني: أن يعبد الله بما أمر وشرع لا بغير ذلك من الأهواء والبدع، قال تعالى: {أَم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21].
وقال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [الكهف:110] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) متفق عليه.
وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } [هود: 7] قال أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال: العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة .
أركان العبادة :
الركن الأول- المحبَّة:
والمراد بها أن يكون العبد مُحبًا لله تعالى، ومحبته له منتهى الحب، لذا يفعل العبادات بدافع محبته لله وخوفه ورجائه له، طلبًا في إرضاء محبوبه، فالذي دفعه لفعل العبادة هو محبته له - عزَّ وجلَّ – وهو أعظم ركن في العبوديــة، فمن لا يحب الله لم يكن عابدًا، وليس في الوجود من هو أجدر من الله – تعالى – بأن يُحَب، فهو صاحب الفضل والإحسان، الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئًا مذكورًا، وخلق له ما في الأرض جميعًا، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة وخلقه في أحسن تقويم، وصوَّره فأحسن صورته وكرَّمه وفضَّله على كثيرٍ ممَّن خلقه، ورزقه من الطيبات وعلَّمه البيان واستخلفه في الأرض، ونفخ فيه من رُوحه، وأَسجَدَ له ملائكته، فمن أولى من الله بأن يُحب؟!قال ابن القيم – رحمه الله – في شأن محبة الله: “وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبـُّون، وبرُوح نسيمها تروّح العابدون؛ فهي قُوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرَّة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرمها فهو من جملة الأموات.
والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات. والشفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذَّة التي من لم يظفر بها فعيشه كلُّه هموم وآلام. وهي رُوح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال. التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا رُوح فيه. تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلاَّ بشقِّ الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوِّؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب. وطريقهم الأقوم الذي يُبلِّغهم إلى منازلهم الأولى من قريب (مدارج السالكين لابن القيم (3/6، 7).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
“ لكن العبادة المأمور بها تتضمَّن معنى الذلِّ ومعنى الحب؛ فهي تتضمَّن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له، فإنَّ آخر مراتب الحب هو التتيُّم، وأوله العلاقة، لتعلُّق القلب بالمحبوب، ثمن الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب الملازم للقلب، ثم العشق، وآخرها التتيُّم .. يقال «تيَّم الله» أي «عَبَدَ الله»، فالمتيم: المعبِّد لمحبوبه، ومن خضع لإنســان مع بغضه له لا يكون عابدًا له، ولو أحبَّ شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له، كما يُحب الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحبَّ على العبد من كلِّ شيءٍ وأن يكون الله أعظم عنده من كلِّ شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله، وكلُّ ما أحبّ لغير الله فمحبته فاسدة “ (رسالة العبودية ص (44) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله).عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ثلاث من كنَّ فيه وجد بهنَّ طعم الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار» (أخرجه البخاري (1/56) في الإيمان، ومسلم رقم (43) في الإيمان).
والشاهد قوله: « أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما» فكلَّما عظمت محبة العبد لربه كلَّما عظم تقرُّبه له وقويت صلته به وزادت عبادته، وبذلك تحصل محبة الله للعبد، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ الله قال: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبُّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» (أخرجه البخاري (11/292) في الرقاق باب التواضع).
فمن أحب الله حبًّا صادقًا بحيث يدفعه للعمل المشروع والبعد عن المحذور فإنَّ هذا يورث محبَّة الله له، ومن أحبه الله فهو من أوليائه الذين قال فيهم: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سورة يونس الآيات (62-64).
الركن الثاني- الرجاء:
والرجاء من الأمل نقيض اليأس.
قال ابن القيم رحمه الله: “ الرجاء: حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيِّب لها السير. وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الربِّ تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه. وقيل هو الثقة بجود الربِّ تعالى” (مدارج السالكين (2/35).والرجاء ركنٌ في العبادة، والمراد به هو أن يفعل العبد العبادة بدافع – أيضًا – الرجاء في ثواب الله ورحمته ورجاء مرضاته، لأنه هو النافع فهو المرجو جلَّ وعلا وحده دون ما سواه.
والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه، ودليل كونه مقربًا إلى الله قوله تعالى في وصف بعض أنبيائه وذكر عبادتهم والدافــع لها، فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين} سورة الأنبياء الآية (90).
وأخبر تعالى عن خواص عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقرَّبون بهم إلى الله تعالى أنهم كانوا راجين له خاضعين، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} سورة الإسراء الآيتان (56-57).
كما وصف المؤمنين أنهم يرجون الله طمعًا في ثوابه والقرب منه فقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} سورة السجدة الآية (18).
وقال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} سورة الزمر الآية (9).
وأخبر عن الصحابة المهاجرين الذين فرُّوا بدِينهم وتركوا أموالهم وأولادهم وأوطانهم وما عملوه في الإسلام والدافع لذلك، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة البقرة الآية (218).
وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي» الحديث أخرجه الترمذي رقم (3534) في الدعوات.
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: «لا يموتن أحدكم إلاَّ وهو يحسن الظن بربه»( أخرجه مسلم رقم (2877) في صفة الجنة، وأبو داود رقم (3113) في الجنائز).
الركن الثالث- الخوف:
فكما أنَّ المسلم يعبد ربَّه تبارك وتعالى حبًّا له ورجاءً لثوابه وطمعًا في جنته، فإنه كذلك يعبده خوفًا من عقابه وحذرًا من ناره..
والخوف:
قال أبو القاسم الجنيد: هو توقع العقوبة على مجاري الأنفاس.
وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكُّر المخوف.
وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره..
والوجل والخوف والخشية والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة، والخشية أخصُّ من الخوفحلاوة العبادة :
وهذه تتفاوت من شخص لآخر حسب قوة الإيمان وضعفه: {مَنْ عَمِلَ صَالِـحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].وهذه الراحة والطمأنينة والسعادة تكون بعبادة الله وحدَه، وتعلُّق القلـب به، ودوام ذكره.
قال ابن القيم: «والإقبال على الله - تعالى - والإنابة إليه والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته واللَّهَج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة».
وأما من أعرض عن هدى الله، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيعيش عيشة القلق والضنك: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124]. فهو «لا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيِّق حرج لضلاله وإن تنعَّم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء؛ فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشكٍّ؛ فلا يزال في رَيبه يتردَّد؛ فهذا من ضنك المعيشة».
وثمة أسباب للحصول على حلاوة العبادة، منها:
أولاً: مجاهدة النفس على العبادة وتعويدها، مع التدرج في ذلك:
قال ابن القيم: «السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف، ومشقة العمل لعدم أُنْس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت (أي الصلاة) قرة عين له، وقوة ولذة».وقال ثابت البناني: «كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة».
وقال أبو يزيد: «سُقْتُ نفسي إلى الله وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك».
قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. فإذا جاهد العبد نفسه هداه الله وسهل له الوصول إلى ما جاهد نفسه إليه.ثانياً: الإكثار من النوافل والتنويع فيها على اختلاف صفاتها وأحوالها:
حتى لا تمل النفس، وحتى تُقبِل ولا تدبر؛ فتارة نوافل الصلاة، وتارة نوافل الصوم، وتارة نوافل الصدقة... إلخ؛ فإن ذلك مما يورث محبة الله؛ كما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه أن الله يقول: «وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه...». فـ «من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل قربه إليه، ورقَّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه؛ حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهَداً له بعين البصيرة».ثالثاً: التأمل في سير الصالحين:
قال جعفر بن سليمان: «كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع كأنه وجه ثكلى»، وهي التي فقدت ولدها. وكان ابن المبارك يقول: «إذا نظرت إلى فضيل بن عياض جُدِّد لي الحزن، ومقتُّ نفسي»، ثم يبكي.رابعاً: قراءة القرآن وتدبر معانيه، والوقوف عند عجائبه:
فإن في القرآن شفاءً للقلوب من أمراضها، وجلاءً لها من صدئها، وترقيقاً لما أصابها من قسوة، وتذكيراً لما اعتراها من غفلة، مع ما فيه من وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، وبيان أحوال الخلق بطريقَيْهِم (أهل الجنة، وأهل السعير)، ولو تخيل العبد أن الكلام بينه وبين ربه كأنه منه إليه لانخلع قلبه من عَظَمة الموقف، ثم يورثه أُنْسَ قلبه بمناجاة ربه، وَلَوَجَد من النعيم ما لا يصفه لسان أو يوضحه بيان، وخصوصاً تدبُّر ما يتلا في الصلوات.خامساً: الخلوة بالله - تعالى - والأنس به:
بحيث يتخير العبد أوقاتاً تناسبه في ليله أو نهاره يخلو فيها بربه، ويبتعد فيها عن ضجيج الحياة وصخبها، يناجي فيها ربه يبثه شكواه، وينقل إليه نجواه، ويتوسل فيها إلى سيده ومولاه. فكم لهذه الخلوات من آثار على النفوس، وتجليـات على القلـوب؟ قيـل لمالك بن مغفـل - وهو جالس في بيته وحده -: ألا تستوحش؟ قال: أَوَ يستوحش مع الله أحد؟ وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: «من لم تقرَّ عينه بك فلا قرت عينه، ومن لم يأنـس بك فلا أَنِـس». وقـال ذو النـون - رحمه الله -: «من علامات المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه».سادساً: البعد عن الذنوب والمعاصي:
فكم من شهوة ساعة أورثت ذلاً طويلاً، وكم من ذنب حرم قيام الليل سنين، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة، ويكفي هنا قول وهيب بن الورد حين سئل: «أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: لا، ولا من همَّ».قال ابن الجوزي: «فرب شخص أطلق بصره فحرمه الله اعتبار بصيرته، أو لسانه فحُرِم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه، فأظلم سره وحُرِم قيام الليل، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك».
فالذنوب داء القلوب. قال يحيى بن معاذ: «سَقَمُ الجسد بالأوجاع، وسَقَمُ القلوب بالذنوب؛ فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، فكذلك القلب لا يجد حلاوة العبادة مع الذنوب».
سابعاً: التقلل من المباحات:
قال أحمد بن حرب: «عبدتُ الله خمسين سنة فما وجدت حلاوة العبادة حتى تركت ثلاثة أشياء: تركت رضا الناس حتى قدرت أتكلم بالحق، وتركت صحبة الفاسقين حتى وجدت صحبة الصالحين، وتركت حلاوة الدنيا حتى وجدت حلاوة الأخرى... ».
قال العلاَّمة ابن القيم: «غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر: إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره عنه وتركه لله - تعالى - فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله - عز وجل - خيراً منه، والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة، والعين رائد القلب، فيبعث رائده لنظر ما هناك فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله تحرك اشتياقاً إليه، وكثيراً ما يتعب ويُتعِب رسوله ورائده. فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة فمن أطلق لحظاته دامت حسراته...».مكانة الدعاء
ولا بد ألا نغفل عن جانب مهم من العبادة وهو الدعاء :
ومما يبين مكانة الدعاء العظيمة ومنزلته الرفيعة افتتاح القرآن واختتامه بالدعاء وسورة الفاتحة تشتمل على نوعي الدعاء : دعاء العبادة ودعاء المسألة وختم بالمعوذتين وهي كلها مبنية على الدعاء .الدعاء يشتمل على خصائص جليلة ومزايا كثيرة لا توجد في غيره من أنواع العبادات :
-نفع الدعاء يقع في الحياة والممات حيث ثبت انتفاع الميت بدعاء الأحياء من ولد أو والد أو قريب قال صلى الله عليه وسلم ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : منها ولد صالح يدعو له).- سهولة الدعاء وعدم تقيده بزمان ولا مكان ولا حال .
-اشتماله على حضور قلبي لا يوجد في غيره ، فإن من تعبد بالصلاة والزكاة والصيام يغلب عليه فيها الغفلة فإذا دعا استدعى ذلك له حضور في قلبه .-اشتماله على التذلل وإظهار الفاقة وذل العبودية وعز الربوبية.
-الدعاء يجتمع فيه أنواع العبادات ما لا يجتمع في غيره :
-توجه القلب إلى المدعو وقصده بكليته .-رجاء إجابته للدعاء والرغبة إليه رغبة صادقة مع قطع الرجاء والأمل عن غيره.
-الخوف من عدم إجابته والرهبة والخشية منه .
-التوكل والاعتماد عليه في قضاء الحاجات .
-تعظيم المدعو بأنواع التعظيم من التضرع والتذلل والخضوع والتملق والانطراح بين يديه
-ذكر المدعو باللسان واللهج باسمه في السر والعلن وندائه والاستغاثة به والهتاف باسمه .
-محبة المدعو فإن النفس مولعة بمحبة من يحسن إليها .
-التواضع وإظهار الفقر والحاجة والانكسار بين يدي الله تعالى و التذلل له و التبري من الحول و القوة إلا به.
-البكاء ورفع اليدين إلى السماء .
-الإخلاص يقوى في الدعاء بالذات .
نسأل الله العلي العظيم أن يرزقنا الإخلاص في العبادة والدعاء وأن يقبل لنا الأعمال إنه نعم المولى ونعم النصير.
التذلل والخشوع فـي العبادة يكون عن حب وتعظيم لاخوف وإرهاب
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة