بقلم/ د. شعبان عبد الجيد.. مدرس الأدب والنقد بكلية التربية جامعة مدينة السادات
أما اللغةُ فهي أصواتٌ يعبر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم ، وهي الكلامُ المصطلَحُ عليه بين كلِّ قبيل . ويعرِّفها علم اللغة الحديث بأنها : " نظامٌ صوتيٌّ أساساً يتكون من رموزٍ اصطلاحية ، يستعمله أفرادُ جماعةٍ ما ، لتبادل الأفكار والمشاعر " ، أو أنها " نسقٌ من الألفاظ والرموز المنتظمة ، يتم من خلالها التواصل بين الناس " .
وأما الفكر فهو عملُ العقل الذي يحدث داخل النفس ، وهو إعمالُ العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول ، أو إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلِّها .
ثمة من يرون أنه لا يوجد فرقٌ بين اللغة والتفكير وأنهما شيءٌ واحد ؛ وحجتهم في ذلك أن التفكير عبارة عن تناول الكلمات في الذهن ، أو أنه حدث داخلي يظهر في الحركات قبل الصوتية لأعضاء الكلام ؛ أي أن التفكير كلامٌ ضمني .
وثمة آخرون يذهبون إلى أن اللغة ليست هي الفكر ، والفكر ليس هو اللغة ؛ بَيْدَ أنه لا وجود لأحدهما بدون الآخر أو بمعزلٍ عنه ؛ إن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الجسم والروح .
ويمكننا أن نلخِّصَ الآراء والدراسات اللغوية المعاصرة التي دارت حول طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر في نظريتين :
الأولى هي نظرية استقلال الفكر عن اللغة استقلالاً غيرَ نسبي ؛ مع وجود الأثر المتبادل بينهما ، وهي ترى أن " اللغة ، وإن كانت غير الفكر من حيث طبيعتها ووظيفتها ، ومن حيث نشوئها التاريخي أيضاً ـ إلا أنها مع ذلك ملتحمةٌ به التحاماً عضوياً غير قابلٍ للعزل في مجرى تطور النوع الإنساني " .
الثانية هي نظرية العزل ؛ وفحوى هذه النظرية أن العلاقة بين اللغة والفكر تصبح آليةً ميكانيكية على غرار العلاقة بين الإناء والسائل الذي يملؤه . وأصحاب هذه النظرية يجردون التفكير من جميع ارتباطاته الحسية المادية باللغة ، وينظرون إلى كلٍّ منهما بمعزلٍ عن رفيقه .
وخلاصةُ القول هو أن اللغة والفكر وجهان لعملةٍ واحدة ؛ فاللغة هي مجموع الإشارات التي يعبَّرُ بها عن الفكر ، ونحن عندما نتحدث مع غيرنا ننطق بألفاظٍ نرتبها حسب المعنى ، وحين نتحدث لأنفسنا لا ننطق بألفاظ ؛ ولكننا نرتب المعاني حسب الصورة المنطوقة ، مما يبدو معه أن كل تفكير يحتاجُ إلى تعبير . وإن كان هناك من يرى عدم التلازم بين ( الكلام ) والتفكير ، وليس بين ( اللغة ) والتفكير ؛ فالكلام عملية فيزيائية ملموسة ، ينتج عنها إصدار أصوات كلامية ؛ أما اللغة فهي نظامٌ غيرُ ملموس من المعاني والتراكيب اللغوية . إن الأصوات ليست إلا شيئاً بسيطاً ، وأن الصوت ما هو إلا أداة للتفكير ولا يوجد لذاته . كما أن تدفق التفكير لا يصاحبه ظهورٌ متزامنٌ للكلام ؛ فالعمليتان ليستا متماثلتين ، ولا يوجد تطابق جامد بين وحدات التفكير ووحدات الكلام .
ولا أريد أن أطيل على القارئ بمعالجة هذه القضية المشكلة ؛ لكنني أود أن أختم كلامي بجملة من العبارات الدالة والمضيئة لمجموعة من أعلام الفكر والأدب ؛ لعلها تضع بعض النقاط على الحروف ؛ ولعلنا نعودُ إلى مناقشتها في قابل الأيام إن شاء الله :
• الفكر لغة صامتة ، واللغة فكرٌ ناطق . ( أفلاطون ) .
• ليس ثمة تفكير بدون رموز لغوية . ( أرسطو ) .
• الكلمة هي التي تعطي الفكرَ وجوده الأسمَى ، والرغبة في التفكير بدون كلمات هي محاولةٌ عديمة المعنى . ( هيجل ) .
• اللغة هي علامات حسية تدل على الأفكار الموجودة في الذهن . ( جون لوك ) .
• مهما كانت الأفكار التي ترد إلى عقل الإنسان فإنها لا تستطيع أن تنشأ وتوجد إلا على مادة اللغة . ( ستالين ) .
• الألفاظ حصون المعاني . ( هاملتون ) .
• ليست اللغة كما يعتقد البعضُ ثوبَ الفكرة ؛ ولكن جسمَها الحقيقي . ( لافال )
بقي أن أقول إن هذا المقال مهادٌ نظريٌّ لسلسلة من المقالات عن ( اللغة الشعرية ) ؛ تحاول أن تجيب عن هذا السؤال : لِمَ يبدو العالمُ مختلفاً بعيون الشعراء ؟!
فإلى لقاءٍ قريبٍ إن شاء الله
جدليةُ اللغةِ والفكر
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة