ذكر الله تعالى يعالج مشاكل فـي الحياة لا نهاية لها

محاضرات
طبوغرافي

 الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
لا إله إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، المحيط بكل شىء، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار, وهو اللطيف الخبير.

إن الإيمان هو اليقين الذي تنشرح له صدور العلماء، وتقر به أعينهم, ويستريح إليه تفكيرهم، والإيمان الذي دعا إليه القرآن الكريم هو ثمرة الدراسة الواعية للكون الكبير, وما أنبت في جوانبه من أحياء، فإنك تستطيع أن ترى الله في كل شيء، في قدرته وإبداعه، في أرضه وسمائه، في كل ظواهر الحياة، في كل ذلك دلائل الوحدانية والعظمة والقدرة شرائع صامدة، تعبر عنها عادة بالمعادلات والقوانين، وهذا ينبئنا بالخبر اليقين، خبر أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الحق، (قَالَ رَبُّنَا الَّذي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه:50].

وهذا الكتاب الذي بين يديك أخي القارئ دعوة إلى التأمل والتذكر والاعتبار (فهل من مدكر؟)، ما بين تطلع آيات يستشعرها المسلم في الكون والحياة، وما بين إشارات قرآنية إلى جوانب إعجازية، وما بين ربط الآيات الكونية بما يعضدها من الآيات القرآنية التي يزداد بها المسلم إيمانًا وثباتًا وقوة ويقينًا، أو استقرار جوانب إعجازية في القرآن الكريم حول موضوعات جديدة تحدث عنها القرآن باعتبارها ظواهر دالة على عظمة مالك الملك ذي الجلال والإكرام، وفي كل جانب إعجازي نقدم من الصور الإيضاحية ما يجعل الإعجاز راسخًا في قلب القارئ وبصيرته.

وهذا الكتاب ذكرى وتذكرة، وانطلاق في الآيات البينات التي تجدد إيماننا, وتقوى علاقتنا بربنا سبحانه وتعالى، وهى أشد أهمية لمن يبحثون عن دلائل الإيمان، هذه الدلائل يمكن أن تجد بعضًا منها في صفحات هذا الكتاب.
ويقع هذا الكتاب في خمسة مباحث أساسية، تسعى جميعها إلى تبسيط معنى قوله تعالى:(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ)[القمر: 17].

ولذا بدأنا المبحث الأول في التعايش مع القرآن العظيم، وهو استعراض لنماذج قرآنيةفي المعايشة مع القرآن الكريم والتفاعل معه، مستشهدين بما كان يفعله الصحابة الكرام رضي الله عنهم.

وعندما نتعايش مع القرآن الكريم، نجد أن حواسنا مقبلة إليه منسجمة معه، وهذا ماعرض له المبحث الثاني من خلال الجلود الذاكرة.
وأما المبحث الثالث فقد ربط بين التذكر والخشية.

وأما المبحث الرابع فقد تناول معية الأخوة في الله تعالى، وهي المعية الصادقة التي يجمعنا عليها وبها القرآن العظيم.
وأما المبحث الخامس فقد استعرض نماذج للذكَّارين في الكون، وآيات ناطقات على تفاعل الجمادات والكائنات مع ذكر الله عز وجل.
وختامًا، فالرجاء من الله تعالى أن ينفع بجهدنا المتواضع، وأن يكون التوفيق حظه ونصيبه، وأن يجعلنا تعالى من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم التوبة النصوح, وصلاح الجسد والقلب والروح، ونعوذ به تعالى من الغرور والزور, والكذب والفجور, وفتنة القبور, وانطماث النور يا عزيز يا غفور.

المبحث الأول
فن الذكر والتعايش مع كتاب الله
اللهم إنك تقلب القلوب، وتجمع القلوب، وتؤلف بين القلوب، اللهم إنك تحيي القلوب بعد الموت كما تحيي الأرض بعد الموت، الأرض تشتاق إلى الغيث والمطر، والقلوب تشتاق إلى إشراقات الإيمان، وإلى نور القرآن.

(وَمنْ آيَاته أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشعَةً فَإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إنَّ الَّذي أَحْيَاهَا لَمُحْيي الْمَوْتَى إنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ)[فصلت:39].

فكل قلب له استيعاب إيماني، وكل قلب له مساحة إيمانية، وكل قلب له نصيب من الإيمان، وله نصيب من القرآن، الأودية منها ما هو واسع، ومنها ما هو ضيق، ومنها ما هو بين هذا وذاك، ومنها أودية مسدودة -أي محاصرة-، ومنها أودية منبسطة انبساطًا كبيرًا عجيبًا... وهكذا القلوب، فسالت أودية بقدرها، كل قلب منا له استيعاب معين حتى وصلنا إلى أعظم قلب للاستيعاب؛ وهو قلب النبي العظيم صلى الله عليه وسلم.

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرأ عليَّ القرآن”، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟! قال: “إني أشتهي أن أسمعه من غيري”، فقرأت النساء، حتى إذا بلغت: (فَكَيْفَ إذَا جئْنَا من كُلّ أمَّةٍ بشَهيدٍ وَجئْنَا بكَ عَلَى هَؤُلاء شَهيدًا)[النساء:41]. فقال: حسبك، فرفعت رأسي -أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي- فرأيت دموعه تسيل (أخرجه مسلم).

إن قلب النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى حالة من الاستيعاب العالي، وحالة من الامتلاء بالنور، فقال له: “حسبك”، أي: توقَّفْ عن القراءة؛ لأن القلب امتلأ نورًا، ولأن العين امتلأت بكاءً؛ لأجل هذا فجاء في قوله تعالى: (وَإذَا سَمعُوا مَا أُنزلَ إلَى الرَّسُول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفيضُ منَ الدَّمْع ممَّا عَرَفُوا منَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهدينَ)[المائدة:83].

فنحن الآن كأننا في روضة من رياض الجنة، ومعسكر إيماني كبير اجتمعت فيه قلوبنا وأرواحنا وأبداننا على تلاوة القرآن، وعلى حب القرآن، وعلى نور القرآن، سنعيش أجواء جميلة، هذه الأجواء سنعيشها مع قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذّكْر فَهَلْ من مُّدَّكرٍ)[القمر:17].أي: ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ، ومعانيه للفهم والتدبر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل من متعظ به؟

نحن يا رب نحاول أن نتذكر، نحاول أن نتدبر، نحاول أن نأخذ معاني القرآن؛ كي نطبقها في حياتنا، وهذا الذي نحرص عليه، وهذا الذي نركز عليه في حياتنا، ولا تكون نظريات، ولا أن تكون معارف، وإنما نريد لهذه الدروس أن تكون حية في قلوبنا، حية في بيوتنا، حية في شوارعنا، حية بين أبنائنا، حية بين شبابنا وشاباتنا؛ لعل الله تعالى أن يذيقنا وإياكم حلاوة الإيمان.

فالإنسان يعيش مع القرآن، مع التلاوة، مع الحفظ، مع الترتيب، مع التجويد... وكل هذه المعاني جميلة، لكن الأجمل أن تعيش حالة القرآن، إن الله تعالى يريد منك أن تكون شغوفًا بالقرآن إلى حد الوله، أي: التعلق الشديد بالقرآن الكريم، وهذه تسمى حالة الوَلَه، أو حالة الحب، أو حالة الشغف بالقرآن الكريم.

إن الله تعالى لم يقل: ولقد يسرنا القرآن للتلاوة، ولم يقل: ولقد يسرنا القرآن للحفظ، ولم يقل: ولقد يسرنا القرآن للتدبر، ولم يقل العظيم الكريم: ولقد يسرنا القرآن للتجويد، وإنما قال الملك العظيم الحنان المنام:(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذّكْر فَهَلْ من مُّدَّكرٍ)[القمر:17].
إن هذه الآية تحولك من حالة أنك ذاكر -أي تاليًا- إلى كونك ذكارًا، فإنني إذا قلت مرة واحدة: (رَبَّنَا آتنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخرَة حَسَنَةً وَقنَا عَذَابَ النَّار)[البقرة:201]، فأنا ذاكر ولست ذكارًا –أي: كثير الذكر-.

والجميل في القرآن الكريم أن الذكر لله سبحانه وتعالى يعالج مشاكل في الحياة لا نهاية لها، تخيل واحدًا دخل بيته غاضبًا حزينًا مرهقًا من العمل طوال اليوم، فدخل البيت ولم يلق السلام، وما استغفر، فدخل البيت فوجد شيئًا لا يعجبه، فهاج وعلا صوته، فإذا بالزوجة بدلاً من أن تلاطفه فترد عليه هي الأخرى بطريقة فيها شد وجذب، فأصبح البيت فيه عراك يفرح به الشيطان ويرقص؛ لأن واحدًا منهما لم يذكر الله تعالى، لو أن أحدهما استغفر لطرد الشيطان، لو أن أحدهم ذكر لخمد نار الشيطان، ولكن البيوت التي لا يذكر فيها الله تعالى، ولا يذكر فيها اسم الله تعالى، ولا يقرأ فيها القرآن العظيم إنما هي بيوت للشياطين يرقصون فيها، ويقيمون فيها أفراحهم ومعازفهم ومراقصهم.

وقال تعالى: (لَلَبثَ في بَطْنه إلَى يَوْم يُبْعَثُونَ)[الصافات:144]. أي: لمكث في بطن الحوت وصار له قبرًا إلى يوم القيامة.
فاستشعار الإنسان أنه إذا سبح فإن التسبيح سيأتي له بالفرج هذا أمر جميل جدًّا، واستشعار الإنسان أنه إذا ذكر، ولم يكن من الغافلين فإن ذكره لله سبحانه وتعالى سيجعل له ذكرًا في الملأ الأعلى، وهل هناك فرج أفضل من هذا؟

المبحث الثاني
الجلود الذاكرة
أعلم –حفظني الله وإياك- أن الله عز وجل يزكي من يشاء، ويصطفى من يشاء، ويطهر من يشاء، ويتوب على من يشاء، ويهدى من يشاء، قال تعالى : (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأَرْض كُلُّهُمْ جَميعًا أَفَأَنتَ تُكْرهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمنينَ)[يونس:99]. فهذه مشيئته، وهذا حكمه، وهذا علمه، وهذا تدبيره، وما تشاءون إلا أن يشاء الله، فلَكَ أن تختار ما تشاء، ولك أن تتمنى ما تشاء، ولك أن تحب ما تشاء، ولك أن تشتهى ما تشاء، ولكن كل شيء في هذه الحياة لا يتقدم ولا يتأخر ولا يرتفع ولا ينخفض إلا بعلمه، ولا تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه.

لذلك فإن الله تعالى يسر القرآن للذكر، قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذِّكْرِ فَهَلْ من مُّدَّكرٍ)[القمر:17]. أي: ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ، ومعانيه للفهم والتدبر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل من متعظ به؟

لا زلنا نحيا مع هذه الروضة الجميلة؛ روضة الذكر، وروضة التذكر، وروضة الخشية، ونحن نعود إلى التذكر والخشية ولسان حالنا كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذّكْر فَهَلْ من مُّدَّكرٍ)[القمر:17].

إنني أتمنى بكل قلبي وبكل ذرات فؤادي أن كل شخص منا يبدأ في قرارة نفسه ونيته أن يعتزم أنه في لحظات الجهاد يجدد النية مع الله سبحانه وتعالى، وأنه في جهاد، وأنه الآن في رباط في سبيل الله، وأنه في مجاهدة مع نفسه؛ حتى يحظى بهذا الوقت في روضة من رياض الجنة نتباهى بها يوم القيامة.

إن الله تعالى جعل القرآن الكريم كتاب ذكر يذكرنا به، فكل ما في القرآن يذكرك بالله؛ لأجل هذا فإن الله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذّكْر فَهَلْ من مُّدَّكرٍ)[القمر:17].فالقرآن ذكر؛ لأجل هذا فإن الله تعالى يحفظ به.

فكل شيء مر بنا في الصفحات الماضية هو تذكرة للخشية، وعندما يتذكر الإنسان فإنه يخشع، وعندما يتذكر فإنه يخشى، كما جاء في قوله تعالى: (مَنْ خَشيَ الرَّحْمَن بالْغَيْب وَجَاء بقَلْبٍ مُّنيبٍ* ادْخُلُوهَا بسَلَامٍ ذَلكَ يَوْمُ الْخُلُود* لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فيهَا وَلَدَيْنَا مَزيدٌ)[ق: 33 - 35].أي: مَن خاف الله في الدنيا، ولقيه يوم القيامة بقلب تائب من ذنوبه، ويقال لهؤلاء المؤمنين: ادخلوا الجنة دخولاَ مقرونًا بالسلامة من الآفات والشرور, مأمونًا فيه جميع المكاره، ذلك هو يوم الخلود بلا انقطاع، ولهؤلاء المؤمنين في الجنة ما يريدون، ولدينا على ما أعطيناهم زيادة نعيم، أعظَمُه النظر إلى وجه الله الكريم.

المبحث الثالث
التذكر والخشية
بَيَّن الله تعالى في كثير من مواضع القرآن الكريم أن الكائنات المخلوقة تذكر الله وتسبحه وتسجد له وتعظمه، قال تعالى: (وَمنْ آيَاته اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا للشَّمْس وَلَا للْقَمَر وَاسْجُدُوا للَّه الَّذي خَلَقَهُنَّ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت:37]. فمِن حجج الله على خلقه، ودلائله على وحدانيته، وكمال قدرته اختلاف الليل والنهار, وتعاقبهما، واختلاف الشمس والقمر وتعاقبهما, كل ذلك تحت تسخيره وقهره، قال تعالى: (وَمنْ آيَاته اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا للشَّمْس وَلَا للْقَمَر وَاسْجُدُوا لها الَّذي خَلَقَهُنَّ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت:37]. أي: إن كنتم حقًّا منقادين لأمره، سامعين مطيعين له، تعبدونه وحده لا شريك له.

فالذين شهدوا عظمتك وأنوارك وأبواب هدايتك في الدنيا هم الذين يشهدون أنوارك وفيضك وفضلك في الآخرة، فقال تعالى: (قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالَّذي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْن وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلكَ رَبُّ الْعَالَمينَ)[فصلت:9]. أي: قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين موبخًا لهم، ومتعجبًا من فعلهم: أإنكم لتكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين اثنين، وتجعلون له نظراء وشركاء تعبدونهم معه؟! ذلك الخالق هو رب العالمين كلهم.

والسؤال المهم الآن هو: كيف أعيش معنى التذكر؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول:
يوجد ذكر ظاهر، ويوجد ذكر خفي، والله تعالى حَبَّبَ إليك الذكر الخفي؛ لأنه ذكر القلب، وطالما القلب كان ذاكرًا، وكان القلب ذكارًا، فمعنى هذا أن الإنسان يستطيع أن يحرك لسانه وشفتيه بذكر الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ في نَفْسكَ تَضَرُّعًا وَخيفَةً وَدُونَ الْجَهْر منَ الْقَوْل بالْغُدُوّ وَالآصَال وَلاَ تَكُن مّنَ الْغَافلينَ)[الأعراف: 205].

فكل الناس يصلون، لكن مَن هم أفضلهم عند الله؟ وكل الناس يصومون، لكن مَن هم أفضلهم عند الله؟ وكثير منا يرغبون في الجهاد في سبيل الله، لكن مَن أفضلهم عند الله؟ أكثرهم ذكرًا لله، أي: أكثرهم تذكرًا؛ لأن الإنسان قبل أن يذكر بلسانه فإنه يذكر بقلبه؛ ولذا فإن الله تعالى قال: (وَاصْبرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بالْغَدَاة وَالْعَشيّ يُريدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُريدُ زينَةَ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا تُطعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذكْرنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف:28].

فالشيطان لا يريد لك أن تقول: الله، ولا باسم الله، ولا سبحان الله، ولا الحمد لله، ولا أن تستغفر، ولا أن تحمد، بل يحاول أن يخرجك من هذه الحالة الإيمانية؛ ولذا قال الله تعالى: (وَإذَا رَأَيْتَ الَّذينَ يَخُوضُونَ في آيَاتنَا فَأَعْرضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَديثٍ غَيْره وَإمَّا يُنسيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ الْقَوْم الظَّالمينَ)[الأنعام:68].

والقرآن الكريم دائمًا يدعو إلى تذكر نعم الله وآياته على الإنسان؛ لأن تذكر هذه النعم باب من أبواب الشكر، وباب من أبواب الهداية؛ ولذا فإن الله سبحانه وتعالى عندما أرسل سيدنا موسى عليه السلام وأخاه هارون إلى فرعون؛ فإن الله تعالى أوصاهم بالتلطف معه في الكلام؛ لكى يصل إلى الغاية الأساسية من غايات الهداية والإيمان والاهتداء، فقال تعالى: (قَالَا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إنَّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 45-46].

فلو أن الإنسان رأى وشاهد هذه النعم ولم يتعظ بها فإنه بحاجة إلى مراجعة إيمانه بالله العظيم، فعلى سبيل المثال: شاهد كل ما عرضناه في الكتاب وسنعرضه بعد قليل، ولكنه قلل من هذه النعم، وقال: إن الطبيعة هي التي فعلت هذا، وإن الكون هو الذي فعل هذا، ونظرية دارون وغيرها هو الذي فعل هذا... كيف رد القرآن على هؤلاء الناس مرتين: مرة في سورة الكهف، وأخرى في سورة السجدة.

فالله تعالى وصف مَن يعرض عن هذه الآيات بأنه ظالم، ووصفه بأنه مجرم، فقال: إنا من المجرمين منتقمون... لماذا هو مجرم؟ لأنه يرى آيات أقوى من أن تنقل، ورغم هذا فإنه ينكر هذه الآيات، وربنا سبحانه وتعالى جعل هذه الآيات محركة لقلب الإنسان، فقال تعالى:(كتَابٌ أُنزلَ إلَيْكَ فَلاَ يَكُن في صَدْركَ حَرَجٌ مّنْهُ لتُنذرَ به وَذكْرَى للْمُؤْمنينَ)[الأعراف:2].

فجميل جدًّا أن نحيا كل هذه المعاني، وكل ما في القرآن يذكرك بالله، لكن هناك عارض قوي ومؤثر يمنعك على أن تعيش كل هذه الآيات التي نعيشها الآن، هذا العارض المؤثر من ناحيتين: من ناحية القلب، ومن ناحية الذاكرة؛ فالقلب يأتيه قسوة، والذاكرة يأتيها نسيان؛ النسيان من أين يأتي للذاكرة؟ من أهم عوامل النسيان الذي يأتي للذاكرة هو النسيان الذي يأتي مِن الشيطان، الذي هو أكبر عوائق الصد عن ذكر الله تعالى؛ ولذا قال الله سبحانه وتعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذكْرَ اللَّه أُوْلَئكَ حزْبُ الشَّيْطَان أَلَا إنَّ حزْبَ الشَّيْطَان هُمُ الْخَاسرُونَ)[المجادلة:19].

فعلى المسلم أن يتذكر بقلبه ولسانه وجوارحه، وعليه أن يتقي الله تعالى في السر والعلن، حتى لا يصيبه قول الله تعالى:(وَتَرَى الْمُجْرمينَ يَوْمَئذٍ مُّقَرَّنينَ في الأَصْفَاد * سَرَابيلُهُم مّن قَطرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ* ليَجْزي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إنَّ اللهَ سَريعُ الْحسَاب * هَذَا بَلاَغٌ لّلنَّاس وَليُنذَرُوا به وَليَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحدٌ وَليَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[إبراهيم: 49-52].

المبحث الرابع
معية الأخوة في الله
ما أجمل أن نستحضر المشاهد الإيمانية التي مرت بك في حياتك، ونحن نحاول أن نتذكر، ونحاول أن نخشع، ونحاول أن نعيش الإيمان كله، قال تعالى:(قُلْ آمنُوا به أَوْ لاَ تُؤْمنُوا إنَّ الَّذينَ أُوتُوا الْعلْمَ من قَبْله إذَا يُتْلَى عَلَيْهمْ يَخرُّونَ للأَذْقَان سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً)[الإسراء: 107-108].

فسورة الإسراء تبدأ بالذكر، وتسير مع الذكر، وسيدنا موسى عليه السلام يطلب من الله أن يرسل معه أخاه هارون، لماذا؟ جاءت الإجابة في قوله تعالى: (هَارُونَ أَخي* اشْدُدْ به أَزْري * وَأَشْركْهُ في أَمْري* كَيْ نُسَبّحَكَ كَثيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثيرًا)[طه: 30-34]. أي: هارون أخي، قَوِّني به، وشدَّ به ظهري، وأشركه معي في النبوة وتبليغ الرسالة؛ كي ننزهك بالتسبيح كثيرًا، ونذكرك كثيرا فنحمدك.
فمعية الأخوة في الله، ومعية المحبة في الله، أن يساعدك واحد على ذكر الله، وعلى تسبيح الله عز وجل؛ لذلك قال تعالى:(إنَّكَ كُنتَ بنَا بَصيرًا)[طه:35]. أي: إنك كنت بنا بصيرًا, لا يخفى عليك شيء من أفعالنا.

ثم ينطلق سيدنا موسى عليه السلام ومعه رسالته التي يريد أن يؤديها، فقال تعالى: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بآيَاتي وَلَا تَنيَا في ذكْري)[طه:42].

فالذكر عبارة عن ثورة حقيقية، وعبارة عن تغير في فكر الإنسان، فالمسلم عندما يداوم على أذكار الصباح وأذكار المساء فإنه يفرغ شحنة من الطاقة الموجودة في داخله، وعندما يفرغها فإنه يستريح استراحة إيمانية طيبة جدًّا.

والإنسان إذا لم يحافظ على هذا الذكر، ولا على هذه الأذكار، وكان في حالة غفلة، فقال الملك أيضًا في سورة طه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذكْري فَإنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقيَامَة أَعْمَى)[طه:124]. أي: ومَن تولَّى عن ذكري الذي أذكِّره به فإن له في الحياة الأولى معيشة ضيّقة شاقة -وإن ظهر أنه من أهل الفضل واليسار-، ويُضيَّق قبره عليه ويعذَّب فيه، ونحشره يوم القيامة أعمى عن الرؤية وعن الحجة.

فاللهم حَبِّب إلينا الذكر، وحَبِّب الذكر إلينا، وحبِّبْ إلينا الإيمان وزيِّنْه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

المبحث الخامس
مدرسة الذاكرين وآيات ناطقات
نستعرض في عجالة سريعة مدرسة جميلة، وهى مدرسة الذكَّارين التي نعيشها مع سورة طه، فعندما تقرأ سورة طه تستحضر معنى قوله تعالى: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بآيَاتي وَلَا تَنيَا في ذكْري)[طه:42]. أي: اذهب يا موسى أنت وأخوك هارون بآياتي الدالة على ألوهيتي وكمال قدرتي وصدق رسالتك، ولا تَضْعُفا عن مداومة ذكري.

وتستحضر معنى قوله تعالى: (إنَّني أَنَا اللهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْني وَأَقم الصَّلَاةَ لذكْري)[طه: 14].فتعلم أهمية الذكر في حياة الأنبياء والرسل، فضلا عن حياة غيرهم من البشر، الذين هم أقل منهم في المرتبة والإيمان والعمل.

والله تعالى يظهر لنا في الكون آيات ومعجزات وبراهين تدل على أهمية الذكر والتذكر والتذكرة،النار كذلك تذكرك بالله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشؤُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكرَةً وَمَتَاعًا لّلْمُقْوينَ* فَسَبّحْ باسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)[الواقعة: 71-74]. أي: أفرأيتم النار التي توقدون، أأنتم أوجدتم شجرتها التي تقدح منها النار, أم نحن الموجدون لها؟ نحن جعلنا ناركم التي توقدون تذكيرًا لكم بنار جهنم ومنفعة للمسافرين، فنزِّهْ -أيها النبي- ربك العظيم كامل الأسماء والصفات، كثير الإحسانوالخيرات.

فالنار تذكرة، والنار تذكرك بربنا، والله تعالى خلق هذه النار لكى يذكرك بها. وسترى الأرض تفصح عن نفسها، وسترى الأرض بانفجارات نارية عجيبة، قال الله تعالى عنها: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكرَةً وَمَتَاعًا لّلْمُقْوينَ)، هذه النار ماذا تفعل عندما تراها؟ (فَسَبّحْ باسْم رَبّكَ الْعَظيم)، كلما ترى شيئًا مما خلق الله فإن الله تعالى جعله تذكرة لك.

ما هذه التذكرة؟ قال جل جلاله عن النار: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا)، ولم يقل: نحن خلقناها؛ لأن هناك فرقًا بين الجعل والخلق، بل قال تعالى: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكرَةً وَمَتَاعًا لّلْمُقْوينَ * فَسَبّحْ باسْم رَبكَ الْعَظيم).

معية الذكر
فالإنسان عندما يألف ذكر الله، وعندما يحب ذكر الله، وعندما يعيش معية ذكر الله تعالى، وعندما يصلى الفجر حاضرًا جماعة لا تصيبه عين، إلا إذا أذن الله تعالى بشيء من هذا، لكن صلاتك حفظ لك، لكن المعوذتين حفظ لك، لكن آية الكرسي حفظ لك، لكن القرآن العظيم أمان لك، إنه أمان لك في الدنيا، وأمان لك في القبر، وأمان لك يوم القيامة؛ ولذا فإن الله تعالى يقول في كتابه الكريم: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْه إلاَّ كَمَا أَمنتُكُمْ عَلَى أَخيه من قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحمينَ)[يوسف:64].

وأنت واقف لا تغفل عن ذكر الله، وأنت جالس لا تغفل عن ذكر الله، وأنت راكب الطائرة وجاء موعد الصلاة فاترك أمتعتك، وانزل وصلّ على أرض الطائرة، قال تعالى:(الَّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبهمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْق السَّمَاوَات وَالأَرْض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطلاً سُبْحَانَكَ فَقنَا عَذَابَ النَّار)[آل عمران:191].

فالمؤمنون حقًّا قد استشعروا أنهم في معية صادقة، وفي جوار الله تعالى، كما قال تعالى: (وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [المائدة: 12].

وكلما رأيت المآذن شامخة ذكرتك بالله، وتذكرك بذكر الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: (في بُيُوتٍ أَذنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فيهَا بالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)[النور:36].

هذا النور المضيء في مساجد أَمَرَ الله أن يُرْفع شأنها وبناؤها، ويُذْكر فيها اسمه بتلاوة كتابه والتسبيح والتهليل، وغير ذلك من أنواع الذكر، يُصلّي فيها لله في الصباح والمساء.

ثم قال تعالى: (رجَالٌ لَّا تُلْهيهمْ تجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإقَام الصَّلَاة وَإيتَاء الزَّكَاة يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فيه الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور:37]. أي: رجال لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكْر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة لمستحقيها، يخافون يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب بين الرجاء في النجاة والخوف من الهلاك، وتتقلب فيه الأبصار تنظر إلى أي مصير تكون؟

فكلما مرت بك آية من آيات الله، ومشهد من مشاهد الكون لا بد أن تربطه بآية من القرن، ولا بد أن نسأل أنفسنا: أين نحن من هذه الآية؟

علامات الوحدانية
إن المؤمنين ليسوا وحدهم من يوحدون الله، بل كل الكائنات توحد الله تعالى، لقد رأيت صورة السحاب وهو يكتب كلمة الله، ورأينا الصبار الذي هو صبار وأفرعه الشوكية تكتب كلمة الله، ويسبح الرعد بحمده، كما في قوله تعالى: (وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بحَمْده وَالْمَلاَئكَةُ منْ خيفَته وَيُرْسلُ الصَّوَاعقَ فَيُصيبُ بهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادلُونَ في اللهِ وَهُوَ شَديدُ الْمحَال) [الرعد:13].

ومن علامات وحدانية الله وقدرته: أنك ترى الأرض يابسة لا نبات فيها، فإذا أنزلنا عليها المطر دبَّت فيها الحياة, وتحركت بالنبات, وانتفخت وعلت, إن الذي أحيا هذه الأرض بعد همودها, قادر على إحياء الخلق بعد موتهم, إنه على كل شيء قدير, فكما لا تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها, فكذلك لا تعجز عن إحياء الموتى.

فإعصار سُونامي فيأندونسيا وقد اجتاح الناس أمامه، والناس يجرون أمامه في شواطئ لا تعرف ذكر الله، وفي شواطئ لا تعرف كلمة الله أكبر، إلا أن هناك مسجدًا بعيدًا ظل الناس يجرون إليه، ويلهثون إليه، وحماهم رب البيت، فكل ما في المنطقة انهار تمامًا إلا المسجد، فقد حماه رب المسجد، قال تعالى: (إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجدَ الله مَنْ آمَنَ بالله وَالْيَوْم الآخر وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئكَ أَن يَكُونُوا منَ الْمُهْتَدينَ) [التوبة:18]. فلا يعتني ببيوت الله ويعمرها إلا الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر, ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ولا يخافون في الله لومة لائم، هؤلاء العُمَّار، وهم المهتدون إلى الحق.

ويأتي زلزال على مدينة كاملة في تركيا، وإذ بهذه المدينة جميعها تسقط وتتهاوى، ولا يبقى إلا المسجد ومئذنته، وبيت ملتصق بالمسجد؛ لأنه إذا هُدم البيت هدم المسجد، فحفظ الله تعالى هذا البيت العالي كرامةً للمسجد! فكل هذه المشاهد ترفعك كمسلم عند الله.

لقد رأيت صورة السحاب وهو يكتب كلمة الله، ورأينا الصبار الذي هو صبار وأفرعه الشوكية تكتب كلمة الله، ويسبح الرعد بحمده، كما في قوله تعالى: (وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بحَمْده وَالْمَلاَئكَةُ منْ خيفَته وَيُرْسلُ الصَّوَاعقَ فَيُصيبُ بهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادلُونَ في اللّه وَهُوَ شَديدُ الْمحَال) [الرعد:13]. أي: ويسبِّح الرعد بحمد الله تسبيحًا يدل على خضوعه لربه، وتنزّه الملائكة ربها من خوفها من الله، ويرسل الله الصواعق المهلكة فيهلك بها مَن يشاء من خلقه، والكفار يجادلون في وحدانية الله وقدرته على البعث، وهو شديد الحول والقوة والبطش بمن عصاه.

إنك ترى كلمة الله وهى واضحة المعالم، ويسبح السحاب بحمد الله، بل إن النحل هو الآخر يسبح بحمده، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن في السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بمَا يَفْعَلُونَ)[النور:41].

ألم تعلم -أيها النبي- أن الله يُسَبّح له مَن في السماوات والأرض من المخلوقات، والطير صافات أجنحتها في السماء تسبح ربها؟ كل مخلوق قد أرشده الله كيف يصلي له ويسبحه، وهو سبحانه عليم، مُطَّلع على ما يفعله كل عابد ومسبّح، لا يخفى عليه منها شيء، وسيجازيهم بذلك.

فيجب على المسلم أن يفعل كما فعلت هذه الكائنات، وأن يعيش الإيمان بقلبه كما تعيش هذه الكائنات.

نبؤة الرسول
وقد تصدى الدكتور فاروق الباز أحد علماء مصر الذين يعملون في الولايات المتحدة الأمريكية في مركز من علوم الفضاء لعمل دراسة حول الربع الخالي، فوجد الدكتور فاروق الباز ما يلي: أن النبيَّ العظيم صلى الله عليه وسلم قال: “لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا كما كانت” (أخرجه مسلم)، فكيف كانت يا رسول الله؟

كانت الجزيرة العربية قبل عشرات آلاف من السنين عبارة عن مروج وأنهار...صدقت وبالحق نطقت يا رسول الله، فاللهم صلِّ وبارِكْ عليه، فمَن الذي علمك يا رسول الله أن أرض العرب كانت ينابيع؟!

لقد قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ منَ السَّمَاء مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابيعَ في الْأَرْض ثُمَّ يُخْرجُ به زَرْعًا مُّخْتَلفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إنَّ في ذَلكَ لَذكْرَى لأُوْلي الْأَلْبَاب)[الزمر:21]. أي: ألم تر -أيها الرسول- أن الله أنزل من السحاب مطرًا، فأدخله في الأرض، وجعله عيونًا نابعة ومياهًا جارية، ثم يُخْرج بهذا الماء زرعًا مختلفًا ألوانه وأنواعه، ثم ييبس بعد خضرته ونضارته، فتراه مصفرًا لونه، ثم يجعله حطامًا متكسّرًا متفتتًا؟ إن في فعْل الله ذلك لَذكرى وموعظة لأصحاب العقول السليمة.

لأن هذا المكان في شبه الجزيرة العربيةفيه بترول الآن، ويعتبر من أغنى أماكن العالم، هذا المكان المليء الآن بالبترول، ويغذى الدنيا كلها بالبترول، كان عبارة عن غابات وطمرَتْ هذه الغابات، فلما طمرَتْ كان البترول، فمَن الذي علمك هذا الكلام يا رسول الله؟

فربنا تعالى يذكرك، ويعلمك، ويطهرك، ويسأل في أول الآية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ منَ السَّمَاء مَاءً)؟ عندما ينزل هذا الماء تستشعر أنه مسبح بحمد الملك، فسلكه ينابيع في الأرض، فالمسألة إن مرتبة ترتيبًا قدريًّا عجيبًا.

وكثير من الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته منتشرة في السماوات والأرض؛ كالشمس والقمر والجبال والأشجار, يشاهدونها وهم عنها معرضون، لا يفكرون فيها ولا يعتبرون.

إذن تعلمنا من خلال الآيات القرآنية، والآيات الكونية ومن خلال مباحث هذا الكتاب كيف نتدبر، والتدبر يأخذك إلى التذكر، والتذكر يأخذك إلى الخشية، فقد دخلنا الآن مدرسة تسمى مدرسة الخشية، هذه سنحتاج إليها في حياتك كلها، وخصوصًا في شهر رمضان؛ لأن الصيام يربى عندك الخشية، ويربى عندك الخوف من الله، ويربى عندك توقير الله، وتعظيم الله؛ ولذا قال لك الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].أي: لعلكم تخشون الله تعالى حق الخشية، وهذا هو المقصود من الصيام؛ لأنه العبادة التي يمارسها المسلم فيما بينه وبين الله تعالى، وألا أحد من الخلق يستطيع أن يعرف هل أنت مؤدٍ لهذه العبادة أم لا؛ لذلك فشهر رمضان والصيام يربي عندك الخشية من الله تعالى، وأن تحقق التقوى حق التحقيق كما أمر الله تعالى.

دعاء
اللَّهُمَّ عَلِّمْنِي الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ, وَفَقِّهْنِي فِي الدِّينِ.
اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا عِلْمًا يَنْفَعُنَا، وَانْفَعْنَا اللَّهُمَّ بِمَا عَلَّمْتَنَا، اللَّهُمَّ زِدْ فِي أَرْزَاقِنَا، وَزِدْ فِي أَنْوَارِنَا، وَزِدْ فِي عَافِيَتِنَا، وَاجْعَلْ عَافِيَتَنَا إِلَى طَاعَتِكَ، وَلَا تَجْعَلْ عَافِيَتَنَا إلَى مَعْصِيَتِكَ، تَوَفَّنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا.

يَا عَالِمَ الخَفِيَّاتِ، يَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ، يَا ذَا العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، غَافِرَ الذَّنْبِ، قَابِلَ التَّوْبِ، شَدِيدَ العِقَابِ، ذَا الطَّوْلِ, لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ إِلَيْكَ المَصِيرُ, لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ, سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ, أَسْتَغْفِرُ اللهَ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ, الأَوَّلِ وَالآخِرِ وَالظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ, وَهُو بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ.

اللَّهُمَّ عَجِّلْ لأَوْلِيَائِكَ الفَرَجَ وَالعَافِيَةَ, وَزِدْ لِي فِي حَيَاتِي, فَإِنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِي يَهَبُ عَيْشَ الأَبَدِ لأَهْلِ الآخِرَةِ، فَهَبْ لِي عُمْرًا طَوِيلًا مَدِيدًا, وَعَيْشًا مَزِيدًا فِي عَافِيَتِكَ وَرِضَاكَ، فَإِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ, وَالقَادِرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ.

اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي, اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.

اللَّهُمَّ عَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي, وَانْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَزِدْنِي عِلْمًا.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، )إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].