التجارة الرابحة والتجارة الخاسرة * الفساد حرمان للنعم وسبب للهلاك

محاضرات
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:29- 33].
وقال تعالى فى شأن المنافقين {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14- 15].
وقال تعالى {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79].

 

والاستهزاء بالمؤمنين والعلماء والصالحين على ضربين:
أحدهما: الاستهزاء بأشخاصهم، كمن يستهزئ بأوصافهم الخَلْقِّية أو الخُلُقِّية، وهذا محرم لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]

والضرب الآخر: الاستهزاء بالمؤمنين والعلماء لكونهم علماء، ومن أجل ما هم عليه من الدين فالاستهزاء – هاهنا – متوجه إلى الدين والسنة فهذا الاستهزاء يناقض الإيمان لما يلي:
1-أن الله عز وجل جعل الاستهزاء بالمؤمنين استهزاء بالله تعالى وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تبارك وتعالى:-  {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ}[التوبة:65، 66].

وقد جاء فى سبب نزول هذه الآيات عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: قال رجل فى غزوة تبوك فى مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل فى المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنكبه الحجارة، وهو يقول: - يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ}.

2- عاقبة الاستهزاء بالمؤمنين هى العذاب الأليم فعندما ينادى أهل النار قائلين {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]
يقول الله تعالى جواباً عنهم {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:108– 110].

التجارة الرابحة والتجارة الخاسرة:
من باع نفسه وما يملك لله رب العالمين فهو الرابح، ومن باع نفسه لغير الله فهى الخسارة الماحقة، وفيما يلى بيان ذلك من خلال ما ذكر الله تعالى فى كتابه.

يحدثنا ربنا تبارك وتعالى عن أن التجارة معه لا يلحقها بوار ولا يتوقع فيها خسارة فيقول رب العزة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30،29].
وفى موضع آخر من كتاب الله تعالى يحدثنا ربنا تبارك وتعالى عن هذه التجارة، والثمن الذى يدفع فيها أو الجزاء المستحق عليها فى الدنيا والآخرة، فيقول ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:10-13].

وفى موضع ثالث من كتاب الله تعالى يذكرنا ربنا بهذه التجارة، وأن من سلك سبيلها وسار فى طريقها فهو الفائز حقًا، وأن ما وعد الله به أصحاب هذه التجارة من عظيم المثوبة؛ وعد صادق لا يتخلف. وفى هذا يقول ربنا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].

وقد ورد فى السنة النبوية المطهرة من المواقف ما يشهد لفقه الصحابة رضوان الله عليهم لهذا المعنى، فحين بايع الأنصار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيعة العقبة، قالوا له: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال صلى الله عليه وسلم: ((أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم)). قالوا: فمالنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: ((الجنة)). فقالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل.

وحين هاجر الصحابى الجليل صهيب بن سنان الرومى رضى الله عنه وحال المشركون فيما بينه وبين هجرته، وقالوا: جئتنا صعلوكًا لا مال لك، وتريد الآن أن تهاجر بمالك؟؛ ففاوضهم على أن يترك لهم ماله ويدعوه، فوافقوا، فلما بلغ ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى.

وهذا الفقه نفسه هو الذى دفع سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه- وقد حضرت تجارة له إلى المدينة- فجاءه التجار ليساوموه عليها، فقال: بكم تأخذونها؟ فقالوا: نعطيك على الدرهم درهمين، فقال: هناك من يعطى أكثر، فقالوا: نعطيك على الدرهم ثلاثة، فقال: هناك من يعطى أكثر، فما زالوا يزيدونه، وهو يقول لهم:  هناك من يعطى أكثر، فقالوا له: ليس فى المدينة تجار غيرنا، فقال: إن الله وعدنى على الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. أشهدكم أنها جميعًا فى سبيل الله، وقام بتوزيعها على الفقراء والمساكين.

هذه تجارة المؤمنين الذين يبتغون بأعمالهم وحياتهم رضى الله والنجاة فى اليوم الآخر، ولكن فى مقابلة هذه الصورة هناك تجارة المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى إنها التجارة الخاسرة.

يقول ربنا فى شأن المنافقين : {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16].
ويقول رب العزة فى شأن اليهود: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86].
ويقول فى شأن المشركين: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:9].

المنافقون من أبرز نماذج الجمع الثاني، فبعد أن يذكر القرآن أعمالهم التخريبية المتلبسة بظاهر الإصلاح والتعقّل يقول عنهم: {أولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَة بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَاكَانُوا مُهْتَدِينَ}. كان بمقدور هؤلاء أن ينتخبوا أفضل طريق لحياتهم، لأنهم كانوا يعيشون إلى جانب ينبوع الوحى الصافي، وفى جوّ مفعم بالصدق والإخلاص والإيمان. لكنهم فوّتوا على أنفسهم هذه الفرصة الفريدة العظيمة، وأضاعوا ما وهبهم الله من هداية فطرية فى ذواتهم، ومن هداية تشريعية فى إطار نور الوحي، واشتروا الضلالة وسلكوا طريقاً ظنوا أنه طريق الهدى فإذا هو طريق مظلم .

ونستنتج من المقابلة بين الصورتين أن الراغب فى ثواب الله وعظيم جزائه لابد وأن يعطى من نفسه المجهود، ولا يبخل بمال الله على عباد الله، ولن ينفع الإنسان أن يتمنى على الله الأمانى دون عمل، وقد قال الإمام الحسن البصرى رضى الله عنه: ((ليس الإيمان بالتمنى، ولكن ما وقر فى القلب وصدَّقه العمل، وإن قومًا غرتهم أمانىُّ المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل)).

ونختم بهذا الحديث الذى رواه الإمام الترمذى بسنده وحسَّنه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)).

نسأل الله أن يزين قلوبنا بحب الإيمان وأن يرزقنا رضاه وأن يكتبنا مع أحبابه وأن يعيذنا  من صفات المنافقين وأن يدخلنا فى عباده المرضيين إنه نعم المولى ونعم النصير.

الراغب فى ثواب الله وعظيم جزائه لابد وأن يعطى من نفسه المجهود، ولا يبخل بمال الله على عباد الله