الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
قال أحد التجار: قصدت الحجّ في بعض الأعوام، وكانت تجارتي عظيمة، وأموالي كثيرة، وكان مربوط على وسطي حافظة فيها دنانير وجواهر قيِّمة.فلما كنت بأحد الطرق، نزلت لأقضي بعض شأني، فانحلّت الحافظة من وسطى، وسقطت ولم أعلم بذلك إلا بعد أن سرت عن الموضع فراسخ، ولكن ذلك لم يكن يؤثّر في قلبي، لما كنت أحتويه من غنى، واستخلفت ذلك المال عند الله، إذ كنت في طريقي إليه.
ولما قضيتُ حجتي وعدت، تتابعت عليَّ المحن حتى لم أعد أملك شيئاً، فهربت على وجهي من بلدي، ولما كان بعد سنين من فقري، أفضيت إلى مكان وزوجي معي وما أملك في تلك الليلة إلاّ دانقاً ونصفاً (ربع درهم)، وكانت الليلة مطيرة، فأويت في بعض القرى إلى خان خراب، فجاء زوجي المخاض، فتحيّرت، ثم ولدت فقالت: يا هذا، الساعة تخرج روحي! فاتخذ لي شيئاً أتقوّى به ؟
فخرجت أخبط في الظلمة والمطر، حتى جئت إلى بدّال فوقفت عليه، فكلمني بعد جهد، فشرحت له حالي، فرحمني وأعطاني بتلك القطع حلبة وزيتاً وأغلاهما، وأعارني إناء جعلت ذلك فيه، وجئت أريد الموضع، فلما مشيت بعيداً وقربت من الخان زلقت رجلي، وانكسر الإناء وذهب جميع ما فيه، فورد على قلبي أمر عظيم ما ورد عليَّ مثله قط، فأقبلت أبكي وأصيح..
وإذا برجل قد أخرج رأسه من شباك داره، وقال: ويلك، ما لك تبكي، ما تدعنا ننام؟ فشرحت له القصة، فقال: يا هذا، البكاء كله بسبب دانق ونصف؟
قال: فداخلني من الغم، أعظم من الغم الأول.
فقلت: يا هذا، والله ما عندي شيء لما ذهب مني، ولكن بكائي رحمة لزوجي ولنفسي، فإن امرأتي تموت الآن جوعاً، ووالله لقد حججت في سنة كذا وكذا، وأنا أملك من المال شيئاً كثيراً، فذهبت مني حافظة فيها دنانير وجواهر تساوي ثلاثة آلاف دينار، فما فكّرت فيه، وأنت تراني الساعة أبكي بسبب دانق ونصف، فاسأل الله السلامة، .فقال لي: بالله يا رجل، ما كانت صفة حافظتك؟
فأقبلت أبكي، وقلت: ما ينفعني ما خاطبتني به، أو ما ترى من جهدي وقيامي في المطر حتى تستهزئ بي أيضاً؟ وما ينفعك وينفعني من صفة حافظتي .
ومشيت، فإذا بالرجل قد خرج وهو يصيح بي: خذ يا هذا. وقلت له : أي شيء تريد؟ فقال لي: صف حافظتك.
وقبض عليَّ، فلم أجد للخلاص سبيلاً غير وصفها له، فوصفتها.فقال لي: ادخل. فدخلت. فقال: أين امرأتك؟ قلت: في الخان.
فأنفذ غلمانه فجاءوا بها، وأدخلت إلى حرمه، فأصلحوا شأنها .وجاءوني بجبّة وقميص وعمامة وسراويل، وطرح ذلك عليّ وأصبحت في عيشة راضية، وقال: أقم عندي أياماً. فأقمتُ عشرة أيام، كان يُعطيني في كل يوم عشرة دنانير.
فلما كان بعد ذلك قال لي: في أيّ شيء تتصرّف؟ قلت: كنت تاجرًا.
قال: فلي غلاّت، وأنا أعطيك رأس مال تتجر فيه وتشركني؟ فقلت: أفعل.
فأخرج لي مائتي دينار فقال: خذها واتّجر فيها هاهنا.
فقلت: هذا معاش قد أغناني به الله يجب أن ألزمه، فلزمته.
فلما كان بعد شهور، ربحت فجئته، وأخذت حقّي وأعطيته حقه، فقال: اجلس، فجلست، فأخرج لي حافظتي، وقال: أتعرف هذه؟ فحين رأيتها شهقت وأُغمي علي، فما أفقت إلا بعد ساعة، ثم قلت له: يا هذا، أمَلَك أنت أم نبيّ؟
فقال: أنا أحفظها منذ كذا وكذا سنة، فلما سمعتك تلك الليلة تقول ما قلته، وطالبتك بالعلامة فأعطيتها، أردت أن أعطيك للوقت حافظتك، فخفت أن يُغشى عليك، فأعطيتك تلك الدنانير التي أوهمتك أنها هبة، وإنما أعطيتكها من حافظتك. فاجعلني في حلّ.
فشكرته ودعوت له، وأخذت الحافظة ورجعت إلى بلدي، وبعت الجواهر، وضممتُ ثمنه إلى ما معي واتجرت، فما مضت إلا سنيّات حتى صرت صاحب عشرة آلاف دينار وصلحت حالي.
القدوة الصالحة الحياة : الحاج التقي الأمين وحافظة النقود
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة