الإسلام علم البشرية قِيم الهداية.. وعالج تفشى الظلم والطغيان وهدم أركان الجاهلية

محاضرات
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

إن البشرية تنفست الهداية بهذا الدين الشريف الذى أيقظ الله به الأمم، وأيقظ الله به الهمم, وجعله نورًا هاديًا، وكانت البشرية أحوج إلى هذا الدين القيم الذى ترقبه سكان الجزيرة العربية، خاصة أهل الكتاب منهم، ففى فترة انقطاع الرسل وجفاف ينابيع الهداية، وتفشى الظلم والطغيان جاء الإسلام على فترة من الرسل. { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) } [المائدة]
وقد الإسلام أتى لكى يهدم أركان الجاهلية، وينكر على العرب وثنيتهم وإعراضهم وتفاهة أفكارهم حول الدين، وتغلب العصبية وحمية الجاهلية، جاء الإسلام لإقامة دين الله ونبذ أمور الجاهلية من نفوس الناس؛ لذا فحرمة المسلم لا تقل شأنًا عن حرمة الأشهر الحرم، أو حرمة المسجد الحرام، أو غير ذلك.

وفى حجة الوداع ألقى النبى خطبته الجامعة (خطبة الوداع), وإذا توقفنا قليلاَ معها وجدنا كيف حارب الإسلام الجاهلية وبيّن حقوق الإنسان, ففى قوله صلى الله عليه وسلم: “إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم” . يحدد حقوق الإنسان, وأنه لا بد أن يكون له كرامة، وألا يُعامل معاملة الحيوانات العجماوات. فالنبى هو أول مَن نادى بذلك, وهو الذى طبقه فى واقع حياته, ثم الصحابة من بعده، ويؤكد النبى أن كلّ أمر من أمور الجاهلية فهو موضوع تحت قدميه, يعني: أنه مرفوض, فكل شيء من أمور الجاهلية مما لم يقره الإسلام فهو باطل.

والجاهلية على نوعين:
- جاهلية الاعتقاد, وهى الكفر بالله أو الشرك به, سواء الشرك فى ربوبيته، أو الشرك بالله فى ألوهيته, أو الإلحاد فى أسمائه وصفاته, فمثال الشرك بالله فى ربوبيته: أن يدَّعِى أحد أن بعض المخلوقات لها استقلال فى التصرف فى الخلق والتأثير فيهم, أو أنها سبب فى التأثير؛ كمَن يعتقد أن التمائم سبب فى الشفاء أو مستقلة فيه. والشرك فى الألوهية هو: صرف شيء من العبادة لغير الله، بأن يتخذ وسائط مع الله، أو يدعى أنهم يقربونه إلى الله زلفى, وهذا هو فعل مشركى الجاهلية؛ كأبى جهل وغيره, قال تعالى: { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ 3} [الزمر].

والإلحاد فى أسماء الله وصفاته؛ كأن ينفى شيئًا من أسماء الله أو صفاته التى أثبتها لنفسه أو أثبتها له نبيه، أو أن يدّعى أن فى إثباتها تشبيهًا للخالق بالمخلوق، أو غير ذلك من أنواع الإلحاد.

- وجاهلية السلوك، وهو أن يصدر من العبد سلوك مخالف لمنهج الله تعالى الذى شرعه لعباده, ويكون هذا السلوك مشابهًا لمسلك أهل الكفر من غير استباحة له, فإذا استباحه أو أنكر تحريمه أو سخر بأمر الله فيه فحينئذ يتحول العبد من جاهلية السلوك إلى جاهلية الاعتقاد، فيخرج بذلك من الإسلام.

وأكد النبى فى خطبة الوداع حق المرأة, وأنها شقيقة الرجل، لها شأنها فى المجتمع، فهى تمثّل نصف البشرية, ثُم هى تلِدُ النصف الآخر, فتصير بذلك أمة كاملة, وقد كانت المرأة فى الجاهلية تعيسة مهانة فى الأسرة والمجتمع، واستعبدها الرجال فى ذلة وامتهان, وقد نالت الجاهلية من المرأة أقصى منال, فحرمتها حق الحياة؛ فسُبِيت وبِيعَت ووُئِدَت، وجاء قوله صلى الله عليه وسلم: “استوصوا بالنساء خيرًا” . وقد حث النبيّ فى هذه الخطبة على مراعاة حق النساء وبخاصة الزوجات, ودعا إلى الاستيصاء بهن ومعاشرتهن بالمعروف.

ولكن بعض الرجال لايرون للمرأة وزنًا ولا قيمة, فتجده يظلمها ويضربها ويضيق عليها فى نفقتها, ثم إذا أراد أن يقضى شهوته حَنّ إليها ورغب فيها ورفع من شأنها, فإذا قضى شهوته عادت المياه إلى مجاريها من الظلم والحيف, وقد نهى النبى عن ذلك، فقد ذكر النساء فوعظ فيهن، فقال: “يعهد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها من آخر يومه”.

ومن ذلك: ما ثبت عنه: “لا يفرك مؤمن مؤمنة, إن كَرِهَ منها خلقًا رضى منها آخر” . قوله: “يفرك”، معناه: يُبغِض. وثبت عنه أنه قيل له: يا رسول الله، ما حقّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: “أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت, ولا تضرب الوجه, ولا تقبّح, ولا تهجر إلا فى البيت” . وقوله: “لا تقبّح”، أي: لا تقل: قبّحكِ الله، وقال: “خياركم خياركم لنسائهم” رواه أحمد والترمذى بسند صحيح.

من حمية الجاهلية إلى نور الإسلام
كان للإسلام الفضل فى تغير العقلية العربية على مدى سنوات البعثة النبوية الشريفة ثلاث وعشرين سنة, لتغيير الفكر, والسلوك, والأخلاق، والاعتقادات، وتغير حياة بأكملها على مدى ثلاث وعشرين سنة هى عمر الرسالة النبوية المحمدية.

وفى معنى الجاهلية أمور منها، أن النبى العظيم كان يلقى جهالات ليس جهلاً واحدًا فقط، بل جهالات كثيرة؛ جهالات فى الاعتقاد, وجهالات فى الأخلاق, وجهالات فى الغطرسة الزائدة غير اللازمة, وجهالات فى الطبقات التى كانت موجودة قبل الإسلام ومحاها الإسلام.

إن صور الجاهلية وأشكالها التى عاش عليها الناس قبل الإسلام لا زال كثير منها؛ إما أنه موجود فى حياتنا, أو لا زال موجودًا على حالته بنفس الكيفية، أو أنه بدأ يظهر من جديد فى حياتنا التى نعيشها مع قُربِ قيام الساعة؛ ولذلك لن تقوم الساعة إلا على فئة قليلة من المؤمنين, وسيعود الناس قبل قيام الساعة إلى عبادة الأصنام التى عبدوها قبل الإسلام, ويعود ذو الخلصة، وهو صنم كبير كان يعبده الناس فى الجاهلية، وتجتمع إليه النساء, وهذا كلام مهم جدًّا.

إن الأصنام تسبَّبتْ فى إبعاد كثير من الناس عن طريق الحق, فمَن اقتدى بى فى التوحيد فهو على دينى وسُنَّتي, ومَن خالفنى فيما دون الشرك, فإنك غفور لذنوب المذنبين بفضلك رحيم بهم, تعفو عمن تشاء منهم.

فالنبى العظيم صلى الله عليه وسلم كان يتألم ألمًا شديدًا مما كان يفعله الناس فى الجاهلية من صور عندما تُحكَى أمام النبى العظيم صلى الله عليه وسلم فكان يبكى بكاءً شديدًا حتى تخضب لحيته بالدموع، وقد دخل عليه رجل فقال: يا رسول الله، إنا كنا فى الجاهلية نقتل أولادنا, ونعبد الأصنام, وكانت لى ابنة جميلة، ولما كبرت وصار عندها سنتان، كنت أتحدث معها, وكانت تسر بكلامى وأسر بكلامها، فخشيت عليها-أى خاف عليها من العار, أو خشى على نفسه من الفقر-

فناديت عليها يومًا فجاوبتنى فأخذتها, وبينما أنا أسير وجدت بئرًا قريبًا منا، فأخذتها وأرديتها فى البئر, وهى تقول: يا أبت، يا أبت.. فبكى النبى العظيم بكاءً شديدًا عظيمًا، وبعد أن بكى هذا البكاء العظيم نظر إلى الرجل, وقال له: أعدْ عليّ ما قلته، فأعاد الرجل على النبى العظيم القصة من جديد هو يحكيها، والنبى العظيم كلما حكى الرجل كلامًا فإن النبى يتأثر تأثرًا زائدًا بكلام هذا الرجل، حتى بكى النبى العظيم, وحتى أخضبت لحيته الشريفة من بكائه تأثرًا بحال هذه البنت التى كانت تحب والدها، وكان والدها يحبها، فما من ذنب فعلت، وما من ذنب اقترفت, فسكت النبى العظيم؛ لأنه قد وضع عن الناس ما كان فى الجاهلية. فكل ما كان فى الجاهلية من عادات قبيحة, وكل ما كان فى الجاهلية من مخالفة لأحكام الله سبحانه وتعالى، وكل ما كان فى الجاهلية من أحكام فهو باطل.

والجاهلية لم تكن موجودة عند العرب فى مكة, ولكن كانت موجودة للأسف قبل أن يبعث الإسلام, وقبل أن يأتى نور الإسلام، وعند اليهود أيضًا كان هناك جاهلية، فبنو النضير وبنو قريظة ذهبوا مختلفين إلى النبى العظيم فى قضية, فقال النضريون: إنا كنا إذا قتلنا قتيلاً من بنى قريظة دفعنا لهم سبعين وسقًا من التمر, وإذا قتلوا منا قتيلاً أخذنا منهم أربعين ومئة وسقًا من التمر. فالواحد فى بنى النضير يساوى اثنين فى الدية من بنى قريظة!

فقالوا: احكم بيننا يا رسول الله. فحكم النبى العظيم بحكم الله, وحكم بحكم الحق, وحكم بحكم العدالة, فحكم بينهم بأن دم القريظى يكافؤ دم النضرى . فهما متكافئان، فالواحد يساوى الواحد، وليس العكس أن الواحد فى بنى النضير يساوى اثنين من بنى قريظة، فغضب بنو النضير, وقالوا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: إنك لعدو لنا، فهم يريدون أحكامًا على مزاجهم، وأحكامًا فى صالحهم، فتأتى الأحكام فى صالح بعض البشر يفرحون بها ويبتهجون بها, وعندما تأتى بعض الأحكام ليس على هواهم, وليس على مزاجهم، فإنهم يعترضون عليها.. فاعترضوا على حكم النبى الذى هو حكم الله، فنزل قوله تعالى موجهًا كلامه إلى بنى النضير الذين لم يرضوا بحكم النبى العظيم.

وانظر إلى جمال الإسلام وإلى جلال الإسلام وإلى عظمة الإسلام، إن أبا ذر الغفارى رضى الله عنه ينظر إلى سيدنا بلال بن رباح, وكان قد داس طرفًا منه, وقال له: يا ابن السوداء, فقال النبى العظيم صلى الله عليه وسلم لأبى ذر ومَن هو أبو ذر: “إنك امرؤ فيك جاهلية”.  

إن الاختلاف والتنافر الذى كان بين الناس قبل الإسلام, وعند نزول الإسلام كان يرجع إلى حب الزعامة والرياسة, وحب المظهرية, والرغبة فى التفاضل, والرغبة فى التفاوت، والرغبة فى التميز على الناس, والرغبة فى التعالى على الناس، فلا بد أن يؤدى إلى الاختلاف بين الناس, والاختلاف فى الفهم, والاختلاف فى العقيدة, والاختلاف فى العمل, والاختلاف فى السلوك, والاختلاف فى كل شيء.

ولذلك ستلاحظ أن القرآن الكريم وهو يحدثك عن أخلاق الجاهلية يحذرك ويحذر المسلمين جميعًا من الاختلاف, كما جاء فى قوله تعالى: } وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران).

أي: وتمسَّكوا جميعًا بكتاب ربكم وهدى نبيكم, ولا تفعلوا ما يؤدى إلى فرقتكم, واذكروا نعمة جليلة أنعم الله بها عليكم؛ إذ كنتم أيها المؤمنون قبل الإسلام أعداء, فجمع الله قلوبكم على محبته ومحبة رسوله, وألقى فى قلوبكم محبة بعضكم لبعض, فأصبحتم بفضله إخوانًا متحابين, وكنتم على حافة نار جهنم, فهداكم الله بالإسلام ونجَّاكم من النار, وكما بيَّن الله لكم معالم الإيمان الصحيح فكذلك يبيِّن لكم كل ما فيه صلاحكم; لتهتدوا إلى سبيل الرشاد وتسلكوها, فلا تضلوا عنها، فهذا استمساك, واعتصام, وعظمة، فالإسلام ليس فى أن تُنشئَ تيارات ولا أحزاب كثيرة, ولا مذاهب كثيرة تُحدِثُ نوعًا من التشتت والمذهبية والتشرذم فى أخلاق الناس, فالإسلام لا يعرف هذا، بل الإسلام أتى لكى يقضى على هذا الاختلاف, وهذا التفرق كما فى قوله: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران].

فالناس عندها حب رئاسة, وحب زعامة, وعندها الأنا عالية، فلا يحب أن يسمع أحدًا يتكلم عن أحد غيره, ولا يحب أن تسلط الأضواء ولا الكاميرات إلا عليه، ولا يجب أن يلهث الناس إلا بحمده وإلا بالثناء عليه, فالإسلام يعتبر هذا نمطًا خطيرًا من أنماط النفاق، بل نمطًا خطيرًا من أنماط التخلف والاختلاف.

فلماذا يتعامل الناس مع رجل يرى نفسه يعيش فى برج عالٍ له فهمه, وله تركيبته النفسية وتركيبته الطينية, ويرى أن الناس أقل منه، ولا بد أن يختلف الناس معه فى كل شيء, وإنما عندما يتباسط الناس, وعندما يتباذل الناس, وعندما يتحاب الناس, وعندما يتواصل الناس فهذه شريعة الله، وهذا هو العدل الذى تحدثنا عنه.

فهذا حال الإسلام قبل الإسلام, فكأن الإسلام أتى, وكأن النبى العظيم أتى, وكأن الوحى نزل والعرب عبارة عن مجموعة من الناس المتفاوتين المختلفين فى المصالح، كما قال تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[الزمر].

أي: ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لشركاء متنازعين, فهو حيران فى إرضائهم, وعبدًا خالصًا لمالك واحد يعرف مراده وما يرضيه, هل يستويان مثلاً؟ لا يستويان, كذلك المشرك هو فى حَيْرة وشك, والمؤمن فى راحة واطمئنان. فالثناء الكامل التام لله وحده, بل المشركون لا يعلمون الحق فيتبعونه.

وفى قوله تعالى: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون} [المؤمنون: 52]. أي: وإنَّ دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد وهو الإسلام, وأنا ربكم فاتقونى بامتثال أوامرى واجتناب زواجري.

فالإسلام أتى لأجل هذه الآية ولأجل التوحيد، وحتى كلمة التوحيد فيها وحده, وفيها اتحاد. فما دام هناك إله واحد, وما دام هناك رب واحد, فهناك أمر واحد, وقرار واحد، وهناك عباد من طينة واحدة، فلا يتفاضل غنيهم على فقيرهم, ولا حسيبهم على وضيعهم فيما يعتقدون ألا إن الرب واحد, ألا إن الخلق واحد، ألا إن أباكم واحد.

ولكن ماذا حدث؟ أضلتهم الشياطين, كيف؟ الذى كان معه مال يرى أن المال له سطوة, وأنه يمكنه أن يشترى الدنيا كلها بالمال, فهذا خبل فى التفكير, وسماه الله تعالى ظن السوء. فالذين يظنون أنهم قادرون على امتلاك الناس بالمال أو بالسلطة أو بالجاه أو بالقوة أو بالقهر فهؤلاء يخلقون ليس فقط عدوات، ولكن يخلقون أحقادًا بين الناس, وهذه الأحقاد هى العداوة نفسها؛ ولذا فإن الله تعالى قال: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران].

ففى المدينة-التى هى يثرب- دار قتال قبل الإسلام استمر مئة وعشرين سنة! فهذه جاهلية فعلاً، أي: ثلاثة أجيال يحاربون بعضًا وما ظهر فيهم رجل عاقل رشيد يمنعهم. فيأتى الإسلام لكى يقضى على كل هذا الاختلاف, فهذه فتنة, والإسلام أتى كى يجمع العرب, ولكى يجمع الناس. ولكى يجمع شتات الناس, وشتات العرب, ويجمعهم فى معية واحدة هى معية قوله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد].

وكما فى قوله تعالى: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [الشورى]. أي: فإلى ذلك الدين القيِّم الذى شرعه الله للأنبياء ووصَّاهم به, فادع أيها الرسول عباد الله, واستقم كما أمرك الله، ولا تتبع أهواء الذين شكُّوا فى الحق وانحرفوا عن الدين, وقل: صدَّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء, وأمرنى ربى أن أعدل بينكم فى الحكم, الله ربنا وربكم، لنا ثواب أعمالنا الصالحة, ولكم جزاء أعمالكم السيئة, لا خصومة ولا جدال بيننا وبينكم بعدما تبين الحق, الله يجمع بيننا وبينكم يوم القيامة, فيقضى بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه, وإليه المرجع والمآب, فيجازى كلاًّ بما يستحق.

ولقد جمع الله بينهم بالفعل؛ فجمع بينهم بالعقيدة وهى الأساس. فإن الكفار كانوا يشترطون على النبى العظيم ألا يجالسوا الفقراء من الصحابة, فلا ينبغى أن يجالسوهم, ولا ينبغى أن تكون رءوسهم برءوسهم, ولا أبدانهم بأبدانهم، فهم يريدون مجالس خاصة؛ فليس لأبى جهل أن يجلس مع بلال بن رباح, وليس أبى سفيان أن يجلس مع صهيب, وليس لأبى لهب أن يجلس مع مصعب.

فكل شخص من الكفار يريد أنه عندما يدخل المكان يفسحون له، ويريد مكانًا منفردًا، ويريد ترحابًا معينًا، ويريد شكلاً معينًا فى التعامل. فالإسلام لا يعرف هذا، بل الإسلام حذرك أن تقف لأحد فى المجلس, ومَن فعل هذا من باب التعظيم له من دون الله ورضى بهذا فليتبوأ مقعده من النار. أي: لو دخل الشخص مكانًا فقام الناس له جميعًا تعظيمًا صفًّا, ورضى بهذا, أى أن الله مكَّنَه من الناس أن يقف له الناس, وأن يجلس له الناس كما يفعل الأعاجم، فهذا يتبوأ مقعده من النار. إلا لمَن كان كبيرًا فى السن, فله ترحاب خاص, وله توسعة فى المجلس.

فالله تعالى رفض هذا المبدأ تمامًا؛ فالكبار من الكفار يحتاجون إلى مجالس خاصة لا يجلسون مع فقراء الصحابة ومع ضعفاء الصحابة، فإذا قُبِلوا هذا مرحبًا, وإذا لم يقبلوا فعليهم الوزر, فقال الله سبحانه وتعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف].

أي: واصبر نفسك أيها النبى مع أصحابك مِن فقراء المؤمنين الذين يعبدون ربهم وحده، ويدعونه فى الصباح والمساء، يريدون بذلك وجهه، واجلس معهم وخالطهم، ولا تصرف نظرك عنهم إلى غيرهم من الكفار لإرادة التمتع بزينة الحياة الدنيا، ولا تُطِعْ من جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا، وآثَرَ هواه على طاعة مولاه، وصار أمره فى جميع أعماله ضياعًا وهلاكًا.

فربنا يحسم قضية خطيرة جدًّا؛ وهى قضية الناس الذين يحبون أن يتميزوا فى كل شيء؛ يتميز فى سكنه، ويتميز فى ملبسة، ويتميز فى طريقة كلامه، حتى إن بعضهم يأكل بيده الشمال ويشرب بالشمال من باب “الإتيكيت”!

إن الشيطان عندما يفشل فى أن يعيد الناس إلى الكفر فشلاً واضحًا زريعًا، يرضى لهؤلاء الناس الذين يختلفون التحرشَ ببعضهم, فالذى يختلف مع الناس هذا جاهلي, كما فى قوله تعالى:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران]. أي: ولا تكونوا أيها المؤمنون كأهل الكتاب الذين وقعت بينهم العداوة والبغضاء فتفرَّقوا شيعًا وأحزابًا, واختلفوا فى أصول دينهم من بعد أن اتضح لهم الحق, وأولئك مستحقون لعذابٍ عظيم موجع.

فإذا عدنا إلى الاختلاف والتناحر والأحزاب التى كانت موجودة فى الجاهلية, وأصحاب الألوية كما كان فى الجاهلية، فإذا عدنا إلى أصحاب الألوية والاختلافات والطائفية والتيارات عندئذٍ نعود إلى الجاهلية.

وهناك جماعات فى العصر الحديث تحمل اسم الإسلام, وظهور تيارات ومذاهب فى العصر الحديث تحمل اسم الإسلام، وبعضها يكفر بعضًا, وبعضها يبدع بعضًا, وبعضها يزندق بعضًا, فأنت مسلم وأنا مسلم, أنت تصلى وأنا أصلي, ولا يعلم قلبى وقلبك إلا الله، فقال النبى العظيم صلى الله عليه وسلم: “لا ترجعوا بعدى كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض”. فيكفر بعضنا بعضًا, ويبدع بعضنا بعضًا, فهل هناك اختلاف أشد من هذا؟