شّكرُ الله تَزيد به النّعم وتدوم به البرَكات ويندفع به كلّ مكروه

محاضرات
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الأسلامى

maxresdefault

قال تعالى: {يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاى فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّاى فَاتَّقُونِ )41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)} [ البقرة : 40-50]

ينادى الله تعالى بنى إسرائيل بذلك النداء الذى يذكرهم باستقامة أبيهم يعقوب فهم أبناؤه وأولى باتباعه فقد كان شكارا ذكارا لنعمة ربه، وفى البداية أمر بذكر النعمة وإضافة النعمة لله تدل على أنه وحده المنعم الوهاب، وهى ليست نعمة واحدة، ولكنها نعم لا تعد ولا تحصى كما أن نداء الجميع (اذكروا) يدل على أن نعم الله واسعة تشمل كل خلقه فكل مخلوق مجلل بنعم الله التى لا يكافئ شكرها، ولا يقدر على حمد المنعم بها سبحانه وتعالى .

وكل ما يأتى بعد ذلك فى الآيات هو من باب الشكر الوفاء بالعهد والإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتقوى.
ثم إن الله سبحانه يذكرهم بنعم خاصة كان لها أكبر الأثر فى حياتهم منها النجاة من آل فرعون بعد العذاب والتنكيل.

ذكر النعمة عبادة وشكر:
شكر النعمة محبّةُ المنعِم جلّ وعلا بالقلبِ والعملُ بما يرضيه، قال عزّ وجلّ: {اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} [سبأ :13]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أحبّوا الله مِن كلِّ قلوبكم لما يغذوكم به من النّعَم))، وعن عائشةَ رضى الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطّر قدَماه، فقلتُ: يا رسولَ الله، تفعل هذا وقد غفَر الله لك ما تقدّم من ذنبِك وما تأخّر؟! فقال: ((أفَلا أكون عبدًا شكورًا؟!)) [رواه البخاري]. فالعملَ بالطّاعة شكرٌ لله عزّ وجلّ.

والشّكرُ أيضًا استعمالُ النِّعمة فيما يحبّ الله تعالى، فأعضاءُ البَدَن إذا استعمَلها المسلمُ فى طاعةِ الله واستخدَمَها العبدُ فيما أحلّ الله له فقَد شكَر اللهَ على أعضاءِ بدنه، وإذا استخدم العبدُ أعضاءَ بدنِه فى معاصى الله فقد فاتَه شكرُ الله وحارَب ربَّه بنِعم الله تعالى عليه. والمالُ إذا أنفَقه المسلمُ فى الواجبِ والمستحَبّ أو المباح يبتغى بذلك ثوابَ الله فقد شَكر الله على نعمَة المال، وإذا أنفقه العبدُ فى معاصِى الله أو المكروهات أو فى فضول المباحَات المضِرّة فقد فاتَه شكرُ الله عزّ وجلّ، واستعان بالمال على ما يُغضِب ربَّه، ويكون وبالاً عليه فى الدّنيا والآخرة.

وإذا تمتَّع العبدُ بالطيّبات والمباحات وشكرَ الله عليها وعلِم من قلبِه أنها نعمُ الله عليه تفضَّل بها على عبادِه فقد أدّى ما عليه فى هذه النّعم، وإذا نسِى المنعِمَ جلّ وعلا فقَد عرّض النّعمَ للتغيُّر، قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النّحل:112].

ومَهما اجتهَد المسلم وشَكر فلن يستطيعَ أن يقومَ بشكرِ نعَم الله على التّمام لقول الله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل :18]، ولقولِ النبى صلى الله عليه وسلم: ((لن يدخلَ الجنةَ أحدٌ منكم بعمَله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلاّ أن يتغمّدنى الله برحمتِه)). ولكن حسبُ المسلمِ أن يعلمَ بأنّه عاجزٌ عن شكرِ نعمِ ربِّه، وأنّه لو شكَر على التّمام فالشّكر يحتاج إلى شكر، وحسبُه أن يمتثلَ أمرَ ربّه، ويبتعدَ عن معصيتِه، وأن يسدّد ويقارب.

الشّكرُ تَزيد به النّعم وتدوم به البرَكات، ويندفع به كلّ مكروه، قال الله عزّ وجلّ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} [إبراهيم : 7].

وإذا عايَن الشّاكرون بهجةَ الجنّة ونعيمَها ولذّةَ عَيشها قالوا: {الْحَـمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ} [الزمر : 74].

والشّكرُ صِفة الأنبياءِ والمرسلين وعبادِ الله الصّالحين، قال الله تعالى عن نوحٍ عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء : 3]، وقال عن إبراهيم الخليل عليه السّلام: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَـاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 120، 121]، وقال عزّ وجلّ: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

وحقيقةُ الشّكر ومعناه الثّناءُ على المنعِم جلّ وعلا بنعمِه وذكرُها والتحدّث بها باللسان، قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف : 69]، وقال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ} [الضحى: 11].

الوفاء بالعهد مع الله:
الوفاء بالعهد من علامات الصادقين المتَّقين، ومن صفات الأنبياء، وهو خُلق ملازم لأهل الجنة فى حياتهم الدنيا؛ قال ربُّنا - تبارك وتعالى - فى سورة المعارج فى صفات أهل الجنة المكرمون: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج: 32]، وقال فى سورة المؤمنون فى صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، وقال فى علامات الصادقين المتَّقين فى سورة البقرة: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

المؤمن بين الرهبة والرغبة:
عن البراء بن عازب -رضى الله عنهما-: أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ((إذا أخذتَ مضجعكَ، فتوضّأ وضوءك للصّلاة. ثمّ اضطجع على شقّك الأيمن، ثمّ قل: اللهمَّ إنِّى أسلمتُ وجهى إليك، وفوَّضت أمرى إليك، وألجأتُ ظهرى إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأَ ولا منجى منك إلَّا إليك، آمنتُ بكتابك الّذى أنزلت، وبنبيِّكَ الّذى أرسلت، واجعلهنّ من آخر كلامك، فإن متَّ من ليلتك، متَّ وأنت على الفطرةِ)) [صحيح مسلم].

وعن أبى هريرة -رضى الله عنه- عن النّبى صلّى الله عليه وسلّم قال: ((يحشرُ النّاسُ على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير وعشرة على بعير، ويحشر بقيّتهم النّار تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم، حيث أصبحوا، وتمسى معهم حيث أمسوا)) [متفق عليه].

وعن ابن مسعود -رضى الله عنه-: أنَّه كان يقول فى دعائه: ((خائفًا مستجيرًا، تائبًا مستغفرًا، راغبًا راهبًا)).
وعن عبد الله بن عمر -رضى الله عنهما- قال: قيل لعمر: ألا تستخلف؟ قال ((إن أستخلف؛ فقد استخلف من هو خير منِّي: أبو بكر، وإن أترك؛ فقد ترك من هو خير منِّي، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم))، فأثنوا عليه، فقال: ((راغب وراهب، وددت أنِّى نجوتُ منها كفافًا، لا لى ولا عليَّ، لا أتحمّلها حيًّا وميِّتًا)).

قال مجاهد -رحمه الله- فى قوله تعالى: {وَقُومُوا لله قانِتِينَ} [البقرة:238]. قال: ((من القنوت: الرّكوع، والخشوع، وغضّ البصر، وخفض الجناح من رهبة الله)).

قال السّلميّ: ((الرّهبة: خشيةُ القلبِ من رديءِ خواطرِه)).

لبس الحق بالباطل:
قال فى لسان العرب : ((اللّبْس واللّبَس: اختلاط الأمر، لبس عليه الأمر يلبسه لبْساً فالتبس، إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته، والتبس عليه الأمر أى اختلط واشتبه، والتلبيس : كالتدليس والتخليط، شدد للمبالغة، وربما شدد للتكثير، يقال : لَبَستُ الأمر على القوم ألبْسُه إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً)) .

وقال ابن الجوزى رحمه الله فى تلبيس إبليس: )) التلبيس إظهار الباطل فى صورة الحق))
ومن ذلك قوله تعالى : ((وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 42].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عند هذه الآية : ((فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذى تبين أنه باطل إذ لو بينه زال الباطل الذى لبس به الحق.

وقد سلك بنو إسرائيل فى لبس الحق بالباطل مسالك شتى:
منها تحريف التوراة والإنجيل، وخلطُ صدقهما المنزل بكذبهما المحرف؛ بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر عند أكثر الناس.

ومنها تأولهم ما فى كتبهم تأولاً فاسدًا.
ومنها خلط اليهودية والنصرانية بالإسلام، وهم يعلمون أن الدين الحق هو الإسلام، وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسول الله.

ومنها الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر، فإنهم قد خلطوا بين الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر.
ومنها الإقرار بالحق ليتوصلوا به إلى دفعه، كإقرارهم بأن النبى -صلى الله عليه وسلم- مبعوث لكن إلى غيرهم. وكذلك لما أسلموا أول النهار ليكفروا آخره؛ وكل ذلك تلبيسًا على الناس وإلقاءً للشك فى قلوبهم.

ومنها تلبيسهم على المشركين بزعمهم أنهم أهدى سبيلاً من المؤمنين، وتفضيلهم دينهم على دين المسلمين.

وأما أهل الجاهلية فكانوا يلبسون الحق بالباطل، كانت قريش تشكك فيما جاء به النبى -صلى الله عليه وسلم-، فتارة يزعمون أنه سحر، وتارة يزعمون أنه كهانة، وتارة يزعمون أنه شعر، وتارة يزعمون أنه لا يعدو كونه أساطير الأولين، وتارة يدّعون القدرة على الإتيان بمثله، وغير ذلك، وكل هذا قصدوا من ورائه لبس الحق الذى جاء به النبى -صلى الله عليه وسلم- بالباطل الذى ادعوه؛ قال تعالى عنهم: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5].

لما قدم الطفيل بن عمرو الدوسى إلى مكة اجتمع به أشراف قريش وحذّروه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه، قال: ((فوالله ما زالوا بى حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئًا ولا أكلمه، حتى حشوت أذنى حين غدوت إلى المسجد كُرسفًا -يعنى القطن-؛ فَرَقًا من أن يبلغنى شيءٌ من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه، قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلى عند الكعبة، قال: فقمت منه قريبًا فأبى الله إلاّ أن يسمعنى بعض قوله، قال: فسمعت كلامًا حسنًا، قال: فقلت فى نفسي: واثكل أُمي! والله إنى لرجل لبيب شاعر ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذى يأتى به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته.

قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد: إن قومك قالوا لى كذا وكذا للذى قالوا، قال: فوالله ما برحوا بى يخوفوننى أمرك حتى سددت أُذنى بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يُسمعنى قولك، فسمعت قولاً حسنًا، فاعرض على أمرك.

قال: فعرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، وتلا على القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه ولا أمرًا أعدل منه. قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحقَّ)).

أتأمرون الناس بالبر:
والمراد بـالناس فى الآية، العامة من أمة اليهود؛ والمعنى: كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم؟ ففيه تنديد بحال أحبارهم، أو تعريض بأنهم يعلمون أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ، ولا يطلبون نجاة أنفسهم.

قال ابن عباس رضى الله عنهما فى معنى الآية: أتنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة، والعهد من التوراة، وتتركون أنفسكم، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدى إليكم فى تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.

والبر بكسر الباء: الخير فى الأعمال فى أمور الدنيا وأمور الآخرة؛ ومن المأثور قولهم: البر ثلاثة، بر فى عبادة الله، وبر فى مراعاة الأقارب، وبر فى معاملة الأجانب.

ثم إن التوبيخ فى الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر؛ ولهذا ذم الله تعالى فى كتابه قومًا كانوا يأمرون بأعمال البر، ولا يعملون بها، ووبَّخهم به توبيخًا يتلى إلى يوم الناس هذا؛ إذ إن الأمر بالمعروف واجب على العالِم، والأولى بالعالِم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب عليه السلام لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [هود: 88] فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولى العلماء من السلف والخلف.

و(النسيان) فى قوله جلَّ وعلا {وتنسون أنفسكم} هو الترك، أي: تتركون أنفسكم بإلزامها ما أمرتم به غيركم؛ والنسيان (بكسر النون) يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، ومثله قوله تعالى {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] وقوله أيضًا {فلما نسوا ما ذكروا به} [الأنعام: 44] وما أشبه ذلك من الآيات؛ ويكون خلاف الذكر والحفظ.

وقوله سبحانه {أفلا تعقلون} استفهام عن انتفاء تعقُّلهم، وهو استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، نزلوا منـزلة من انتفى تعقله، فأنكر عليهم ذلك، إذ إن من يستمر به التغفل عن نفسه، وإهمال التفكر فى صلاحها، مع مصاحبة شيئين يذكِّرانه، قارب أن يكون منفيًا عنه التعقل، وكون هذا الأمر أمرًا قبيحًا لا يشك فيه عاقل.

والمقصود من هذا الخطاب القرآنى تنبيه المؤمنين على ضرورة التوافق والالتزام بين القول والعمل، لا أن يكون قولهم فى واد وفعلهم فى واد آخر؛ فإن خير العلم ما صدَّقه العمل، والاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال؛ وإن مَن أَمَرَ بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة؛ وفى الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ((كان خلقه القرآن)) أي: إن سلوكه صلى الله عليه وأفعاله كانت على وَفْقِ ما جاء به القرآن وأمر به؛ إذ إن العمل ثمرة العلم، ولا خير بعلم من غير عمل.

الاستعانة بالصبر والصلاة:
حين بشرت الملائكة مريم عليها السلام بقولها: {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين} [آل عمران: 42] أرشدتها إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقالت {يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين} فلما خصت الملائكة الصلاة من بين سائر العبادات دل ذلك على أهميتها حيث إنها لو عملت عملاً آخر يقوم مقام الشكر أفضل من الصلاة لنبهت عليه.

ولما كانت الصلاة بهذه المنزلة العظيمة , وكان أداؤها من أعظم الأعمال التى يتم بها الشكر لله عز وجل كان النبى صلى الله عليه وسلم يكثر منها ((وكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه فقيل تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ؟! فقال: ((أفلا أكون عبداً شكورا)).

وقد سار على هذا النهج الأنبياء صلوات الله عليهم ففى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال النبى صلى الله عليه وسلم ((لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات)) فذكرها إلى أن قال ((بينما هو ذات يوم وسارة إذا أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها : من هذه؟ قال: أختى , فأتى ساره قال : يا ساره ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك , وإن هذا سألنى عنك فأخبرته أنك أختى فلا تكذبينى, فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها فأُخذ، فقال لها: ادعى الله لى ولا أضرك , فدعت الله فأطلق ,ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد فقال: أدعى الله لى ولا أضرك فدعت الله فأطلق .

فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتونى بإنسان إنما أتيتمونى بشيطان فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلى)) .

فدل على أن مجرد ذهابها فزع عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة حتى عادت وبشرته أن الله قد كف يد الظالم، فتأمل استعانته بالصلاة على هذا الأمر الجلل أن تدرك مدى تعظيم أنبياء الله عز وجل لشأن هذه الصلاة وتعلقهم بها ومعرفتهم بأثرها لهذا قال ابن حجر فى فوائد هذا الحديث ((وفيه أن من نابه أمر مهم من الكرب ينبغى له أن يفزع إلى الصلاة)) وقد كان هذا هو دأب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

كيف يتقى الإنسان يوم القيامة:
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}.
عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ لا يموتن أحدكم وعليه دين, فإنه ليس هناك دينار ولا درهم, إنما يقتسمون هنالك الحسنات والسيئات وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يمينا وشمالا.

قال أبو جعفر: فذلك معنى قوله جل ثناؤه: {لا تجزى نفس عن نفس شيئا} يعني: أنها لا تقضى عنها شيئا لزمها لغيرها; لأن القضاء هنالك من الحسنات والسيئات على ما وصفنا.

وكيف يقضى عن غيره ما لزمه من كان يسره أن يثبت له على ولده أو والده حق, فيؤخذ منه ولا يتجافى له عنه؟ .

فتأويل الآية إذا: واتقوا يوما لا تقضى نفس عن نفس حقا لزمها لله جل ثناؤه ولا لغيره, ولا يقبل الله منها شفاعة شافع, فيترك لها ما لزمها من حق.

وقيل: إن الله عز وجل خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم به فيها، لأنهم كانوا من يهود بنى إسرائيل, وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه، وسيشفع لنا عنده آباؤنا.

فأخبرهم الله جل وعز أن نفسا لا تجزى عن نفس شيئا فى القيامة, ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها حتى يستوفى لكل ذى حق منها حقه.

وعن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة, كما قال الله عز وجل)) {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47].

فآيسهم الله جل ذكره مما كانوا أطمعوا فيه أنفسهم من النجاة من عذاب الله -مع تكذيبهم بما عرفوا من الحق وخلافهم أمر الله فى اتباع النبى صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عنده- بشفاعة آبائهم وغيرهم من الناس كلهم؛ وأخبرهم أنه غير نافعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم, وجعل ما سن فيهم من ذلك إماما لكل من كان على مثل منهاجهم لئلا يطمع ذو إلحاد فى رحمة الله .

وقوله: (ولا هم ينصرون) يعنى أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر, كما لا يشفع لهم شافع, ولا يقبل منهم عدل ولا فدية. بطلت هنالك المحاباة واضمحلت والشفاعات, وارتفع بين القوم التعاون والتناصر وصار الحكم إلى العدل الجبار الذى لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء, فيجزى بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها. وذلك نظير قوله جل ثناؤه {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 24-26].

نعمة نجاة بنى إسرائيل من آل فرعون:
فى هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة اُخرى، منَّ بها الله سبحانه على بنى إسرائيل، وهى نعمة تحريرهم من الظالمين: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يَذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِى ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}.

القرآن يعبّر عن العذاب الذى أنزله فرعون ببنى إسرائيل بفعل {يَسُومُونَكُمْ} من «سام» التى تعنى فى الأصل الذهاب فى ابتغاء الشيء، واستعمال هذا الفعل بصيغة المضارع يشير إلى استمرار العذاب، وإلى أن بنى إسرائيل كانوا دوماً تحت التعذيب.

والقرآن عبّر بكلمة «البلاء» عمّا كان ينزل ببنى إسرائيل من عذاب يتمثل فى قتل الذكور واستخدام الإِناث لخدمة آل فرعون، واستثمار طاقات بنى إسرائيل لخدمة الأقباط وإشباع رغبات ونزوات المستكبرين.

والبلاء يعنى الامتحان، فالحوادث والمصائب التى نزلت ببنى إسرائيل كانت بمثابة الامتحان لهم.
كما قد يأتى البلاء بمعنى العقاب، لأن بنى إسرائيل سبق لهم أن كفروا بنعمة ربّهم، فكان ما أصابهم من آل عمران عقاباً على كفرانهم.

كان يوم نجاة بنى إسرائيل من آل فرعون يوما تاريخيا مهما، ركّز عليه القرآن فى مواضع عديدة، ولكنهم قوم لا يشكرون النعمة.

نسأل الله العلى العظيم أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين العابدين لربهم، الذين يرون نعمة الله أكبر من كل حمد وأجل من كل شكر، سبحانه لا تعد نعمه ولا تحصى عطاياه خزائنه ملأى فله الحمد من قبل ومن بعد والحمد لله رب العالمين.