الأستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الأسلامى
المؤمن يحرص دائمًا على أن يكون بيته قبلة للطاعات، ومكانًا لجلسات الإيمان التى ترفع فيها الدرجات، وتنزل عليها الأنوار والبركات، وتحفها الملائكة، ويغفر لحاضريها ببركة الطاعة، وأنوار ذكر رب العالمين.
إنك فى بيتك الذى تقوم دعائمه على الطاعة تحصن زوجتك وأولادك من المعاصى والخطايا، وتحوطهم بسور من رضا الله سبحانه وتعالى يمنع عنهم كيد الشيطان، وكيد الحاسدين، ومكر الماكرين.قال الله – عز وجل - : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس الآية 87 ]
قال ابن عباس : أمروا أن يتخذوها مساجد، وقال ابن كثير : ((وكان هذا - والله أعلم – لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة.وهذا يبين أهمية العبادة فى البيوت ونحن نتذكر محراب مريم، وهو مكان عبادتها الذى قال الله فيه :{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة آل عمران الآية 7] .
إن جعل البيوت قبلة للطاعة والذكر هو أكبر طريق للسعادة، وهو الحصن الحصين الذى يحصن الأسرة كلها من كيد الشياطين، وحسد الحاسدين، وهو الذى يصون الأولاد الذين هم الزرع الذى يعجب الزراع بفضل الله، فما بالك ببيت تربى فيه الأولاد على طاعة الله، وعلى ذكر الله، وعلى اللجوء إلى الله فى كل الأوقات وفى كل الأحوال.
عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ البَيْتِ الذى يُذكَرُ اللهُ فيه، والبيت الذى لا يذكرُ الله فيه مَثَلُ الحى والميِّت)) [أخرجه البخارى ومسلم عن أبى موسى الأشعري] فما هو الذكر؟ أولًا: قراءة القرآن ذكر، والصلاة ذكر والدعاء ذكر، والاستغفار ذكر، وإلقاء الموعظة ذكر، وأى نشاط دينى يصب فى العمل الصالح يعد ذكرًا، لذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير منكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله (([أخرجه الحاكم عن أبى الدرداء].
بعض العلماء يقول: إن ذكر الله لك أيها المصلي، وأنت تصلى أكبر من ذكرك له، هذا معنى قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [سورة العنكبوت الآية:45].
وكان الصحابة – رضى الله عنهم – يحرصون على الصلاة فى البيوت – فى غير الفريضة – وهذه قصة معبرة فى ذلك: عن محمود بن الربيع الأنصاري، أن عتبان بن مالك – وهو من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ممن شهدوا بدرا من الأنصار- أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله ! قد أنكرت بصرى وأنا أصلى لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادى الذى بينى وبينهم لم أستطع أن آتى مسجدهم فأصلى بهم، وددت يا رسول الله أنك تأتينى فتصلى فى بيتى فأتخذه مصلى، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سأفعل إن شاء الله))، قال عتبان :فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال : ((أين تحب أن أصلى فى بيتك؟)) قال : فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر ، فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم)) . [رواه البخارى الفتح 1/519 ]
ويروى أن أحد السلف باع جاريةً له، وكان بيته معمورًا بقيام الليل, وعبادة الله سبحانه وتعالى, فلما ذهبت وهى ترى بقية الناس من خلال هذا البيت الذى نشأت فيه، وهى جارية وأمَة تخدمهم, لما جاء ثلث الليل قامت توقظهم، قالوا: لم يحن الفجر!. فقالت: أو ما تستيقظون إلا الفجر إنَّكم قوم سوء، فلما أصبحت خرجت تبكى إلى سيدها، الذى باعها تسأله بالله أن يعيدها إليه، فقد باعها إلى قوم سوء لا يستيقظون إلا مع الفجر، فانظر إلى أثر هذا البيت، الذى عمر بالتقوى، والصلاح، وعبادة الله سبحانه وتعالى، كيف كان أثره على هذه الجارية، التى تخدم فيه حتى بكت, كرهت أن تفارق هذا البيت، فكيف بأثره على الأبناء، والبنات، والذرية، إنّه أثرٌ كبير يتركه المرء على أسرته، وبيته.
إن أهل البيت السعيد هم أهل تميّز، ومن أجمل ما يجعلهم أهلًا لذلك التميز، وتلك السعادة هو تشرفهم بالوقوف بين يدى الله فى أوقات يكون الناس فيها بين يدى ربهم نائمين مستريحين، وهم لأيديهم رافعون وبرؤوسهم ساجدون وبأعينهم راجعون، وإلى ربهم راغبون، إنها أوقات السحر فنسمات الليل جميلة، فيها السكينة، فيها الصفاء النفسى والروحى والفكري، فيها يبتعد المرء عن كل ما فى الدنيا من نعيم ليقف بين يدى صاحب النعيم الأبدى ربنا- عز وجل- متمنيًا وراجيًا بذلك رحمة الرب الكريم، ما أحلى الوقوف بين يدى الله فى السحر، ما أحلى قطرات الدموع التى تنهمر من خشية الله فى السحر، ما أحلى رفع الأيدى إلى الله فى السحر، ما أحلى الشكوى إلى الله فى السحر.
إن العبادة فى البيت لها أثر عظيم فى إصلاح القلب، وإصلاح النفس، وفى فتح جوانب من العبودية، والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن تنفتح للعبد وهو مع الناس، وفى مَشَاهد الناس، ولها أثر فى تأصيل الإخلاص فى قلبك وتنقيته من شوائب الرياء، وإرادة ما سوى الله عز وجل.
إنَّ البيوت التى يُذكرُ فيها اسم الله سبحانه وتعالى, تحلُّ فيها الملائكة، وتنفر منها الشياطين, فتحلُّ فيها البركة, ولا شك أن اسم الله عز وجل ما ذكر على أمر إلا وحلت البركة فيه، وحين يكون البيت معمورًا بالصلاة, والذكر والتسبيح وغير ذلك مما هو من أمور طاعة الله سبحانه وتعالى, وعبادته، فإنَّ هذا البيت يصبحُ بيتًا مبارَكًا على أهله, وعلى من يسكنه, وكم تحتاج إلى أن تعيش فى هذا الجو الآمن المطمئن, الذى تحل فيه البركة, والخير, كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
وحين يعبد المسلم ربه فى بيته، وحين يكون لبيته نصيب من صلاته, وعبادته لله عز وجل، فإنَّ هذا مدعاةٌ لأن تكون العبادة شأنًا له، وديدنًا له فى كل أحواله، فهو يعبد الله فى المسجد، وهو يعبد الله حين يلتقى برفقته وإخوانه الصالحين, وحين يعود إلى البيت كذلك، فتصبح العبادة شأنًا له، وديدنًا فيلهج لسانه، وجوارحه، وأحواله كلها بالعبادة لله سبحانه وتعالى, فتصبح عبادة الله عز وجل عادةً له يشق عليه أن يتركها، وأمرًا يألفه يصعب عليه أن يفارقه، بعد أن كان يجاهد نفسه، ويكابدها على هذه العبادة.
اللهم اجعل بيوتنا قبلة للطاعات وروضة من رياض الجنات، وأنزل علينا بركات قربك وطاعتك ونورك يا أكرم الأكرمين ويا رب العالمين.
إعمار البيت بالصلاة والتسبيح يــجــــــــــــــــعــلــــه بيتًا مبارَكًا على أهله
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة