وراء كل ضائقة فرج كبير (لأن الله لن يترك عبده تتقاذفه أمواج الابتلاءات،)

محاضرات
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

علمتني الحياة أن وراء كل ضائقة فرج، وأن الله لن يترك عبده تتقاذفه أمواج الابتلاءات، إن هي إلا رحمة الله يمحص بها عباده ويزداد لقلوبهم حبًّا وتوددًا.
علمتني الحياة أن الصبر دوائي وأن الله رجائي وأن دعاء الله شفائي، لقد عشت في أيامي نعيم التضرع إلى الله فإذا هو نعيم لا يضارعه نعيم، وإذا هي جنة لا تماثلها جنة.

هناك يقين في قرارة نفسي أن الله يريد أن يسمع همسات تضرعي وهمس شكواي وبثي له وحده، يا لها من لذة خلوة أخلوها مع خالقي ومولاي تاركًا الدنيا وراء ظهري مطهرًا له قلبي ولساني من كل ما يشغلني عنه.
أعود إليه فقيرًا وحيدًا سعيدًا بمناجاته أتنعم بقربه وكلماته.

كم تؤثر في نفسي آيات وآيات من كتاب الله تعالى أتمثل معناها وأعيش في رحابها.
قال الله ـ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ} [فاطر: 15]، وقال ـ تعالى ـ فـي قصة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِـمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].

قال الإمام ابن القيم: ((حقيقة الفقر: ألا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك واستغناء مناف للفقر))، ثم قال: ((الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة مـن ذراتــه الظاهـرة والباطنـة فاقـة تامـة إلى الله تعالى من كل وجه)).

افتقاري إلى ربي أن أجرد قلبي من كل حظوظها وأهوائها، وأقبل إلى ربه ـ عـز وجل ـ متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً بمحبته وطاعته، قال الله ـ تعالى: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـ 163].

قال يحيى بن معاذ: ((النسك هو: العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله ـ عز وجل ـ من القلب)).
كلما كان العبد أعلم بالله ـ تعالى ـ وصفاته وأسمائه كان أعظم افتقاراً إليه وتذللاً بين يديه، قال الله ـ تعالى: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقال: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَـمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107-109].

من عرف قدر نفسه، وأنَّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً؛ تصاغرت نفسه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرعه بين يديه، قال عز وجل: {فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق: 5].

وقد جمع الإمام ابن القيم بين هذين الأمرين بقوله: ((مَنْ كملت عظمة الحق ـ تعالى ـ في قلبه؛ عظمت عنده مخالفته؛ لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة مَنْ هو دونه، ومَنْ عرف قدر نفسه وحقيقتها؛ وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونَفَس، وشدة حاجتها إليه؛ عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظـة ونَفَـس)).

نحن في حاجة دائمة الله في حاجة إلى مناجاته في حاجة إلى التضرع إليه والأنس به والبكاء بين يديه.