الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
آل فرعون مثال للمتكبرين الكافرين:
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 11 ) }.
شأن الكافرين في تكذيبهم وما ينزل بهم شأن آل فرعون والذين من قبلهم من الكافرين أنكروا آيات الله الواضحة فعاجلهم بالعقوبة بسبب تكذيبهم وعنادهم، والله شديد العقاب لمن كفر به وكذَّب رسله.
لقد أرسل الله موسى عليه السلام بالآيات والسلطان المبين إلى فرعون الذي تكبر على الملأ وقال: أنا ربكم الأعلى، فجاءه موسى بالآيات البينات، ودعاه إلى توحيد رب الأرض والسماوات، فقال فرعون منكراً وجاحدًا: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23].فأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات وكان له آية في كل شيء من المخلوقات، فأجابه موسى {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، ففي السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيقان للموقنين، فقال فرعون لمن حوله ساخراً ومستهزئاً بموسى: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] .
فذكَّره موسى بأصله وأنه مخلوق من العدم وصائر إلى العدم كما عُدم آباؤه الأولون فقال موسى {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، وحينئذ بهت فرعون فادَّعى دعوى المكابر المغبون فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، فطعن بالرسول والمرسِل، فردَّ عليه موسى ذلك وبيَّن له أن الجنون إنما هو إنكار الخالق العظيم فقال: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28]، فلما عجز فرعون عن ردِّ الحق لجأ إلى التهديد والتوعد بالسجن فقال : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29].
وما زال موسى يأتي بالآيات كالشمس وفرعونُ يحاول بكل جهده ودعاياته أن يقضي عليها بالرد والطمس حتى قال لقومه : {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف:51-56] .
وكان من قصة إغراقهم أنَّ الله أوحى إلى موسى أن يسري بقومه ليلًا من مصر فاهتمَّ لذلك فرعون اهتماماً عظيماً، فأرسل في جميع مدائن مصر أن يحشر الناس للوصول إليه لأمرٍ يريده الله، فجمع فرعون قومه وخرجوا في إثر موسى متجهين إلى جهة البحر الأحمر {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] البحر من أمامنا فإن خضناه غرقنا، وفرعون وقومه خلفنا فإن وقفنا أدركنا؛ فقال موسى: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فلما بلغ البحرَ أمره الله أن يضربه بعصاه فضربه فانفلق البحرُ اثني عشر طريقاً، وصار الماء السيال بين هذه الطرق كأطواد الجبال، فلما تكامل موسى وقومه خارجين، وتكامل فرعون بجنوده داخلين، أمر الله البحر أن يعود إلى حاله فانطبق على فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين .
النصر دائمًا للمؤمنين:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 12 ) }
قل - أيها الرسول-، للذين كفروا من اليهود وغيرهم والذين استهانوا بنصرك في «بَدْر» : إنكم ستُهْزَمون في الدنيا وستموتون على الكفر وتحشرون إلى نار جهنم; لتكون فراشًا دائمًا لكم وبئس الفراش.الغلبة في نهاية المطاف للإسلام والمسلمين؟ تلك مسلمات لا تقبل الجدل وأدلتها من الكتاب والسنة قد لا تحصر وإن كان الله قد جعل لكل شيء قدرا، وجعل للنصر شروطا لا بد توفرها وهي ليست ضربا من المستحيل، ولا فوق طاقات البشر، ولكنها تحتاج إلى صدق وإخلاص وجهاد ونية، والمسلمون اليوم ممتحنون ليثبتوا صدق جهادهم لدينهم، وولائهم لشرع ربهم والمؤمنين وبراءتهم الكفر والكافرين وقد قيل لمن هم خير منهم {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }.
ولن يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا وسيدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ((لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ)) [رواه أحمد وصححه الحاكم وابن حبان والألباني].
الموعظة من غزو بدر:
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ (13) }.قد كان لكم - أيها اليهود المتكبرون المعاندون- دلالة عظيمة في جماعتين تقابلتا في معركة «بَدْر» : جماعة تقاتل من أجل دين الله وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجماعة أخرى كافرة بالله تقاتل من أجل الباطل ترى المؤمنين في العدد مثليهم رأي العين وقد جعل الله ذلك سببًا لنصر المسلمين علبهم، والله يؤيِّد بنصره من يشاء من عباده، إن في هذا الذي حدث لَعِظة عظيمة لأصحاب البصائر الذين يهتدون إلى حكم الله وأفعاله.
خرج رسول الله بنفسه في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار، وكانت راية المهاجرين مع مصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب، وراية الأنصار مع سعد بن معاذ، ولم يكن معهم سوى سبعين بعيرًا وفرسين، فكان الرجلان والثلاثة يتناوبون على ركوب البعير الواحد بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعند أحمد بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميلَي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا كان عُقْبَة يعني نوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشي قالا: اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك، فيقول: ((ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما)).
وبلغ أبا سفيان خروجُ المسلمين لملاقاة القافلة، فبعث رجلاً اسمه ضَمْضَم الغفاري إلى مكة يستصرخ قريشًا أن ينفروا لحماية تجارتهم، فنهضوا مسرعين، وخرجوا من ديارهم كما قال عز وجل: (بَطَرًا وَرِئَاء ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
ثم إن أبا سفيان انحرف إلى ساحل البحر فنجت القافلة، وكتب إلى قريش أن ارجعوا فإنما خرجتم لتحرِّزوا تجارتكم، فأتاهم خبرُه فهمّوا بالرجوع، فانبعث أشقاهم أبو جهل فقال: والله لا نرجع حتى نقدَمَ بدرًا فنقيمَ فيها، نطعمُ من حضرنا، ونسقي الخمر، وتعزفُ علينا القِيَان، يعني المغنيات، وتسمعُ بنا العرب، فلا تزال تهابنا أبدًا وتخافنا.ولما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرُ خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم أبو بكر ثم عمر ثم المقداد فأحسنوا، ثم استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى، فعلم الأنصار أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما يعنيهم، فقال سعد بن معاذ: كأنك تُعرض بنا يا رسول الله، وكأنك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فأمض بنا حيث شئت، وصِل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منها كان أحبَ إلينا مما تركت، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البَرْك من غمدان أقصى الجزيرة لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ثم تكلم المقداد بمثل ذلك، فأشرق وجه الرسول بما سمع منهم وقال: ((سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم)).
زينة الدنيا وغفلة القلب:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}.حُسِّن للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والأموال الكثيرة من الذهب والفضة والخيل الحسان والأنعام من الإبل والبقر والغنم والأرض المتَّخَذة للغراس والزراعة. ذلك زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية. والله عنده حسن المرجع والثواب وهو الجنَّة.
والمراد بـ (وَالْبَنُونَ) في هاتين الآيتين وفي غيرهما أيضاً من كلام العرب عامة المراد بهم الذكور فقط لأنه يقال بنون ويقال بنات فالبنات هم نوع من البشر والبنون هم النوع الآخر من البشر فهما نوعان من البشر قال الله تعالى {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ} ومن المعلوم أن تعلق الإنسان بالبنين أكثر من تعلقه بالبنات ومع هذا فإنه يجب على الإنسان أن يعدل بين أولاده الذكور والإناث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم} وبهذه المناسبة أود أن أبين أنه يجب على الإنسان في عطية أولاده أن يعدل بينهم فيعطي الذكر مثل حظ الأنثيين فإذا أعطى الذكر مائة ريالٍ مثلاً فليعط الأنثى خمسين ريالاً هذا بالنسبة للعطايا التي هي تبرع محض وأما النفقات فالعدل فيها أن ينفق على كل واحدٍ منهم بما يحتاج إليه وهذا يختلف باختلاف حال الولد فإذا كان لديك أولادٌ قد بلغوا سن الزواج واحتاجوا إليه وجب عليك أن تزوجهم إذا كان لديك قدرةٌ على ذلك ولا تعطِ الآخرين الذين لم يبلغوا سن الزواج مثلما أعطيت هؤلاء في الزواج لأن هذا من باب دفع الحاجة وكذلك لو مرض أحد الأبناء واحتاج إلى علاج وأنفقت عليه في علاجه فإنه لا يلزمك أن تعطي الآخرين مثلما أنفقت على هذا المريض لأن هذا من باب دفع الحاجة فالمهم أن الواجب على الإنسان أن يعدل بين أولاده في عطية التبرع وأما ما يراد به دفع الحاجة فإن كل واحدٍ منهم تعطيه ما يحتاج إليه.
نعيم الله خير:
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( 15)}
قل - أيها الرسول- : أأخبركم بخير مما زُيِّن للنَّاس في هذه الحياة الدنيا لمن راقب الله وخاف عقابه جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار خالدين فيها ولهم فيها أزواج مطهرات من الحيض والنفاس وسوء الخلق ولهم أعظم من ذلك: رضوان من الله، والله مطَّلِع على سرائر خلقه عالم بأحوالهم وسيجازيهم على ذلك.{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)}
هؤلاء العباد المتقون يقولون: إننا آمنا بك واتبعنا رسولك محمدًا صلى الله عليه وسلم فامْحُ عنا ما اقترفناه من ذنوب ونجنا من عذاب النار.{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)}
هم الذين اتصفوا بالصبر على الطاعات وعن المعاصي وعلى ما يصيبهم من أقدار الله المؤلمة وبالصدق في الأقوال والأفعال وبالطاعة التامة وبالإنفاق سرا وعلانية وبالاستغفار في آخر الليل; لأنه مَظِنَّة القبول وإجابة الدعاء.الدنيا دارُ ممر لا مقر، وهي ظلٌ زائل، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [سورة الحديد].
وأن النعيم التام هو في الدين الحق، فأهل الدين الحق هم الذين لهم النعيم الكامل؛ لأنهم مع استمتاعهم بالدنيا وزينتها الظاهرة، فهم ينتقلون عنها إلى خيرٍ منها، حيث يكون مصيرُهم رضوانَ الله وجنته، وعفوَه ومغفرتَه، كما أخبر الله بذلك في كتابه في غير موضع، كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)} [سورة الفاتحة].
وقوله عن المتقين المهتدين: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [سورة البقرة].
وقوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)}.القلب والبدن هما محل التنعم، لكن القلب هو الأصل في ذلك، والبدن تبع له، ولا يمكن أن يسعد بدنٌ قلبُ صاحبه بائس حزين منكسر، حتى وإن ظهر بين الناس بمظهر الفرِحِ المسرور، لكنه في الحقيقة يعيش همًا لا ينقطع، ونكدًا لا يتوقف، وصراعًا يمزق عقله، ويعصف بمشاعره، ويُحرِق عواطفه.
وإذا تنعم القلب واطمأن، وتذوق طعم اللذة والرضى، فإنه ينقلب ذلك بالنعيم على البدن، ويشعر الإنسان براحة في بدنه، وسعادة في حياته، حتى وإن كان مصابًا في بدنه.
قال هشام بن عبد الملك لأبي حازم: يا أبا حازم ما مالك؟ قال: خيرُ مالٍ ثقتي بالله، ويأسي مما في أيدي الناس.
ولما قيل لابن تيمية في مسيره إلى الحبس في الإسكندرية: “يا سيدي؛ هذا مقام الصبر”، قال: “هذا مقامُ الحمْدِ والشُّكْر، والله إنه نازلٌ على قلبي من الفرحِ والسُّرور شيءٌ لو قُسِم على أهلِ الشامِ ومِصرَ لفَضَل عنهم، ولو أنَّ معي في هذا الموضعِ ذهبًا وأنفقته، ما أديت عُشْرَ هذه النعمة التي أنا فيها”.
إذًا أعظم معاني النعيم سرور القلب وراحته، وانشراحه وأنسه، وبذلك يستطيع البدن أن يتذوق طعم الحياة، وأن يتلذذ بما على وجه الأرض من الطيبات.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
شهد الله أنه المتفرد بالإلهية وقَرَنَ شهادته بشهادة الملائكة وأهل العلم على أجلِّ مشهود عليه وهو توحيده تعالى وقيامه بالعدل لا إله إلا هو العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء أراده الحكيم في أقواله وأفعاله.الدين عند الله الإسلام:
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)}.إن الدين الذي ارتضاه الله لخلقه وأرسل به رسله ولا يَقْبَل غيره هو الإسلام وهو الانقياد لله وحده بالطاعة والاستسلام له بالعبودية واتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي لا يقبل الله مِن أحد بعد بعثته دينًا سوى الإسلام الذي أُرسل به.
الإسلام هو دين جميع الأنبياء الذين كانوا مسلمين بطبيعة الدعوة التي حملوا لواءها، أي الدعوة إلى الإسلام.
أ- فنوح كان مسلما وقد قال لقومه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.ب- وأبو الأنبياء إبراهيم كان مسلما: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
ج- ولم يك إسلام إبراهيم (مرحلة زمنية) خاصة بعصره وجيله، بل هو إسلام امتد في الزمن من بعده متمثلا في وصاته لبنيه بأن يكونوا مسلمين، وأن يثبتوا أبدا على الإسلام: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.. فالدين الذي اصطفاه الله لأولاد إبراهيم هو الإسلام.
د- ولقد استوثق يعقوب - قبيل موته - من بنيه أنهم مسلمون باقون على الإسلام: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
هـ - وموسى كان مسلما حاملا رسالة الإسلام لقومه: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ}.
و- بل إن فرعون نفسه أدرك أن الدين هو الإسلام فنطق بكلمة التوحيد، وأعلن أنه (مسلم) ولكن بعد فوات الأوان: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
ز- وسليمان كان مسلما داعيا إلى الإسلام. فقد كان نص خطابه إلى بلقيس ملكة سبأ: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}. وحين اقتنعت هذه الملكة الذكية الراجحة العقل بدعوة سليمان أعلنت دخولها في الإسلام فأسلمت مع سليمان لله رب العالمين: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
ح- ويوسف كان مسلما إذ دعا ربه أن يتوفاه على الإسلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
ط- وأنبياء بني إسرائيل جميعا كانوا مسلمين (أسلموا) وجوههم لله: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء}.
ي- والمسيح من ضمن أنبياء بني إسرائيل، أي كان مسلما، ولذلك قال حواريوه: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
وتنضبط هذه (التفاصيل الإسلامية) وتتأصل بـ(المنهج الكلي) الذي حمله جميع الأنبياء: بلا استثناء.. والمنهج الكلي هو (لا إله إلا الله)، هو التوحيد الخالص، فكل نبي هتف بهذه الكلمة العظمى ودعا إليها.. وفيما يلي نماذج يتألف منها البرهان: الموضوعي والزمني:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}. {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.. ولا إله إلا الله هي الكلمة الباقية. وقال المسيح عيسى بن مريم: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}
وجاء النبي الخاتم يحمل خلاصة المنهج التوحيدي المشترك الذي حمله إخوانه الأنبياء قبله.. ولقد قال: ((أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، وهو مأمور باتباع منهج شيخ الملة التوحيدية الإسلامية: الخليل إبراهيم: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.إسلام الوجه لله:
{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) }.فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله أي جادلوك بالأقاويل المزورة والمغالطات، أي : جادلوك أي : بما يأتونك به من الباطل من قولهم : “ خلقنا، وفعلنا، وجعلنا، وأمرنا وسمينا الناس بسنه أو شيعه ليتميزوا ليظهر الحق من البطل” فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحق {فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني} (فإن حاجوك) أي خاصموك، {فقل أسلمت وجهي لله} إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب الآية ، فإن الإسلام دين قد أنكروه ولعب به المفرقون للدين، واختلافهم في اقوالهم يفضي بهم إلى محاجة المسلم في تبرير ما هم عليه من الدين، وأنهم ليسوا على أقل مما جاء به القران هل علمائهم اعلم من الله (139) قل أأنتم أعلم أم الله- البقره –{قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم}[الحجرات]
والمحاجة مفاعلة ولم يجئ فعلها إلا بصيغة المفاعلة، ومعنى المحاجة المخاصمة، وأكثر استعمال فعل “حاج” في معنى المخاصمة بالباطل : كما في قوله تعالى : {وحاجه قومه} فالمعنى : فإن خاصموك خصام مكابرة فقل أسلمت وجهي لله، نسأل الله العلي العظيم أن يجعل وجهنا وعملنا وحياتنا خالصة لوجه الله وحده.
***
آل فرعون مثال للمتكبرين الكافرين
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة