بقلم:
فضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوضالداعية والمفكر الإسلامي
من ثمرات الدخول في معية الإيمان، أن يكون القلب رقيقًا، ومن ثمرات هذه الرقة كثرة البكاء من خشية الملك، وهذه الحالة ما تسمى بالاستحضار وأقرب مثال لها استمرار البكاء مع استمرار السجود، إذ أن طول السجود يؤدي إلى كثرة البكاء، وقد كان داود عليه السلام لا يرفع رأسه من السجود إلا عندما تبتل الأرض من تحته ومن دموع عينيه، فإذا ما رفع رأسه، فإن الأرض كلها تكون مبللة..
والبكاء من خشية الله عز وجل هو أعلى مراتب العبادة، والمكان الذي يصله شىء من البكاء من خشية الله عز وجل، لا تمسه النار؛ ولذا كان الصالحون يأخذون دموعهم، ويمسحون بها أجسادهم.
إن معين الإيمان يزداد على القلب، وحينما لا يقدر القلب على الاحتمال، ويصل البدن إلى حالة لا تقوى على تحمل البكاء، كما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما قرأ عليه سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } [41] فقال صلى الله عليه وسلم حسبك. فالتفت إليه عبد الله بن مسعود، فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تزرفان دموعها.
ولدينا نماذج من أناس قتلهم القرآن الكريم؛ وهذا ليس بمستغرب فمن عرف كتاب الله تعالى وعلم أسراره ذاب كبده؛ مثل الرجل الحبشي، الذي لم يتحمل سورة الإنسان، عندما بلغ النبي قوله تعالى في سورة الإنسان، التي نزلت خاصة للإجابة على سؤاله، عندما سأل سيدنا صلوات ربي وسلامه عليه، هل إذا دخلت الجنة سأكون معك يا رسول الله ؟ فأجاب الملك، وحق له أن يكون الملك، { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20 ] فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد مات، لأنه ظل يبكي ويبكي إلى أن مات.
وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيه: قتله الشوق إلى الله، أي إنه وصل إلى مرحلة اشتياق إلى الله تعالى، وتعجل للقائه.. وهاتان الحالتان جعلته لا يقدر، وجعلت جسمه لا يقدر أن يتحمل الأنوار، وكثيرون من هؤلاء كان حينما يقرأ آية من القرآن الكريم تزلزله، ويرتعش معه ويرتجف حتى يموت.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لا يستطيع أن يصلي بالناس إمامًا؛ لأنه إذا صلى بالناس إمامًا، كان أسيفا أي رقيق القلب، ولا يقوى أن يصلي بالناس، فبمجرد أن يبدأ الفاتحة، تنهمر عيناه، وينهمر قلبه، وفؤاده، ولا يقدر أن يصلي بالناس، لا يحمله بدنه رضي الله تعالى عنه.
وهذا الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه، أمير المؤمنين، عالمه في البكاء شىء مزلزل، فريد في نوعه، فقد كان رقيق القلب، رغم شدته في الحق، وهذه عبقرية عمر رضي الله تعالى عنه، فهو إمام عادل، وإمام قوي، وفي الوقت نفسه رجل سحاء بالبكاء، عيناه باكيتان، وليس ببكاء عادي، فقد كان إذا ذكرت النار قال يا ليتني كنت... ليت أم عمر لم تلد عمر، ويبكي حتى يسمع أنينه، من بعيد، ويلتفت الناس حوله، ماذا بك يا أمير المؤمنين ؟
فيقول إني تذكرت النار حامية، ورأيت نفسي يلقى بي في نار جهنم، فقلت ليت أم عمر لم تلد عمر، وكان في وجهه خطان أسودان، وفي وجه سيدنا عمر من كثرة البكاء، نهران يسيل فيهما الدموع، تنزل الدموع وتعرف طريقها إلى لحيته لكي تبتل، وإلى بدنه الطاهر من خشية الله عز وجل، ونزلت منه الدموع، يعتبر أن هذه لحظة فارقة في حياته، إذا تزلزل الإنسان ونزلت دموعه، فغمرت لحيته، أو على بدنه، أو على كتبه، أو على مصحفه.
وهذا عثمان بن عفان، أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، ذو النورين، كان البكاء حاله، حياء مع بكاء مع تواضع، مع رقة في القلب، يزور المقابر، وكلما زارها يبكي، فيقال له لمْ َ تبكِ يا أمير المؤمنين؟
فيقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول القبر أول منازل الآخرة، فمن نجى منه كان ما بعده أيسر ويبكي، فالبكاء عند هؤلاء، ليس بكاء لحظة كما هو الحال عندنا، لا بل لليالي كاملة، ولا ينسى أبدا كيف كان بكاؤه حينما يسمع قوله تعالى{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) } [ق].
مدرسة البكائين تخرج منها جميع الصحابة، ولعل سيدنا حذيفة بن اليمان، أمين سر النبي صلوات ربي وسلامه عليه، واحد منهم وهو حالة من القلب الحاضر، والبكاء المتواصل، من العينين البكائتين من خشية الله تعالى.
وهذا ثعلبة بن عبد الرحمن، وهو أستاذ كبير في مدرسة البكائين، شاب يموت باكيا، وتشيعه الملائكة، وكيف غفر الله عز وجل له، وكيف بشره جبريل عليه السلام، وكيف هذه الرقة التي أصابت قلوبهم حتى جعلت عيونهم سخاءة من خشية الملك.
وها هو عطاء السليمي، الأستاذ الكبير في مدرسة البكائين، ولكن ماذا أحدثكم عنه، فهو رجل كان يبكي أياما متواصلةً، ومعه محمد بن المنكدر، والذي كان معنا عند حديثنا عن "مع العابدين".
مع البكائين من خشية الله
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة