الأستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
المسلمون أول من نشروا النظافة فى أصقاع الدنيا حيثما حلوا .
إن الإسلام هو دين الفطرة، تصلح به كل الأزمنة والأمكنة، وهو دين العقيدة والشريعة، يعالج شئون الحياة كلها فى كل عصر، ويقضى فى كل أمر.
هو دينٌ يجمع البشاشة فى حياء، وحسن الخُلقُ فى ابتسامة، دين يعترف بما للبشر من أشواقٍ قلبية، وحظوظ نفسية، وطبائع إنسانية. ولقد أقر الدين ما تتطلبه الفطرة من سرور وفرح، ولباس وزينة، ومن متطلبات الفطرة التى جاء بها دين الإسلام التطهر،والذى هو مصاحب ومرتبط بإصلاح المعتقد وسلامة الباطن، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[ البقرة: 222].
والتطهر هنا يقصد به التخلص من الأقذار الظاهرة والباطنة والمعاصى الحسية والمعنوية.
وقد مدح الله تعالى فى قرآنه الكريم الصحابة، فقال:{ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}[التوبة: 108]. {ياأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }[المدثر:1-5]. والطهارة على نوعين: طهارة الباطن، وطهارة الظاهر.
وطهارة الباطن، ويُقْصَدُ بها فى المقام الأول تطهير العقيدة، وتنقيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، وهى مقرونة بتطهير الظاهر فى بدن الإنسان وثوبه ليجمع المسلم بين النظافتين، ويحافظ على الطهارتين.
فحين يجمّل الدين البواطن بالهداية إلى الصراط المستقيم، فإنه يجمّل ظواهرهم فى أحسن تقويم .والأخذ بالزينة، والقصد إلى التجمل، والعناية بالمظهر، والحرص على التنظف والتطهر من أصول الإصلاح الدينية والمدنية التى جاء بها ديننا وتميّز بها أتباعه.
ومن المعلوم أن حب الزينة والتزين من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله فى الخليقة .ولقد امتن الله على بنى آدم كلهم بلبس الزينة، حين قال عز شأنه:{يَـابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ}[الأعراف:26].
ولقد وصف الملك جل جلاله أهل الجنة، فقال فى وصف حالهم:
{وَلَقَّـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً }[الإنسان11، 12]. فجمّل وجوهم بالنضرة، وبواطنهم بالسرور، وأبدانهم بالحرير. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديثه: “ الطُّهْورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللهُ أَكْبَرُ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ. كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا”.
إنها الفطرة وسنن المرسلين؛ التى اتفقت عليه الشرائع ودعت إليها الديانات. وترك ذلك وإهماله مضر بالجسم، وتشبه بالوحوش والسباع، بل تشبه بالكفار المبتعدين عن صحيح الفطرة وهدى المرسلين.
ومن المعلوم أن المسلمين هم الذين نشروا النظافة فى أصقاع الدنيا حيثما حلّوا، وأينما وجِدوا مما لم تعرفه الأمم السابقة قبلهم.
ومن يقرأ تاريخ الأمم والملل يعلم أن بعض البشر يعيشون كما تعيش الوحوش فى جزائر البحار، وكهوف الجبال عراة أو شبه عراة الرجال منهم والنساء.
وما دخل الإسلام بيئة ولا بيتًا إلا وعلَّمهم حسن اللباس، وجمال الستر، ونظافة البدن، وطهارة المسلك بالإيجاب تارة وبالاستحباب أخرى.
وما خُليت ديارٌ من هدى النبوة إلا وكان أهلها أشبه بالبهائم لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يتورعون عن قبيح، ولا يهتدون إلى سبيل. وفى عبادة المسلم لربه فى الركن الأهم منها الصلاة، لا بد لها من الوضوء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ لا يقبلُ اللَّهُ صلاةً إلَّا بطُهورٍ ولا يقبلُ صدقةً من غُلولٍ”. كما أن غسل الجمعة واجب على كل محتلم.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يغتسِلُ رجلٌ يومَ الجمُعةِ، ويتطَهَّرُ ما استطاع من طُهرٍ، ويدَّهِنُ من دُهنِه، أو يَمَسُّ من طِيبِ بيتِه، ثم يَخرُجُ فلا يُفَرِّقُ بين اثنين، ثم يصلِّى ما كُتِبَ له، ثم يُنصِتُ إذا تكلَّمَ الإمامُ، إلا غُفِرَ له ما بينه وبين الجمُعة الأخرَى”.
وهناك أعضاء فى بدن المسلم لا بد أن تُغسل مرَّاتٍ كلَّ يوم وليلة. والغُسل من الجنابة واجبٌ، وأقل الغسل الواجب مرة واحدة فى كل أسبوع: ”حَقٌّ على كل مسلم أن يغتسل فى كل سبعة أيام يومًا يغسل فيه رأسه وجسده” والتطهر المأمور به ليس مقصورًا على المجامع ومجالس الناس، ولكنه مطلوبٌ فى جميع الأحوال حتى إذا قعد المرء فى بيته أو ذهب إلى فراشه “ مَنْ باتَ طَاهِرًا باتَ فى شِعَارِهِ مَلَكٌ، لا يَسْتَيْقِظُ ساعَةً مِنَ الليلِ إلَّا قال المَلَكُ اللهمَّ اغفرْ لِعَبْدِكَ فلانًا ، فإنَّهُ باتَ طَاهِرًا”.
وأمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، تُعْرَفُ يوم القيامة بين الأمم بغرتها من آثار الوضوء، والسواك مطهرة للفم مرضاة للرب.
وإكرام الشعر يكون بالغسل، والدهن، والترجيل والتطييب. وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زَائِراً فِى مَنْزِلِنَا، فَرَأَى رَجُلا شَعِثاً فَقَالَ: “أمَا كَانَ هذَا يَجِدُ مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ؟ “. وَرَأَى رَجُلا عَلَيْهِ ثياب وَسِخَة، فَقَالَ: “أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ؟ “
النظافة ضرورة وليست ترفا، وهى ليست محسوبةً من الكماليات التى يُلتفت إليها بعد الفراغ من الشواغل، بل هى شغلٌ مهم يزاحم الشواغل الأخرى على أوقاتها، والنظافة قيمةٌ حضارية من قِيمِ الحضارةِ الإسلامية، حثنا عليها ديننا قبل أن نراها ماثلةً فى الحضارات الحديثة، بل هى فى حضارة الإسلام أشملُ وأدقُ وأوفى. إن عنايةَ الإسلامِ بالنظافة أعمُّ وأوفى؛ لأنه ألمَّ بأطرافها،فاعتنى بالنظافتين: نظافة الفرد فى نفسه، ونظافة المجتمع فى مُدنِه وبيئته، ولم يَدَعْ للفرد خِيارًا أن يُبقيَ ما تقتضى النظافةُ إزالتَه،
أو يهملَ ما تقتضى النظافةُ معالجتَه وتعاهدَه، وهو الاعتناء الذى لا تجده فى الحضارات المادية اليوم، حيث عُنيتْ بالنظافة المدنية،
وأهملت جوانبَ من النظافة الفردية، فتركَتْها لصاحبها يأخذ منها بقدر ما يقنعه، ويهمل منها ما يعارض مزاجه ونـزعتَه، فَلَهُ أنْ يُطيلَ أظفارَه، ويعفيَ شاربَه، ويطيلَ ما شاء من شعور بدنه؛ لأن المسألة عندهم داخلةٌ فى حدود الحرية الشخصية.
وليس الأمر كذلك فى ديننا، فما يراه الإسلام داخلًا فى معنى القذارة يجب أن يُزال، ولا يُترك للأمزجة الشخصية؛ ويمضى الإسلام فى تتبع ما توجب النظافةُ إزالته أو تعاهده من أعضاء الجسد.ولم ينس الإسلام الفم من هذه القيمة الحضارية فى الإسلام، حيث السنة النبوية على ضرورة المضمضة والاستياك، فقال صلى الله عليه وسلم “تَسَوَّكُوا فَإِنَّ السِّوَاكَ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ، ومَا جَاءَنِى جِبْرِيلُ إِلَّا أَوْصَانِى بِالسِّوَاكِ، حَتَّى لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي، وَلَوْلَا أَنِّى أَخَافُ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لَفَرَضْتُهُ لَهُمْ، وَإِنِّى لَأَسْتَاكُ حَتَّى لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أُحْفِيَ مَقَادِمَ فَمِي”.
ويدخل فى معنى السواك كل ما يُنقى من أدوات تنظيف الأسنان، إذ المقصود تنظيفها وتطهيرُ الفم .ومن أكلَ شيئاً حتى وُجدتْ منه رائحةٌ كريهةٌ يتأذى منها الناسُ فهو ممنوع من حضور الصلاة فى المسجد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم : “من أكل ثومًا أو بصلًا فلا يقربنّ مسجدنا حتى يذهبَ ريحُها؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس”وفى حكم الثوم والبصل كلُّ ما له رائحة كريهة، فالعبرة بتأذِّى الناس،على أنه من أكل شيئا من ذلك تحايلاً لإسقاط وجوب الجماعة، فهو آثم بتحايله، منهيٌ عن حضورها بفعله.
هذه بعضٌ من صور عناية الإسلام بنظافة الفرد فى نفسه، وهى وإن كانت فروع من فروع، دون الأصول والأولويات بمراتب؛ إلاَّ أنه ينبغى ألا يمنعنا الحياء أن نتعلم هذه الدقائق من الآداب، ونعلِّمها أولادنا وأهلينا، ولو لَـمَزَنا بها الآخرون؛ وقد أخرج مسلم عن سلمان الفارسى - رضى الله عنه - أن بعض المشركين قال له: علَّمكم نبيكم كل شيء حتى الخِراءة؟ أي: قضاء الحاجة. قالها استهزاءً وسخريةً، فقال: “أجل! لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، وأن نستنجيَ باليمين، وأن نستنجى برجيعٍ أو عظم”.
والتطهر والتنظف يمتد من الأبدان إلى البيوت، والطرقات والمساجد ومجامع الناس يقول الله تعالى:{وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج:26].ولقد جعل الإسلام إماطة الأذى عن الطريق صدقة !. كما أن حسن الملبس وجمال الهندام مطلوب قدر الاستطاعة، فعن مالك بن نضلة الجشمي، قال: “أتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، قال : ألَكَ مالٌ ؟ قال : نعم ، قال : من أيِّ المالِ ؟ قال : قد آتانى اللهُ من الإبلِ والغنمِ والخيلِ والرقيقِ ، قال : فإذا آتاك اللهُ مالًا فلْيُرَ أثَر نعمةَ اللهِ عليكَ وكرامتَه”، وقد يظن بعض الناس أن المبالغة فى التطهر والتجمل تصنع وتكلف وكبر.
وهذا ليس بمقصود بل إن الله تعالى زيننا لما خلقنا لأن للعين حظًا من النظر، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظف الناس وأطيب الناس، وكان لا يفارقه السواك، ويكره أن يشم منه ريح ليست طيبة. فهو عليه الصلاة والسلام كامل فى العلم والعمل فبه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق.
العلاقة بين طهارة الباطن والظاهر.
من دقق النظر فى طبائع النفوس وأخلاق البشر رأى بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن، وطهارة الجسد واللباس وطهارة النفس وكرامتها، ارتباطًا وثيقًا.
فهناك تلازمٌ بين شرع الله ( فاللباس للستر، والزينة وبين تقوى الله فى النفوس فكلاهما لباس). فالتقوى لباس يستر عورات القلوب ويزيّنها والثياب تستر عورات الجسم وتزيّنها.
ومن تقوى الله ينبع الحياء الذى ينبت الشعور باستقباح عرى الجسد والحياء منه، ومن لا يستحى من الله ولا يتقيه فلا يكترث أن يتعرى أو يدعو إلى التعري.ومن أجل هذا أيها الإخوة فإن ستر الجسد ليس مجرد أعراف وتقاليد ،ولكنها فطرة الله التى فطر الخلق عليها وشريعته التى أنزلها وكرّم بنى آدم بها.
وبعد أيها الإخوة، فعناية الإسلام بالنظافة والتجمل والصحة، والتطهر جزء من عنايته بقوة المسلم. قال تعالى:{ يَـابَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[ الأعراف:31] .
فالأناقة من غير سرف، والتجمل فى غير تكلف من آداب الإسلام وتوجيهاته. إنه الإسلام الذى ينشد لبنيه علوّ المنزلة وجمال الهيئة؛ ليكونوا فى الناس كالشامة البيضاء.
ما هجرت ديارٌ هدى النبوة إلا كان أهلها لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا
التقوى لباس يستر عورات القلوب ويزيّنها والثياب تستر عورات الجسم
مع المتطهرين
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة