بقلم د. شعبان عبد الجيد.
( مدرس الأدب والنقد بكلية التربية جامعة مدينة السادات).
يوحي هذا العنوانُ بَداءةً أن للشعر لغةً غيرَ لغةِ النثر ؛ وهذا ليس صحيحاً إذا كنا نفهم اللغةَ على أنها المفرداتُ التي تتألف منها الجُمل ، أو العبارات التي تتكون منها الأفكار . ولكنه صحيحٌ إذا ما قصدنا منه طريقةَ نظم المفردات ، وأسلوبَ بناء الجمل ؛ فالنثر والشعر كلاهما ـ كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري ـ يستخدمان الكلماتِ نفسَها ، والتراكيبَ النحويةَ نفسَها ، والأشكالَ والأصوات نفسَها ؛ بَيْدَ أنهما يختلفان في الاستثارة ، ويفترقان في التنسيق .
إن لغة النثر واقعيةٌ ومنطقيةٌ ومحدَّدة ، ولغة الشعر خيالية وعاطفيةٌ وفضفاضة . إن الشعر هو الفن المعادي للنثر ؛ هذا مصدره العقل وبغيته الاتصال ، وذلك منبعه الشعور وغايته الجمال ؛ وبينهما حجاب !
وأذكر أن الأستاذ العقاد ـ رحمه الله ـ كان يصف العربية بأنها " اللغة الشاعرة " وله كتابٌ يحمل العنوانَ نفسَه ، ذهب فيه إلى أن العربية لغةُ المجاز ؛ والمجاز هو الأداة الكبرى من أدوات الشعر ؛ لأنه تشبيهات وأخيلة وصور مستعارة ، وإشارات ترمز إلى الحقيقة المجردة بالأشكال المحسوسة ، وهذه هي العبارات الشعرية في جوهرها الأصيل .
إن النثر كالسَّيْر ، أو حتى الجري ، له هدفٌ محدَّدٌ وغايةٌ واضحة ؛ لأنه فعلٌ موجَّهٌ لجهةٍ نقصدها . وحركات السير كلُّها اقتباسات خاصة ، وهي تنتهي وتفنَى بإتمام العمل والوصول إلى الهدف .
أما الشعر فإنه كالرقص ؛ وهو نظامٌ لمجموعةٍ من الأفعال تُقصّدُ لذاتها ولا تتجه أيَّ اتجاه . إن لغة النثر نستخدمها لنعبِّر عن رغباتنا وآرائنا ، وهي تفنى بمجرد الاستماع إليها وبعد أن يتحقق الغرضُ منها . إننا نتحدث بها ـ أو نكتبها ـ لتهلكَ بعد حين ، ولِتتحول تحولاً جِذرياً إلى شيءٍ آخرَ في ذهن المستمع . وليست كذلك أبداً لغة الشعر ؛ إنها لا تموت بعد أن تحيا ، فهي مصمَّمةٌ ومشكَّلةٌ لكي تولَدَ مرةً أخرى ؛ وتُبعَث من رمادها لتصبح دائماً ما كانت عليه ، وتظلُّ ، ولو بعد ألفِ عامٍ ، مثلما أنشأها الشاعر أول مرة ؛ أو كما لو أنه نفض منها اليدين بالأمس نفضاً !
وهذا ما يوضِّحه الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه " مع الشعراء " حين يقول إن مادة الشعر كلمات ؛ والكلمات في نشأتها الأولى رموزٌ تواضع عليها أبناءُ الجماعة الواحدة ، لترمزَ إلى شيءٍ سواها ، حتى لَيستطيعُ المتكلم أن ينيبَ عن مُسَمَّاها . ومعنى ذلك ألا تكون كلمات اللغة مقصودةً لذاتها ؛ إذ هي وسيلةٌ إلى ما عداها ، أي أن اللغة كانت في أول أمرها أداةً اجتماعية بالضرورة ، ولكن هذه الأداة اللغويةَ سرعان ما تحولت عن طبيعتها الأولى إلى طبيعةٍ ثانية ، وهي أن نقف عند حدِّ الأداة اللغوية ذاتها ، فنطلبها لذاتها ، ولا ننفذ منها إلى شيءٍ وراءَها .
ومن الطريف أن ثلةً من القدامى وقليلاً من المحدَثين قد شغلوا أنفسَهم بالمفاضلة بين الشعر والنثر ؛ فذهب نفرٌ منهم إلى أن " الكلام المنثور وإن راقت ديباجته ورقت بهجته ، وحسنت ألفاظه وغربت مناهله ؛ إذا أنشده الحادي وأورده الشادي ، لا يحرك رزيناً ولا يُسَلِّي حزيناً ، ولا يُظهر من القلوبِ كميناً . فإذا حُوِّل بعينه نظماً ، ووُسِم بالوزن وَسماً ألجَّ الأسماع بغير امتناع ، وملَك القلوب كما تُملكُ الإماءَ في الحروب . والشعر معدن تفضيلٍ وإعجاز ؛ يشجع الجبان ويُسمِحُ البخيلَ وإن بَرِم ، ويستصبي الشيخَ وإن هَرِم " .
وذهبت طائفةٌ أخرى إلى أن " النثر كالحُرَّة ، والنظمَ كالأَمَة ؛ والأمَةُ قد تكون أحسنَ وجهاً وأدمثَ شمائلَ وأحلى حركاتٍ ، إلا أنها لا توصَف بكرم جوهر الحرة ، ولا بشرف عِرقها وفضل حيائها " .
وتأرجحت جماعةٌ أخرى بين التعصب للشعر والانتصافِ للنثر ، فمالوا إلى " إن أحسن الكلام ما رقَّ لفظُه ولطُف معناه ، وتلألأ رونقُه وقامت صورته ، بين نظمٍ كأنه نثر ، ونثرٍ كأنه نظم " ؛ وقال قائلهم : إن الشعر كلاٌ وإن كان من قبيل النظم ، كما أن الخُطبةَ كلامٌ وإن كان من قبيل النثر ، والانتظام والانتثارُ صورتان للكلام في السمع ، وليس الصوابُ مقصوراً على النثر دون النظم ، ولا الحق مقبولاً بالنظمِ دون النثر .
ولعل أطرف ما ورد في هذا ما كتبه أبو الطاهر السرقُسطي في إحدى مقاماته التي جاءت تحت عنوان : ( في النظم والنثر) ، وهو ما سنفصل القول عنه في قابل الأيام إن شاء الله !
لغةُ الشعرِ ولغةُ النثر
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة