قبل أن تدخل القرية الكهرباء القرية سمعت من أبي أن صوت أذانه كان يصل إلى كل بيت

قصص وروايات
طبوغرافي

لم أدركه أنا، أو ربما أدركته في سنواتي الأولى التي لا يتذكر الإنسان فيها إلا أطيافًا ممزوجة من الزمن الجميل.
غير أني سمعت أبي وغير واحد من القرية يخبر أن صوت أذانه كان يصل إلى كل بيت من بيوت القرية قبل أن تدخل القرية الكهرباء، ولا مكبرات الصوت، وكان في صوته عذوبة ندية تأخذ إليها الآذان حتى إني سمعت الناس فيما بعد يضربون بها الأمثال مغلفة بالفخر بجيلهم الذي أنجب مثل هذا الرجل.

ومما عرفته فيما بعد أنه ليس أذانه فقط الذي كان يغمر القرية ويحتضنها، ويلقي عليها حلاوة الإيمان.
بل كان عالمًا في زمن ندر فيه أهل العلم الذين استطاعوا اختراق الجدار الكثيف الذي يحول بين الناس وبين زمن النبوة في ذلك الزمان، وعرفت أنه كان حافظا لكتاب الله يعلم أطفال القرية الذين أدركتهم أنا كهولا قد لوحوا لشبابهم بالوداع.

في يوم من الأيام وأنا صغير أرتني سيدة مسنة ريشة كانت تكتب بها في طفولتها محتفظة بها مع عبق الذكريات، وأخبرتني أن هذه الريشة كانت تكتب بها في كُتَّاب الشيخ عبد المجيد.
وظلت تتحدث عنه برهة بين المدح والإجلال، حتى تمنيت أن أراه.

كلما جاء رمضان كنت أسمع وأنا صغير اسمه يتردد بين الناس، يتذكرون انتظارهم لأذانه ساعة المغرب، وربما كان بعض أهل القرية على سطوح بيوتهم المتواضعة فيرقبونه، وهو يصعد إلى أعلى المسجد، ليرتل الأذان الذي يحمله النسيم سعيدًا؛ فيلقيه على القلوب والبيوت والنخيل.

وفي يوم من الأيام كنت في مسجد العارف وكان حفيده محمد أبو عبد الله يقرأ موعظة على الحاضرين في المسجد، وكان بين يديه كتاب رياض الصالحين، كان يقرأ بعض الأحاديث النبوية، وكنت أجلس بجواره أرقبه، وهو يقلب صفحات كتابه، وفي نهاية كلامه أغلق كتابه، فقرأت على صفحته الأولى اسم جده بخط حبر قديم.

رحم الله الشيخ عبد المجيد رحمة واسعة، ورحم الله حفيده محمد أبو عبد الله، فقد مات منذ سنوات وكان من المقربين لي الذين ألفتهم وألفوني.