قدمتُ البر بوالديّ.. فعوضني اللّه خيرًا كثيرًا

استشارات
طبوغرافي

بقلم: سمية رمضان
المستشار الأسري

download

أنا مهندس عمري 27 سنة، سافرت للخارج بعد حصولي على البكالوريوس للعمل بالخارج وإكمال دراستي، والحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه من إحدى الجامعات الكبرى بالخارج، وخلال فترة سفري مرض أبي جدا، ولكن أمي أخفت عني حقيقة مرض أبي حرصًا منها على مستقبلي ودراستي ، وكانت هذه رغبة أبي أيضا، وبعد فترة عرفتُ بمرض أبي بالصدفة البحتة عن طريق أحد أقاربي الذي أتى للعمل في البلد الذي أدرس وأعمل به، عندما سألني عن أخبار والدي وصحته، وهل استقر صحيًا بعد الأزمة الأخيرة أم لا؟!

بعدها عدت إلى بلدي مرة أخرى، وذهبت بأبي إلى أفضل المستشفيات، وظللت ملازمًا له ليل نهار، حتى تماثل للشفاء بحمد الله وفضله، ومن يومها وأنا أشعر بالتقصير وتأنيب الضمير؛ لأنني تركت والديّ في هذه السن من أجل دراستي وعملي، وشعرت أنني شخص أناني لا أفكر إلا في نفسي فقط، فأنهيت تعاقدي بالخارج، ثم فتح الله لي أبواب الخير الوفير، فالتحقت بإحدى الشركات الكبرى بمرتب كبير، كما التحقت بإحدى الجامعات الخاصة للعمل بالتدريس فيها، ووفرت لوالدي وأمي سيارة خاصة وسائقًا خاصًا، وسيدة تقوم على خدمتهما، وأقضي معهما معظم الوقت المتبقي بعد عملي، وكذلك يوم إجازتي.

والآن ماذا أفعل لأبرهما وأعوضهما، فقد تعبا من أجلي كثيرا، فقد كان والدي موظفا بسيطا، ومع ذلك حرص على تعليمي، وكذلك أمي كانت تدخر من مرتبها البسيط لتوفر لي كل ما أحتاج إليه، أفكر في أن أقدم لهما على رحلة الحج هذا العام، ولكنهما طلبا مني أن أوفر كل أموالي لأتزوج ويفرحوا بي في حياتهما، وأنا لا أتمنى أي شيء في الحياة سوى تعويضهما عن تقصيري، فماذا أفعل لأبرهما؟! وهل يشفع لي ما فعلت في تقصيري في حقهما؟!

أخي الفاضل.. تعجبت جدا من الترابط الذي بينكم داخل الأسرة، ولاحظت أنكم جميعا تتميزون بصفة غاية في الروعة وهي: الإيثار، فالوالدان يؤثران راحتك على راحتهم، ونجاحك على مصلحتهم، ويضحون بكل ما يستطيعون من أجل ذلك، وأنت تؤثر راحتهم وبرهم على كل شيء في حياتك، فيكون جزاء الله العظيم الكريم لك من جنس العمل، فعندما أكرمت والديك وأحسنت إليهما أحسن الله إليك، وأبدلك وعوضك خيرا، وزاد فضله ومنه عليك، إنه الكريم سبحانه، بل أكرم الأكرمين.

لماذا تشعر بتأنيب الضمير أخي المهندس الطموح؟! فأنت محب لوالديك، وتحاول بكل ما استطعت من قوة أن تبرهما وتحسن إليهما، وهما يبادلانك نفس المشاعر الطيبة، وأنا بالطبع أغبطك على إحساسك بالمسئولية اتجاه والديك، فحتى مع هذا البر والعطاء تشعر بالتقصير، وهذا شعورٌ إيجابي وإحساس رائع بالمسئولية، وأتوقف كثيرا أمام الآيات التي تخاطب الأبناء كقول الله تعالى: (إمَّا يبلغن عندك الكبر... )، فكلمة عندك، المراد بها أن يكون الأبوان في كنف الابن وحمايته عند الكبر، لا أن يلقي بهم أحد الأبناء في دار المسنين كما نرى أحيانا في زمننا، ولكني أخشى أن يتحول هذا الشعور بتأنيب الضمير إلى هاجس يجعلك لا تستشعر السعادة في حياتك، ولا تستشعر الفرحة في التواصل معهما، ولهذا عليك من الآن أن تسعد ببرك لأبويك، وأن تتواصل معهما بحب وراحة ضمير، فهناك لحظات جميلة لا تضيعها بتلك الأفكار السلبية، وحول هذه الطاقة إلى طاقة إيجابية من العطاء بلا حدود.

توقفت كثيرا أمام أسلوب تربية أبويك لك، وكيف أنهم أحسنوا الغرس، فحسن الحصاد، بارك الله فيك، وبارك فيهم.. آمين، ولعلها رسالة إلى كل أبوين أن احسنوا الغرس والرعاية؛ لتجنوا أطيب الثمار.

أخي الفاضل/ إذا كان بإمكانك الجمع بين الفكرتين معا، وهي أن تتزوج، وفي نفس الوقت تجهز لسفر أبويك للحج فافعل، وأنا على يقين أن الله سيفتح لك أبواب الرزق من حيث لا تدري ولا تحتسب، ووالدك يريدان أن يفرحا بك وبأحفادهم فلا تحرمهم تلك الفرحة، ويمكنك إن كانت ظروفك المادية لا تسمح بالجمع بين الفكرتين، أن تقدم أوراق والديك للحج، وتحاول أن تبحث عن زوجة مناسبة، وتقوم بعمل خطوبة فقط، على أن يتم الزواج خلال عام أو عامين، وأظن أن وضعك المالي يسمح بذلك كما ذكرت، فتفرح والديك بالقرارين معا
وهذه ستكون فرصة متميزة لحسن الاختيار، وكذلك للتعرف على خطيبتك عن قرب، وحاول أن تخبر خطيبتك بمدى ارتباطك بأهلك وحرصك عليهم، وحرصك على أن تكون زوجتك بارة بهم، وهي بالطبع ستكون سعيدة بذلك، فبالتأكيد الشخصيات الطيبة يرزقها الله بالطيبات، رزقك الله سعادة الدارين.. آمين.

أخي كبير المقام ببرك وحسن خلقك، ذكرني موقفك بقصة غاية في الروعة، حكاها لنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: (بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء .... ) إلى أخر القصة.

وهذه القصة تحمل الكثير والكثير من الرسائل لنا جميعا، تُرى ما هو العمل الصالح لكل منا، والذي سندعو به عند الشدائد والملمات؟!
أخي الفاضل/ ليس من الصدفة أن تعود إلى الوطن فتجد العمل والمكانة والمال، ولكنه جزاء إحسانك وبرك، فالبر لا يبلى، وستجد من أبنائك في المستقبل كل البر والإحسان، ونداء لكل الأبناء في كل مكان (برُّوا أباءكم، تبروكم أبناؤكم).