بقلم:
دكتور / سعيد الشوربجي
تكلم كثيرون عن سر السعادة وخلاصة قولهم أنها تكمن في أعماق نفوسنا كالكنز المدفون أو السر المكنون لا يقدر على استخراجه إلا من هداه الله فمنحه الرضا بالقليل وأعطاه الشكر الجزيل أو الصبر الجميل، وقليل من عباد الله من يملك فضيلة الصبر أو الشكر فضلا عن أن يكون من المحسنين فتلك عبادة المقربين، ويتفاوت الناس في قدراتهم النفسية والتحكم في مشاعرهم الداخلية وردود أفعالهم الظاهرية عند الرضا أو الغضب، فمنهم من يحمل كل شيء على عاتقه فيتعب نفسه ومن حوله، ومنهم من يبسّط الأمور ويحسن الظن فيتغاضى عن أخطاء الآخرين ويلتمس لهم الأعذار، ويترك الأيام تداوي أو تداري كثيرا من المواقف السيئة فتذوب مع الأيام كلوح الثلج في حرارة العواطف الصادقة وتنجرف كالزبد بعيدا، حاملة معها مرارة الصدمات العاطفية والمعاملات السيئة. هذا السلوك يسمى الذكاء العاطفي أو ذكاء المشاعر وهو أقوى أسلحة الإنسان الداخلية تأثيرا حتى الآن لمواجهة الصعاب والتغلب على مشكلات العلاقات الإنسانية وتكوين روابط اجتماعية سليمة.
إن الإنسان الذي يدرب نفسه على تناسي أخطاء الآخرين التي لا يخلو منها أحد، هو بالتأكيد يمكن أن يستمتع بكل ما في الحياة من جمال رغم قسوتها، وإن كان البعض يعتبر هذا السلوك نوعا من التغابي أو التغافل أو البرود العاطفي، فأنا أعتبره أسلوب حياة العباقرة والأذكياء خاصة مع الأقارب والأصدقاء، إنه أسلوب رائع لمن يريد ألا يحرق أعصابه مع الجهلاء أو يهدر طاقاته مع الأغبياء، متمثلا قول جرير:
ليس الغبيُّ بسيد في قومه ... لكن سِّيدَ قومه المتغابي
وفي المثل الألماني: “السعيد من ينسى ما لا سبيل إلى تغييره”، وأحسن من هذا كله قول الله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم) وقد علمتنا التجارب أن من أهم قوانين الحياة الأخذ والعطاء حتى في المشاعر، وأن الدهر يومان يوم لك ويوم عليك، وأنك في الحياة طالب ومطلوب، ولا أحد يخلو من العيوب، وأحوال الناس أمر يخضع للقدر وتغيير قلوبهم ليس في قدرة البشر، وكما يقول أستاذ الحياة الإمام الشافعي:
وَرِزْقُكَ لَيْسَ يُنْقِصُهُ التَأَنِّي وليسَ يزيدُ في الرزقِ العناءُ
وَلا حُزْنٌ يَدُومُ وَلا سُرورٌ ولا بؤسٌ عليكَ ولا رخاءُ
كل ما عليك أيها المؤمن الإنسان أن تدرب نفسك على المسامحة والغفران، بل المجاملة الحسنة إن لزم الأمر في بعض الأحيان، مقابل ذلك سوف تنال محبة الآخرين وتكسب مودة الصالحين، وتمنح من حولك نوعا من الأمان النفسي في معاملتك فلا يخاف الناس من مصاحبتك لو كانت عينك مفتوحة على عوراتهم ولسانك حاد على زلاتهم، فتصبح كالنار تحرق ما حولها ثم تأكل نفسها، يأكلك الغضب، وتصيبك أمراض العصر الفتاكة من القلب والضغط والسكر وتنعدم لديك الثقة حتى في أقرب الناس إليك ويصيبك اليأس من صلاحهم، فتشعر بالوحدة القاتلة وأنت بين الناس وتفقد الأمل بعد أن كنت طموحا حيث لا مُعين، وتضيع منك السعادة وهي أقرب إليك من شراك نعليك، إذ هي في أعماق نفسك التي بين جنبيك.
يجب أن تمضي في حياتك غير مدقق في خبايا الزملاء أو مفتش في نوايا الأصدقاء، لا تكثر من تحليل التصرفات أو تأويل الكلمات أو البحث في النفايات، فتندم على صداقة هؤلاء وتحزن على الإحسان لأولئك، تتحسر على الكلمة الطيبة التي بذلتها في سبيلهم، والبسمة التي أطلقتها في وجوههم، وتنتهي بك الحياة منكمشا أو منعزلا في زاوية مظلمة مصابا بأمراض مؤلمة، قد ضاقت عليك الدنيا بما رحبت وضاقت عليك نفسك بما كسبت.
ونصيحتي أن تهون عليك أخي الكريم؛ فالناس ما زالت تعصي خالقها ورازقها فما بالك بمن يشاركها نفس صفات النقص، فأنا وأنت أحيانا نطلب الكمال والعصمة من الآخرين حولنا بينما نحن جميعا غارقين في الخطأ، من فينا بلا عيوب أو ذنوب؟ نحن البشر خطاؤون دائما ويتوب الله على من يتوب، وصدق من قال : كل إنسان يرى العالم بنظارته التي صنعها لنفسه. ولذا أستطيع الآن أن أعلن لبعض أصدقائي أنني في الحقيقية لست غبيا كما ظنوا لكنني أتغابى أحيانا، وقد أتعامى أو أتجاهل لأن هذا هو أمر الله لنبيه الكريم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وتلك سنة المرسلين وسلوك الصالحين.
وخلاصة القول، إذا أردتَ أن تضبط هذا السلوك لديك وتقيس ذكاء مشاعرك فأجبني، كم تكلفك البسمة اللطيفة أو الكلمة الطيبة أو النظرة الحانية؟ هل يثقل عليك أن تحاول نشر التفاؤل حولك أو تترك بصمة للسعادة يذكرك بها الآخرون حين تغيب؟ هل تعلم أن هذه التصرفات البسيطة هي ثمن سعادتك وراحتك أنت؟ فالابتسامة والتبسط والتنازل والتواضع في المعاملة أخلاق الأقوياء وسر أسرار السعداء، لها أثر السحر في حل أعقد المشكلات خاصة في بيوتنا مع الأولاد والزوجات، ومقياس ذلك أنك إن غبت عنهم افتقدوا لقاءك وإن حضرتك بينهم تمنوا بقاءك، وشر الناس من يُتقى مخافة فحشه.
خلاصة القول: ذكاء المشاعر وسر السعادة
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة