التفسير الموضوعى للقرآن الكريم سورة البقرة الآيات (60-70)

التفسير الموضوعي
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور/ أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الأسلامى

الدكتور

بعد أَخْذِ الميثاق ورَفْع الجبل كش أنكم دائمًا. فلولا فَضْلُ الله عليكم ورحمته بالتوبة, والتجاوز عن خطاياكملصرتم من الخاسرين فى الدنيا والآخرة.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة : 65].

عقوبة الجحود والعصيان:
ولقد علمتم -يا معشر اليهود- ما حلَّ من البأس بأسلافكم من أهل القرية التى عصت الله، فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت، فاحتالوا لاصطياد السمك فى يوم السبت، بوضع الشِّباك وحفر البِرَك، ثم اصطادوا السمك يوم الأحد حيلة إلى المحرم، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله قردة منبوذين.

والمُفسرون لهم رأيان فى معنى المسخ، هل هو مسخ مادى أو مسخ معنوي، بمعنى هل تحول الذين اعتدَوْا إلى قردة وخنازير تحولًا حقيقيًّا، أو تحولت أخلاقُهم فكانت مثل أخلاق القردة والخنازير وتحوّلوا من تكريمِهم كآدميِّين إلى احتقارِهم كقِردة وخنازيرَ؟

القلة من المفسِّرين قالوا بالمسخ المعنوي، جاء فى تفسير القرطبى ج1 ص443 ((أنّ هذا الرأى مروى عن مجاهد فى تفسير هذه الآية أنّه إنِّما مُسِخَتْ قلوبُهم فقط وردَّت أفهامُهم كأفهامِ القردة.

والأكثرون قالوا بالمَسخ المادي. والقائلون به اختلفوا، هل تناسَل هؤلاء بعد المسخ أو لم تناسلوا؟ يقول القرطبى ج1 ص440 : ((اختلَف العلماء فى المَمسوخ هل يَنسُلُ على قولين، قال الزجاج :قال قوم يجوز أن تكون هذه القِردة منهم، واختاره القاضى أبو بكر بن العربى ، وقال الجمهور : الممسوخ لا يَنْسُـِل ـ بضمّ السِّين وكسرِها ـ .

وأن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك، والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسلٌ، لأنه قد أصابهم السخط والعذاب، فلم يكن لهم قَرار فى الدنيا بعد ثلاثة أيّام.

قال ابن عباس : لم يعِش مسخٌ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. قال ابن عطية: ورُوِى عن النبى ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وثبت أن الممسوخ لا ينسُل ولا يأكل ولا يشرب ولا يَعيش أكثر من ثلاثة أيام. يقول القرطبى : هذا هو الصحيح من القولين .

{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة : 66].
فجعلنا هذه القرية عبرة لمن بحضرتها من القرى, يبلغهم خبرها وما حلَّ بها، وعبرة لمن يعمل بعدها مثل تلك الذُّنوب, وجعلناها تذكرة للصالحين; ليعلموا أنهم على الحق, فيثبتوا عليه.

قصة بنى إسرائيل مع البقرة:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ}[البقرة : 67].

واذكروا يا بنى إسرائيل جناية أسلافكم, وكثرة تعنتهم وجدالهم لموسى عليه الصلاة والسلام, حين قال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة, فقالوا -مستكبرين-: أتجعلنا موضعًا للسخرية والاستخفاف؟ فردَّ عليهم موسى بقوله: أستجير بالله أن أكون من المستهزئين.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِى قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ}[البقرة : 68].

قالوا: ادع لنا ربَّك يوضح لنا صفة هذه البقرة, فأجابهم: إن الله يقول لكم: صفتها ألا تكون مسنَّة هَرِمة، ولا صغيرة فَتِيَّة, وإنما هى متوسطة بينهما, فسارِعوا إلى امتثال أمر ربكم.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة : 69].
فعادوا إلى جدالهم قائلين: ادع لنا ربك يوضح لنا لونها. قال: إنه يقول: إنها بقرة صفراء شديدة الصُّفْرة, تَسُرُّ مَن ينظر إليها.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِى إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}[البقرة : 70].
قال بنو إسرائيل لموسى: ادع لنا ربك يوضح لنا صفات أخرى غير ما سبق; لأن البقر -بهذه الصفات- كثير فاشْتَبَهَ علينا ماذا نختار؟ وإننا -إن شاء الله- لمهتدون إلى البقرة المأمور بذبحها.

وهذه القصة خلاصتها: أنها وقعت جريمة قتل فى بنى إسرائيل فى زمن موسى، ولم يعرف القاتل، وتدافعوا فى ذلك وصارت الاتهامات متبادلة، وأراد الله تعالى أن يكشف لهم القاتل بواسطة معجزة مادية محسوسة، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرةٍ، أى بقرة كانت بدون تحديدٍ لمواصفاتها، ولكن طبيعة اليهود فى التلكؤ والمماطلة والجدال جعلتهم يسألونه عن عمر البقرة أولًا، ثم عن لونها ثانيًا، ثم عن عملها ثالثًا، وأخيرًا ذبحوها وما كادوا يفعلون، وأمروا بضرب القتيل ببعضها فضرب، فأحياه الله فأخبر عن قاتله وقال: قتلنى فلان، ثم قيل: إنه قد مات فى وسط دهشة بنى إسرائيل.

وجاءت هذه القصة بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر فى النظر إليها تحريكًا، ويهز النفس للاعتبار بها هزًا، وقال الله تعالى فيها: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}[البقرة:72] هذا ذكرت فيه المخالفة أو الاختلاف (فادارأتم فيها) ثم المنة فى الخلاص بقوله فقلنا: (فاضربوه ببعضها) ولكن وسيلة الخلاص من هذه الاتهامات وهذا اللغط، الوسيلة ذكرت قبل السبب الذى من أجله أمروا بذبح البقرة، فإننا أول ما نطالع الآيات: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}[البقرة:67] نحن لا نعرف لماذا فى البداية، لكن عندما نقرأ التكملة: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}[البقرة:72] ثم قال: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}[البقرة:73] عرفنا السبب الذى من أجله أمروا بذبح البقرة.

فإذًا: تقديم ذبح البقرة كان فيه تشويق للسامع إلى معرفة ما وراء القصة، وما هو السبب الذى من أجله أمروا بذبح البقرة، ثم يفاجأ الشخص وهو يقرأ بحكاية السبب، وقد حصل عنده تشويقٌ سابق لمعرفة السبب الذى من أجله أمروا بذبح البقرة، فتتوجه الفكرة بأجمعها لتلقى ذلك، وتظهر الحكمة فى أمر الله تعالى لأمةٍ من الأمم بذبح بقرة خفية.

وفوائد هذه القصة ( بقرة بنى إسرائيل ) عديدة منها :
أولا : أن العقل لا يحق له أن يعترض على الوحى الآتى من السماء ، ويوم يبدأ بالاعتراض والتشكيك تبدأ اللعنة ويحل الغضب .

ثانيًا : أن على المسلم أن يتقلى الأوامر والرسالة باستسلام ، وأن يسلم وجهه طوعا لله ، ويرخى قيادة لمولاه .

ثالثا : فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث لم يتعنتوا كما تعنت بنو إسرائيل .

رابعا : أنه لا تعايش بين المسلمين ، وبين هؤلاء ؛ لأننا نختلف عنهم فى جميع أمورنا .

خامسا : من فوائد القصة ، كما ذكر الإمام أحمد ، أن البقرة تذبح ولا تنحر، وهذا من اللطائف .

سادسا : استدل بها الإمام مالك على جواز بيع (السلم) أى : البيع بالصفات دون حضور السلعة؛ لأن الله ذكر لهم الصفات فقط ، فاستجابوا بالصفات فأقرهم الله .

سابعا : أن على المسلم أن لا يتعنت فى أموره الدينية والدنيوية ،ولا يتشدد؛ لأن التشدد مصيره الهلاك أو التعب فى الحياة .

ثامنا : أن الله إذا أمر بأمر فهو على ظاهره ، ولا نبحث ونستفسر عن أشياء لم يردها الله ، فنصرفه عن ظاهره بسببها .

تاسعا : أن من نفذ الأمر فى أول وقته فهو المأجور ، مثل الصلاة فى أول وقتها
نسأل الله العلى العظيم أن يرزقنا الاستقامة والطاعة وأن يذهب عنا شر التكبر والجدال وسوء الأدب إنه نعم المولى ونعم النصير.