التفسير الموضوعي للقرآن الكريم (سورة آل عمران: الآيات من 37-49)

التفسير الموضوعي
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور

قال تعالى: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران من 37 - 49].

ليس الذكر كالأنثى:
ظنت والدة مريم أن الذكر أفضل مطلقاً فحزنت لما رزقت بأنثى ولكن تبين لها - فيما بعد - أن الأنثى قد تكون هي الأفضل والأحسن من كثير من الذكور
(فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى) إن هذا خبر لا يقصد به الإخبار بل التحسر و التحزن و الاعتذار، وذلك أنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت الله و الانقطاع لعبادته فيه و الأنثى لا تصلح لذلك عادة لا سيما في أيام الحيض {والله أعلم بما وضعت} أي: بمكانة الأنثى التي وضعتها و أنها خير من كثير من الذكور - فهذه الطفلة هي مريم بنت عمران والدة سيدنا عيسى عليهما السلام-.ففيه دفع لما يوهمه قولها من انحطاط المولودة عن مرتبة الذكور.

وقد بين الله ذلك بقوله (وليس الذكر) الذي طلبت أو تمنت (كالأنثى) التي وضعت بل هذه الأنثى خير مما كانت ترجو من الذكر {فتقبلها ربها بقبول حسن} أي: تقبل مريم من أمها ورضى بأن تكون محررة للانقطاع لعبادته وخدمة بيته.

و(تقبلها) وذلك أبلغ من قبلها وزاده مبالغة وتأكيدًا وصفه بالحسن كأنه قال فقبلها ربها أبلغ قبول حسن.
القبول الحسن:
تَقَبَّلَهَا مِنْ أُمّهَا نَذِيرَة وَأَنَّهُ أَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا، أَيْ جَعَلَهَا شَكْلًا مَلِيحًا وَنَظَرًا بَهِيجًا وَيَسَّرَ لَهَا أَسْبَاب الْقَبُول وَقَرَنَهَا بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَاده تَتَعَلَّم مِنْهُمْ الْعِلْم وَالْخَيْر وَالدِّين فَلِهَذَا قَالَ: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} بِتَشْدِيدِ الْفَاء وَنَصْبِ زَكَرِيَّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّة أَيْ: جَعَلَهُ كَافِلًا لَهَا .

قَالَ اِبْن إِسْحَق : وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ يَتِيمَة وَذَكَرَ غَيْره : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل أَصَابَتْهُمْ سَنَة جَدْب فَكَفلَ زَكَرِيَّا مَرْيَم لِذَلِكَ، وَلَا مُنَافَاة بَيْن الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّه أَعْلَم وَإِنَّمَا قَدَّرَ اللَّه كَوْنَ زَكَرِيَّا كَفَلَهَا لِسَعَادَتِهَا لِتَقْتَبِس مِنْهُ عِلْمًا جَمًّا نَافِعًا وَعَمَلًا صَالِحًا وَلِأَنَّهُ كَانَ زَوْج خَالَتهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَق وَابْن جَرِير وَغَيْرهمَا .

وَقِيلَ: زَوْج أُخْتهَا كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيح ((فَإِذَا بِيَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا اِبْنَا الْخَالَة)) وَقَدْ يُطْلَق عَلَى مَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَق ذَلِكَ أَيْضًا تَوَسُّعًا فَعَلَى هَذَا كَانَتْ فِي حَضَانَة خَالَتهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح : ((أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي عُمَارَة بِنْت حَمْزَة أَنْ تَكُون فِي حَضَانَة خَالَتهَا اِمْرَأَة جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب)) وَقَالَ : ((الْخَالَة بِمَنْزِلَةِ الْأُمّ)) ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سِيَادَتهَا وَجَلَادَتهَا فِي مَحَلّ عِبَادَتهَا فَقَالَ: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وَجَدَ عِنْدهَا رِزْقًا} قَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو الشَّعْثَاء وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ وَالسُّدِّيّ : يَعْنِي وَجَدَ عِنْدهَا فَاكِهَة الصَّيْف فِي الشِّتَاء وَفَاكِهَة الشِّتَاء فِي الصَّيْف وَعَنْ مُجَاهِد {وَجَدَ عِنْدهَا رِزْقًا} أَيْ عِلْمًا أَوْ قَالَ : صُحُفًا فِيهَا عِلْم رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم وَالْأَوَّل أَصَحّ.

وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى كَرَامَات الْأَوْلِيَاء وَفِي السُّنَّة لِهَذَا نَظَائِر كَثِيرَة فَإِذَا رَأَى زَكَرِيَّا هَذَا عِنْدهَا {قَالَ يَا مَرْيَم أَنَّى لَك هَذَا} أَيْ يَقُول مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا ؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه إِنَّ اللَّه يَرْزُق مَنْ يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب} .
سعة رزق الله ودعاء زكريا عليه السلام:
بعدَ أن كفل زكريَّا - عليه السَّلام – مريم خصَّص لها مثوى في البيت المقدَّس تعيش فيه، ومِحْرابًا خاصًّا به لتتعبَّد فيه، وظلَّت السيدة مريم في المسجد وقتًا طويلاً تَعْبد الله وتسبِّحه وتقدِّسه في مكانها الخاص، لا تغادره إلاَّ غرارًا.

وكان - بِحُكم كفالته لها - يتأوَّبُها كلَّ حين، ويتعهَّدها، ويرعى شأنها، ويطمئِنُّ على أحوالها، وكان كلَّما دخل عليها رأى عجَبًا؛ فاكهة الشِّتاء تكون حاضرة عندها في الصيف، وفاكهة الصيف تكون إزاءها في الشتاء! فتملَّكَتْه الدهشة والاستغراب، ثُمَّ سألها: من أين لك هاته الفاكهة، وهذا الرِّزق؟ فأخبرته بأنَّه من لَدُن الله تعالى؛ قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].

إنَّ زكريَّا قد شاخ، وضوى جسمه، وضعُفَت قوَّته، وأصبح مُسنًّا لا يَقْوى على شيء، ولكن عند رؤيته العجَب العُجاب عند مريم - عليها السلام - علم أنَّ الله تعالى يستجيب دعاء عبده إذا دعاه.

فأصبح يدعو الله تعالى أن يرزقه ولدًا، قال تعالى في سورة مريم: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 2 – 6].

فزكريا قد شرح أسباب دعائه، وعرَضَ ضعفه على القويِّ؛ فهو واهِنُ العظم، أشيب الرأس، يخاف الموالي، وامرأته - فوق كلِّ ذلك - عاقرٌ لا تُنجب، وهو يَطلب الولد!
إنَّ أيَّ شخصٍ غيرِ واثق بالله لو يعلم أنَّ شيخًا كبيرًا لا ينجب، وامرأته عاقرٌ، وقد علاه المَشيب، يدعو الله الولدَ - سيقول إذْ ذاك: لقد جنَّ الشيخ وربِّ الكعبة! ويحدث أن يستهزئ به، أو يسخر منه، ونسي المسكين أنَّ الله لا يعجزه شيءٌ.

إنَّ الله تعالى لا يَطلب منَّا أن نقدِّم لأسباب دعائنا، وأن نَشْرح أحوالنا وأمورنا؛ فهو يعلم السِّر وأخفى - لا يطلب ذلك إلاَّ لأجل أن يستحضر المُحتاج حالة ضعفه، وأن يخشع قلبه، وتَخْضع جوارحه، ويكون منكسرًا صادقًا في دعائه، وقد كان زكريَّا هكذا، فهذا أدَبٌ من آداب الدعاء، ورسنٌ من أرسان قبوله.

ومن آدابه أيضًا: عدَمُ الجهر بالصَّوت؛ فزكريَّا نادى ربَّه نداءً خفيًّا، ويدلُّ هذا الأمر أيضًا على:
1-حُسْن التأدُّب مع الله تعالى.
2-مناجاته ربَّه ليلاً.
3-عدم إزعاجه لمن هم في البيت؛ فقد يكونون نائمين.
4-صدق دعائه وإلحاحه عليه؛ إذْ لو كان غير صادق أو غيرَ مِلْحاح لما ازْوَرَّ عن النوم، وقام يدعو ليلاً.
5-إخلاصه في الدعاء؛ لئلاَّ يُمازجه رياء.
6-صدق توكُّله عليه وشدة ثقته به.

ومن آدابه أيضًا:
أن يُحْسِن العبد ظنَّه بالله حتى في أصعب المواقف، فزكريا حالته - كما يقولون - مستعصية أو مستحيلة! ولكنَّ الله تعالى مَن بيده مفاتِحُ كلِّ شيء إذا أراد شيئًا حدثَ لتوِّه؛ قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وليس على الله بعزيزٍ أن يَستجيب دعاء عبدِه إن علم فيه الصِّدق، وحسن اليقين به، حتَّى ولو كان في عُرف الناس من المستحيلات؛ لأنَّك إن استشعرتَ بأنَّك تدعو عظيمًا قادرًا؛ فإنَّه سيستجيب لك، حتَّى ولو كان القدَر يجرى على خلاف ذلك؛ فقد قال الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ولا يرد القدرَ إلا الدعاء)).

ومن آدابه أيضًا:
أن تُلِحَّ في الدُّعاء، وتكثر منه، ويكون دَيدنَك ودأبك، وقد نادت الملائكة سيِّدنا زكريا - عليه السَّلام - حتَّى تبشِّره بقبول الله تعالى دعاءه - وهو قائم يدعو ربَّه في المسجد؛ قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39].

نحن إن أحسنَّا الدعاء، فإنَّ الله سيَستجيب دعوتنا وفق ما يُرضينا، وهذا الأمر حدَث مع سيِّدنا زكريا - عليه السَّلام - فقد استجاب الله دعاءه، ولكنَّه استغرب ودُهش؛ إذْ كيف يُمْكِن أن يكون شيخٌ كبيرٌ، وامرأة طاعنة في السنِّ، وفوق ذلك عاقرٌ لا تنجب - كيف يمكن أن يحدث استجابة الدعاء؟! لقد عبَّر عنه سيِّدنا زكريا: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8]، ولكنَّ الله تعالى يذكِّره بأنَّ كلَّ الأمور ممكنةٌ؛ ما دام العبد متوكِّلاً على ربِّه، مُحْسنًا ظنَّه به، قال تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9].

لقد استجاب الله تعالى دعاء زكريا وفق ما يتمنَّاه، وقد بشَّره ببشارات كثيرة:
1-ستُنْجِب امرأتُه.
2-تنجب غلامًا، والغلام هو الشابُّ الطارُّ الشارب، أو الكهل، فهذا يعني أنَّه سيعيش إنسانًا طبيعيًّا دون أن يكون للسنِّ الكبيرة والشيخوخة أيُّ أثر سلبي في ذلك؛ فبشارته بغلامٍ من باب اعتبار ما سيكون؛ تيمُّنًا بسلامته، ويدلِّل على ذلك اسمه “يحيَى” الذي لم يكن أحدٌ ليتسمَّى به قبله.
3-سيكون الغلام واثقًا من نفسه، مُحاطًا برعاية الله تعالى له، داخلاً تحت كنفه ورعايته.
4-سيكون حكيمًا وهو صبيٌّ.
5-سيكون رحمة للناس، عطوفًا عليهم.
6-سيكون تقيًّا مُطيعًا، مُزْوَرًّا عن الذنوب والمعاصي والآثام، مطهَّرًا منها.
7-سيكون بارًّا بوالديه، كثير الإحسان إليهما، غيرَ عاصٍ ولا متجبِّر عليهما، ولا مخالفٍ لأمر ربِّه.
8-سيكون زاهدًا متعففًا لا يقرب النساء.
9-سيكون نبيًّا صالحًا.
اصطفاء مريم عليها السلام:
اصطفاء مريم عليها السلام تقبلها لعبادة الله، وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة .
والاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم، وأنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم، وعلى هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهن.
وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك الآية، وقوله تعالى: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91 ] وقوله تعالى: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]، حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عليه السلام) أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين.
وأما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه، والقنوت وكونها محدثة فهي أمور لا تختص بها بل يوجد في غيرها، وأما ما قيل: إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.
عبادة مريم وقنوتها:
قوله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل، والسجدة معروفة.
والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلل.
ولما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى اسم مفعول وتوجيه فهمه نحو المنادي اسم فاعل كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها: إن لك عندنا نبأ بعد نبإ فاستمعي لهما وأصغي إليهما: أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو ما لك عند الله، والثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة، وهو ما لله سبحانه عندك، فيكون هذا إيفاء للعبودية وشكرا للمنزلة فيئول معنى الكلام إلى كون قوله: يا مريم اقنتي إلخ بمنزلة التفريع لقوله: يا مريم إن الله اصطفيك إلخ أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين، ولا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعا لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة، وإن لم يخل عن خفاء فليتأمل.
وقوله تعالى: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} عده من أنباء الغيب نظير ما عدت قصة يوسف (عليه السلام) من أنباء الغيب التي توحى إلى رسول الله، قال تعالى: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} يوسف: 102، وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيرا من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.
بشارة الملائكة لمريم:
قوله تعالى: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك} الخ، الظاهر أن هذه البشارة هي التي يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } [مريم: 19]، فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هاهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.
وفي تكلم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17]، يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته.
وأما المراد بالكلمة فقد قيل: إن المراد به المسيح (عليه السلام) من جهة أن من أسبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل، يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها، ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى (عليه السلام): {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا} [الأعراف: 137]، وفيه أن ذلك وإن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشرا لا مبشرا به، على أن سياق قوله: اسمه المسيح لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلا لا نفس عيسى، وظاهر قوله: اسمه المسيح، أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة.
من صفات المسيح عليه السلام:
والمسيح هو الممسوح سمي به عيسى (عليه السلام) لأنه كان مسيحا باليمن والبركة أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء يمسحون به أو لأن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان، أو لأنه كان يمسح رءوس اليتامى، أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برأ، فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.

وعيسى أصله يشوع، فسروه بالمخلص وهو المنجي، وفي بعض الأخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين هذين النبيين.

وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب، ويكون معروفا بهذا النعت، وأن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى: {وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91].
قوله تعالى: {وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} الوجاهة هي المقبولية، وكونه (عليه السلام) مقبولا في الدنيا مما لا خفاء فيه، وكذا في الآخرة بنص القرآن.

ومعنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء والمقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172].
قوله تعالى: {ويكلم الناس في المهد وكهلا} المهد ما يهيأ للصبي من الفراش، والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة، وهو ما يكون الإنسان فيه رجلا تاما قويا، ولذا قيل: الكهل من وخطه الشيب أي خالطه، وربما قيل: إن الكهل من بلغ أربعا وثلاثين.

تعجب مريم من قدرة الله :
قوله تعالى: {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} خطابها لربها مع كون المكلم إياها الروح المتمثل فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه وإن كان الخطاب متوجها إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربها ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى: {قال رب ارجعون} [المؤمنون: 99]، فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام.

وأما التعجب من هذا الأمر فإنما يصح لو كان هذا الأمر مما لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشق أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء وأما صعوبته ومشقته فإن العسر والصعوبة إنما يتصور إذا كان الأمر مما يتوسل إليه بالأسباب فكلما كثرت المقدمات والأسباب وعزت وبعد منالها اشتد الأمر صعوبة، والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

تعليم الله لعيسى عليه السلام:
قوله تعالى: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس، والحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل، وعلى هذا فعطف التوراة والإنجيل على الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس لأهمية في اختصاصه بالذكر.

وأما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى (عليه السلام) في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الأعراف، وأما الذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بخت نصر من ملوك بابل وكورش من ملوك الفرس، غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مخالفة للتوراة الأصل بالكلية وإن لعبت بها يد التحريف، ودلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.

وأما الإنجيل ومعناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتابا واحدا نازلا على عيسى فهو الوحي المختص به، قال تعالى {وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس} [آل عمران: 4].

بعض معجزات عيسى عليه السلام:
قوله تعالى: {أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين} - إلى قوله – {وأحيي الموتى بإذن الله} الخلق جمع أجزاء الشيء، وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضا قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14].

والأكمه هو الذي يولد مطموس العين، وقد يقال لمن تذهب عينه قال: كمهت عيناه حتى ابيضتا، قاله الراغب، والأبرص من كان به برص وهو مرض جلدي معروف.

وفي قوله: {وأحيي الموتى} حيث علق الإحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقل من الإشعار بالكثرة والتعدد.
وكذا قوله: {بإذن الله} سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه (عليه السلام) مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى (عليه السلام) بشيء من ذلك، وإنما كرر تكرارا يشعر بالإصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بألوهيته استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه (عليه السلام)، ولذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}.

وظاهر قوله: {أني أخلق لكم} هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا خارجيا لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج والتحدي، ولو كان مجرد قول لقطع العذر وإتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك.

قوله تعالى: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} وهذا إخبار بالغيب المختص بالله تعالى، ومن خصه من رسله بالوحي، وهو آية أخرى وإخبار بغيب صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك والريب فإن الإنسان لا يشك عادة فيما أكله ولا فيما ادخره في بيته.

وتصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة، وهو التوراة الأصل النازلة على موسى (عليه السلام) فلا دلالة لكونه مصدقا للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة.
***