تفسير سورة الفاتحة (الحمد والرحمة)

التفسير الموضوعي
طبوغرافي

 

 الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الدكتور


الصلاة والسلام على خير خلق الله النبي السراج المنير وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن، وهي مكية ، وكلها محكم ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، ولا تصح الصلاة إلا بها، وهي أم الكتاب بمعنى أن كل ما في القرآن يدور حول هذه المعاني، فليس هناك سورة في القرآن إلا وتعود إلى الفاتحة، ونستطيع أن نربط بين أم الكتاب وأم القرى مكة، فمكة مركز الكون، والفاتحة أم الكتاب ومركزه والجامعة لمقاصد القرآن. بصريح العبارة أو لطيف الإشارة، فصارت له كالعنوان.


قال الحسن البصري: أنزل الله عز وجل مائة وأربعة كتب من السماء أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ثم أودع علوم التوراة والإنجيل والزبور القرآن، ثم أودع علوم القرآن المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة.


والفاتحة هي أصل وأساس وروح الصلاة، ولشرفها وعلو مكانتها قسمها الله بينه وبين عبده، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: { الحمد لله رب العالمين }، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: { الرحمن الرحيم }، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: { مالك يوم الدين }، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين }، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل [صحيح الجامع برقم 4326].


وقبل أن نبدأ في استشراف المعاني العظيمة التي احتوت عليها سورة الفاتحة نشير إلى بعض الآداب قبل التلاوة :
وأول هذه الآداب هي الاستعاذة بالله والاستعاذة التي تسبق تلاوة القرآن في الصلاة وخارجها، لها ثلاث صيغ هي:
1- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.


2- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.


3- أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، و نفخه، و نفثه.


وعندما نستعيذ بالله من الشيطان، فإننا نستجير ونتحصن ونستغيث ونلوذ ونلتجئ ونطلب العون، من القوي المتين الجبار المقتدر، رب كل شيء والقادر على كل شيء والعليم بكل شيء وإله الأولين والآخرين، فمنه المنجى، وإليه الملجأ، وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته.


والاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن، ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى.


والأدب الثاني هو البسملة ومن فضل الله علينا أن علّمنا كيف ندعو ونقول ونبتدئ ونناجي، ومعنى “ بسم الله الرحمن الرحيم” أن نبدأ التلاوة والقراءة متبركين باسم الله عز وجل مستعينين به سبحانه فهو المستحق لجميع المحامد.


إن “بسم الله الرحمن الرحيم” تضمّنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات.
فـ(بسم الله) افتتاح إيمان ويمن، وحمد عاقبة، ورحمة وبركة وثناء وتقرب إلى الله - عز وجل - ورغبة فيما عنده، واستعانة ومحبة له.
والأدب الثالث هو التأدب مع كلام الله بالخشوع والتأمل والتدبر في معاني القرآن وكلماته بالإضافة إلى الطهارة ظاهرًا وباطنًا.


ولقد بدأت السورة بعد البسملة بصفة عظيمة وهي صفة الحمد :
قال الله - تعالى -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2].
إن الحمد والشكر عبادة الأولين والآخرين وعبادة الملائكة وعبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعبادة أهل الأرض وعبادة أهل الجنة.


فأما عبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهو أن آدم عليه السلام لما عطس قال الحمد لله.


وأن نوحا عليه الصلاة والسلام لما أغرق اللَّه قومه وأنجاه ومن معه من المؤمنين أمره اللَّه تعالى بأن يحمده فقال له: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ معك عَلَى الفُلْكِ فَقُلْ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ القَوْمِ الظَّالِمِينَ }


وقال إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام كما فى قوله تعالى {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ }  

  
وقال داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام كما فى قوله تعالى { الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ }
وإن أهل الجنة يحمدون اللَّه تعالى في ستة مواضع: أحدها عند  
قوله تعالى {وَامْتَازُوا اليَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ } { الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ القَوْمِ الظَّالِمِينَ }.
والثاني حين جاوزوا الصراط قالوا: كما فى قوله تعالى {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }.


والثالث لما اغتسلوا بماء الحياة نظروا إلى الجنة فقالوا
كما فى قوله تعالى { الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ }.


والرابع حين دخلوها قالوا كما فى قوله تعالى { الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ}.


والخامس حين استقروا في منازلهم قالوا كما فى قوله تعالى {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ}الآية.


والسادس حين فرغوا من الطعام قالوا كما فى قوله تعالى {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ}.


وقال بعض الحكماء: اشتغلت بشكر أربعة أشياء:
أوّلها أن اللَّه تعالى خلق ألف صنف من الخلق، ورأيت بني آدم أكرم الخلق فجعلني من الرجال، والثالث رأيت الإسلام أفضل الأديان وأحبها إلى اللَّه تعالى فجعلني مسلما، والرابع رأيت أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلم أفضل الأمم؛ فجعلني من أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلم.


وروى ميمون بن مهران عن بن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أنه قال:
إن لله تعالى من خلقه صفوة إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا،
وإذا أنعموا شكروا وإذا ابتلوا صبروا.
ولقد ذكرنا الله في القرآن أن نعمه لا تعد ولا تحصى مما يستوجب عظيم الحمد قال الله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[النحل: 18].


وقال الله - تعالى -: ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 63]
وللحمد فضل عظيم ومكانة لا تدانيها مكانة فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مات ولد العبد، قال الله - تعالى - لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله - تعالى -: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد((. (أخرجه السيوطي، انظر حديث رقم: 795 في “صحيح الجامع”، وقال الألباني: حديث حسن).


والحمد لله من غراس الجنة:
فعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غُرست له بها نخلة في الجنة) أخرجه السيوطي، حديث (6429)، وصححه الألباني في “صحيح الجامع”.

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقيتُ إبراهيمَ ليلة أُسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمَّتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبةُ الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) أخرجه السيوطي، حديث (5152)، وحسنه الألباني في “صحيح الجامع”
والحمد سبب لغفران الذنوب:


فعن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أكل طعامًا ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن لبس ثوبًا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) أخرجه السيوطي، حديث ( 6086) وحسنه الألباني في “صحيح الجامع”.


وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بشجرة يابسة الورق، فضربها بعصاه فتناثر الورق، فقال: ((إن الحمد لله وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لَتساقطُ من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة)) رواه الترمذي (3533) كتاب الدعوات، باب منه في جامع الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وحسنه الألباني.


وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال إذا أوى إلى فراشه: الحمد لله الذي كفاني وآواني، والحمد لله الذي أطعمني وسقاني، والحمد لله الذي منَّ علي فأفضل، فقد حمد الله بجميع محامد الخلق كلهم)) “صحيح الترغيب والترهيب”، وقال الألباني: حديث حسن(.


وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند جويرية - وكان اسمها برة، فحوَّل اسمها - فخرج وهي في مصلاها ورجع وهي في مصلاها، فقال: ((لم تزالي في مصلاكِ هذا؟))، قالت: نعم، قال: ((قد قلتُ بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنتْ بما قلتِ لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) رواه أبو داود، حديث رقم (

1503) كتاب الصلاة، باب التسبيح بالحصى، وصححه الألباني.
والله يباهي بأهل الحمد:
فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال معاوية - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة - يعني من أصحابه - فقال: ((ما أجلسكم؟))، قالوا: جلسنا ندعو الله ونحمده على ما هدانا لدينه ومنَّ علينا بك، قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟))، قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: ((أما أني لم أستحلفكم تهمةً لكم؛ وإنما أتاني جبريل - عليه السلام - فأخبرني أن الله - عز وجل - يباهى بكم الملائكة) رواه النسائي (5426) كتاب آداب القضاة، باب كيف يستحلف الحاكم، وصححه الألباني.

وعن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا يومًا نصلي وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسَه من الركوع، قال: ((سمع الله لمن حمده))، قال رجل وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من المتكلم بها آنفًا؟))، فقال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد رأيتُ بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)) رواه أبو داود، حديث (770) كتاب الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وصححه الألباني.
قال الشاعر:
فَلَوْ أَنَّ لِي فِي كُلِّ مَنْبَتِ شَعْرَةٍ
لِسَانًا، لَمَا اسْتَوْفَيْتُ وَاجِبَ حَمْدِهِ
والحمد لله تملأ الميزان
فعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم (354) في صحيحه، كتاب الطهارة، باب الوضوء.


وعن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْه سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له)أخرجه السيوطي، حديث رقم: (3980) وصححه الألباني في “صحيح الجامع”.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والحمد على الضرّاء يوجبه مشهدان:
أحدهما: علم العبد بأنّ الله سبحانه مستوجبٌ ذلك، مستحقٌّ له بنفسه، فإنّه أحسنَ كلَّ شيء خلقه، وأتقن كلَّ شيء، وهو العليم الحكيم، الخبير الرحيم.


والثاني: علمُه بأنّ اختيارَ الله لعبدِه المؤمن خيرٌ من اختياره لنفسه، كما روى مسلمٌ في صحيحه وغيرُه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: “والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلاّ كان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن، إن أصابته سرّاءُ شكرَ فكان خيراً له، وإنْ أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيراً له “صحيح مسلم (رقم:2999) بلفظ: “عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن...”، الحديث.، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ كلَّ قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السرّاء فهو خير له” .فإذا عَلم ذلك العبدُ وتيقّنه أقبل على حمد الله في أحواله كلِّها في سرّائه وضرّائه، وفي شدّته ورخائه، ثم هو في حال شدّته لا ينسى فضلَ الله عليه وعطاءَه ونعمتَه.


جاء رجلٌ إلى يونس بن عبيد رحمه الله يشكو ضيقَ حاله، فقال له يونس: “أيسُرُّك ببصرك هذا مائةَ ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألفِ؟ قال: لا، قال: فبرجليك مائةُ ألفِ؟ قال: لا. قال: فذكّره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة”.


وجاء عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنَّه قال: “إنّ رجلاً بُسط له من الدنيا فانتزع ما في يديه، فجعل يحمدُ الله ويثني عليه حتى لم يكن له فراشٌ إلاّ بارِيَّةٌ ، قال: فجعل يحمدُ الله ويثني عليه، وبُسط لآخر من الدنيا فقال لصاحب الباريّة: أرأيتك أنت على ما تحمد الله؟ قال: أحمده على ما لو أُعطيت به ما أُعطي الخلق لم أعطِهم إيّاه. قال: وما ذاك؟ قال: أرأيتك بصرك، أرأيتك لسانك، أرأيتك يديك، أرأيتك رجليك “


وثبت في فضل الحمد ما رواه الترمذي وابن ماجه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “أفضل الذِكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله” (سنن الترمذي (رقم:3383)، وسنن ابن ماجه (رقم:3800)، وحسّنه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم:1104).


فجعل صلوات الله وسلامه عليه حمدَ الله أفضلَ الدعاءِ، مع أنَّ الحمد إنّما هو ثناءٌ على المحمود مع حبِّه، ولهذا سُئل ابن عيينة رحمه الله عن هذا الحديث فقيل له: كأنّ الحمد لله دعاء؟ فقال: “أما سمعتَ قولَ أمية بن أبي الصلت لعبد الله ابن جدعان يرجو نائلة:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حباؤك إن شيمتَك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرءُ يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
كريم لا يغيره صباحٌ ... عن الخلق الجميلِ ولا مساءُ

فهذا مخلوقٌ اكتفى من مخلوقٍ بالثناء عليه، فكيف بالخالق سبحانه”.
ويؤيّد هذا المعنى قولُ الله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} يونس : 10 ، فجعل الحمدَ دعاء.
قال ابن القيّم رحمه الله: “الدعاء يُراد به دعاءُ المسألة ودعاء العبادة، والمُثنِي على ربّه بحمده وآلائه داعٍ له بالاعتبارين، فإنَّه طالبٌ منه، طالبٌ له، فهو الداعي حقيقة، قال تعالى: {هُوَ الحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (غافر : 65 (.


هذه صفة الحمد ومكانتها وفضلها التي تنجي صاحبها وترفع مكانته في الدنيا والآخرة فالحمد شأنُه عظيمٌ، وثوابُه جزيلٌ، ويترتّب عليه من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلاّ الله، وأهله هم الحَرِيُّون يوم القيامة بأعلى المقامات وأرفع الرُّتب وأعلى المنازل، فإنّ الله عز وجل يحبُّ المحامدَ، ويحبُّ من عبده أن يُثنيَ عليه، ويرضى عن عبده أن يأكلَ الأكْلةَ فيحمده عليها، ويشربَ الشربَةَ فيحمده عليها، وهو تبارك وتعالى المانُّ عليهم بالنعمة والمتفضِّل عليهم بالحمد، فهو يبذل نعمه لعباده، ويطلبُ منهم الثناءَ بها وذكرها والحمد عليها، ويرضى منهم بذلك شكراً عليها، وإن كان ذلك كلُّه من فضله عليهم، وهو غير محتاج إلى شكرهم، لكنه يحبُّ ذلك من عباده حيث كان صلاحُ العبد وفلاحُه وكمالُه فيه، فللّه الحمد على نعمائه، وله الشكر على وافر فضله وجزيل عطائه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.

ونتأمل في صفة الرحمة والبدء بها في أول آي الفاتحة :
فرحمة الله عز وجل مطلقة كسائر صفاته، ولقد أشار الحق تبارك وتعالى إلي ذلك في العديد من الآيات القرآنية .. فقال جل وعلا: {قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء} (سورة الأعراف: 156) وقال سبحانه: {قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} (يوسف: 92)
إنه عز وجل أرحم الراحمين وخير الراحمين، ورحمته وسعت كل شيء ، فهي الرحمة المطلقة التي غمرت كل المخلوقات وغمرت كل البشرية بما فيها من عناصر الكفر بالله والشرك به والمعصية له والجحود بأنعمه.


إن الله سبحانه موصوف بسعة الرحمة التي طوت جميع الوجود ووصلت إلى كل موجود ، فحيثما أشرق شعاع من علمه المحيط ، أشرق معه شعاع من رحمته بحسب ما تقتضيه علمه وحكمته . وقد خص المؤمنين منها ، بالنصيب الأوفر، والحظ الأكمل ، قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون}، وبهذا يثني عليه الخاصة من ملائكته ،{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}.


وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله ، وهى تقدر على أن لا تطرحه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) .[رواه مسلم] .


وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : (( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة )) [رواه مسلم].


وقال صلى الله عليه وسلم « ولما خلق الخلق كتب في كتابه فهو عنده : إن رحمتي سبقت غضبي » [رواه البخاري ومسلم]. فهي كالعهد لكل الخليقة بالرحمة لهم والعفو عنهم ، والتروِّ والإمهال لهم .


والله رحمن في الدنيا لكثرة عدد الذين تشملهم رحمته فيها، فرحمة الله في الدنيا تشمل المؤمن والعاصي والكافر، يعطيهم الله مقومات حياتهم ولا يؤاخذهم بذنوبهم، يرزق من آمن به ومن لم يؤمن به، ويعفو عن كثير. إذن عدد الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا هم كل خلق الله بصر النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم، ولكن في الآخرة الأمر مختلف، فالله رحيم بالمؤمنين فقط .. فالكفار والمشركون مطرودون من رحمة الله. إذن الذين تشملهم رحمة الله في الآخرة أقل عددا من الذين تشملهم رحمته في الدنيا ، فمن أين تأتي المبالغة؟


تأتي المبالغة في العطاء وفي الخلود في العطاء ، فنعم الله في الآخرة أكبر كثيرا منها في الدنيا ، المبالغة هنا بكثرة النعم وخلودها ، فكأن المبالغة في الدنيا بعمومية العطاء، والمبالغة في الآخرة بخصوصية العطاء وكثرة النعم والخلود فيها. والرحمة الإلهية تشمل ثناياها العديد من الصفات، فمن رحمة الله تبارك وتعالى أنه الغفار ، الوهاب ، الرزاق ، الشكور ، الكريم ، الواجد ، التواب ، العفو ، الهادي. ورحمة الحق جل وعلا تغمر المخلوقات جميعا منذ أن خلقها وإلي أن نقف بين يديه.


ومن رحمته جل وعلا أنه ينبت لنا من الأرض الجدباء طعامًا نأكله وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: {فانظر إلي آثار رحمت الله كيف يحيى الأرض بعد موتها} (سورة الروم: 50).


ومن رحمته أنه جعل لنا الليل سكنا لنجد فيه الراحة والسكينة بعد عناء العمل، وجعل لنا النهار للسعي والعمل واكتساب القوت فقال عز وجل: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبغوا من فضله} (سورة القصص ـ 73)
ومن رحمته أنه أرسل الرسل بالرسالات السماوية إلي الناس كافة ليخرجهم من الظلمات إلي النور، وأرسل رسوله محمدا عليه افضل الصلاة وأتم التسليم خاتم الأنبياء والمرسلين بالهدى ودين الحق ليكون رحمة للعالمين، فيقول تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} (سورة الأنعام: 155) .
ويقول سبحانه: أوعجبتم أن جاءكم من ربكم على رجلٍ منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (سورة الأعراف: 63).


ويقول عز وجل: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} (سورة الأعراف :204) فالقرآن الكريم الذي أنزل على خاتم النبيين والمرسلين هو الرحمة العظمى التي جاد بها الله عز وجل على بني آدم، فمنهم من قبلها ومنهم من أعرض. القرآن الكريم هو الذي أخرج المؤمنين من ظلمات الجهل إلي نور الإيمان، ونقلهم من العقائد الواهية التي بنيت على الوهم والظن إلي عقيدة قويمة بنيت على اليقين الذي لا يقبل الشك. فمن آمن بالقرآن الكريم واتبع أوامره وانتهى عن نواهيه كان له نورا وشفاء ورحمة، وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين }(سورة النحل : 89) .


ويقول سبحانه: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} (سورة الإسراء : 82).
ويقول تبارك وتعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فضلناه على علمٍ هدىً ورحمةً لقومٍ يؤمنون} (سورة الأعراف: 52) .
ويقول الحق سبحانه: {تلك آيات الكتاب الحكيم* هدىً ورحمةً للمحسنين} (سورة لقمان: 2-3).


ويقول جل جلاله: {فقد جاءكم بينة من ربكم وهدىً ورحمةً} (سورة الأنعام : 157) .
ومن رحمته جل وعلا أنه بين لنا موجبات رحمته، وعرفنا السبيل إلي استجلابها، فقال تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} (سورة الأعراف : 56) .
فأوضح بذلك أن رحمته تبارك وتعالى تكون قريبا من عباده المؤمنين به، الطائعين له ، فهؤلاء يتغمدهم برحمته ، فينجيهم من كروب الدنيا ويبعثهم يوم القيامة ، يوم الفزع الأكبر ، آمنين. ألم ينج الله عز وجل هودا عليه السلام من قوم عاد بعد أن كفروا بما جاءهم من عقيدة التوحيد واتهموه بالسفاهة وكادوا يفتكون به وبمن اتبعه من المؤمنين؟ وفي ذلك يقول عز وجل: فأنجيناه والذين معه برحمةٍ منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين (سورة الأعراف: 72) .


إن كل ما يراه الإنسان من الإنعام والإحسان ومن شواهد التدبير والتصريف الإلهي فهو من شواهد رحمة الله عز وجل ، فكل ما هو مشاهد ومغيب من النعم والإحسان والكرم الفضل كل أولئك من آثار رحمتـه ومن ذلك :
نعمة إرسال النبي صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن ؛ولذا قال سبحانه : {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ* علمه البيان} وهذه النعم أعظم من إنزال المطر وإنبات الزرع وتسخير الكون : الليل والنهار، والشمس والقمر؛ لأن إنزال القرآن رحمة لأن بها يحصل حياة الأرواح والقلوب .


ومن أعظم شواهد رحمة الله تعلم القرآن ولهذا نزلت سورة كاملة بهذا الاسم سورة « الرحمن » ابتدأت بهذا الاسم: {الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علَّمه البيان} .
فهذه ثلاثة من أعظم النعم فنعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، كلها من رحمته سبحانه ، وليس للإنسان فيها يد .


ومن شواهد الرحمة :السكينة التي يجدها المؤمنون في معية ربهم فما دام المؤمن مع الله فإن رحمة الله وعنايته تصحبه ، ولو كان في غار مظلم موحش فالفتية أصحاب الكهف سألوا ربهم أن يصيبهم برحمته { إذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً}، { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً } . فإذا الغار الموحش المظلم يغدو فسيحاً مضيئاً ، وإذا الكهف الكئيب يصبح مع العيش طيباً سعيداً !إنها رحمات الله سبحانه ونفحاته تهون تلك الوحشة ، وتفسح ذلكم الضيق .
***********************************
تكملة التفسير
مالك يوم الدين
كلمة مالك صفة ل ( الله عزّ وجلّ)، وفي بعض القراءات ملك ) ومعناها ذو الملك، والمُلك هو: السّلطان والعظمة.
واسم الله “الملك”، ورد قرآنًا وسُنَّة؛ قال الله تعالى: ﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 116]، وقال: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [الجمعة: 1].


ورَوى البخاريُّ من حديث أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقولُ: ((يَقْبِضُ الله الأرضَ، ويَطْوي السَّمواتِ بيمينِه، ثُمَّ يقول: أنَا المَلِكُ، أَيْنَ ملوكُ الأرض)).


وروى مسلمٌ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((يَنْزِل الله إلى السماء الدُّنيا كلَّ ليلة حين يَمضي ثلثُ اللَّيلِ الأوَّلُ، فيقول: أَنَا المَلِكُ، أَنَا المَلِك، مَنْ ذَا الذي يَدْعُونِي فأسْتَجِيبَ له؟ من ذا الذي يَسْأَلُنِي فأُعطيَه؟ من ذا الذي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)).



وكذلك اسم الله المليك ،وردَ اسم الله “الْمَلِيك” في موضعٍ واحد من القرآن الكريم بصيغة “فَعِيل” الاسميَّة، عَلَمًا على الذات الإلهيَّة؛ قال تعالى: ﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 55].


وعند الترمذيِّ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: يا رسول الله، مُرني بشيءٍ أقوله إذا أصبحتُ وإذا أمسيت؟ قال: ((قل: اللَّهم عالِمَ الغيب والشهادة، فاطِرَ السَّماوات والأرض، ربَّ كلِّ شيء ومَلِيكَه، أشهد أنْ لا إله إلاَّ أنت، أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومن شرِّ الشيطان وشرَكِه))، قال: ((قُله إذا أصبحتَ، وإذا أمسيت، وإذا أخذتَ مضجعك)).
أمَّا اسم الله المالك، وإن كان وردَ قرآنًا، لكن اللَّفظ جاء مضافًا، والإضافة تقييد، فكأنَّه خرج مخرجَ الصِّفة؛ ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4].


أما السُّنة المطهرة، فقد ورد فيها الاسمُ صريحًا؛ روى مسلمٌ في “صحيحه” من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ أخنعَ اسمٍ عندَ الله رجلٌ تسمَّى مَلِك الأملاك، لا مالك إلاَّ الله - عزَّ وجلَّ)).


فالمَلِك بزِنَةِ “فَعِل” صيغةُ مُبالَغةٍ في “مالك” اسم فاعل من مصدر الثلاثيِّ المجرَّد مَلَكَ؛ فهو مالِك، ومعناه: المتصرِّفُ بالأمر والنَّهيِ في الجمهور، وذلك يختصُّ بسياسة الناطقين، ولهذا يُقال: مَلِك الناس، ولا يقال: مَلِك الأشياء.



وهو أعمُّ من “مالكٍ” وأبلَغُ في إفادة المعنى؛ إذْ ليس كلُّ مالك يَنْفذ أمرُه وتصرُّفه فيما يملكه، فالمَلِك أعمُّ من المالك، قال ابن القيِّم: “... إذِ المَلِك الحقُّ هو الذي يكون له الأمر والنَّهي، فيتصرَّف في خلقه بقوله وأمره, وهذا هو الفرق بين المَلِك والمالك؛ إذِ المالك هو المتصرِّف بفعله، والمَلِك هو المتصرف بفعله وأمره، والربُّ - تعالى - مالكُ الملك؛ فهو المتصرِّف بفعله وأمرِه”.
فإذا قلنا أيّهما أبلغ المالك أو الملك ؟


قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بغير ألف، وقرأ عاصم والكسائيّ ويعقوب {مَالِكِ} بألف، وفي أيّهما أبلغ مذهبان:
- اختار قوم كأبي العبّاس المبرّد قراءة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لأنّه بتأويل الفعل، كقولك: مالك الدّراهم، ومالك الثّوب، ومالك يوم الدّين: يملك إقامة يوم الدّين وتدبيره والحكم فيه.
ولأنّ الله وصف نفسه قائلا {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْك} [آل عمران: من الآية26]، فهو يملك كلّ ملك وصاحبه.


- واختار قوم {ملك} لأمرين:
1-أنّه سبحانه تسمّى بالملك ولم يتسمّ بـ (المالك).
قال تعالى {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طـه: من الآية114]، وقال {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: من الآية23]، وفي الصّحيحين أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ : ((يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟)).


2 - ولأنّ الملك يملك المالك، وليس العكس.
والصّواب أن يقال: إنّ في الجمع بين القراءتين فائدةً عظيمةً:
وهو أنّ مُلكه جلّ وعلا مُلك حقيقيّ؛ لأنّ من الخلق من يكون مَلِكاً، ولكن ليس بمالك، يسمّى ملكاً اسماً، وقد يُحال بينه وبين سلطانه، وليس له من التّدبير شيء؛
ومن النّاس من يكون مالكاً ولا يكون ملكاً: كعامّة الناس.


ولكن الله تعالى عزّ وجلّ مالكٌ وملكٌ، فلا يكون في ملكه إلاّ ما يريد، ولا يريد إلاّ ما يُحمد عليه، ولذلك كثرت النّصوص في الكتاب والسنّة الإخبار عن الله بأنّ {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: من الآية1]
هل ( الديّان) من أسمائه عزّ وجلّ ؟
لا شكّ أنّ من صفاته سبحانه أنّه (الديّان) أي: المحاسب والمُجازي، ولكنّهم اختلفوا في إثباته اسما على قولين:
1- أثبته الخطّابيّ، وابن منده، والحليميّ، والبيهقيّ، والقرطبيّ، وابن القيّم، رحمهم الله جميعا.


2 - ولم يذكره ابن حزم، ولا الأصبهانيّ، ولا ابن العربيّ، ولا ابن حجر، ولا الشّيخ السّعديّ، ولا الشّيخ العثيمين، رحمهم الله تعالى.


والصّواب إثباته، لما رواه الإمام أحمد في “ مسنده “، والحاكم في “ المستدرك “ (4/574) ، وصحّحه ووافقه الذّهبيّ، وصحّحه الشّيخ الألباني في تخريجه لأحاديث “السنّة “ لابن أبي عاصم ، وأخرجه البخاري تعليقا في [كتاب التّوحيد 13/452- [فتح] عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي، فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ رضي الله عنه،.


فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ ! فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ؛ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ : حَدِيثًا بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي الْقِصَاصِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ ؟ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: ((يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا)).


قَالَ: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا ؟ قَالَ ((لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ. ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ: أَنَا الْمَلِكُ ! أَنَا الدَّيَّانُ ! وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ)).


قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ؟ قَالَ صلّى الله عليه وسلّم ((بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)).


لماذا خصّ الله تعالى ملكه بأنّه يوم الدّين؟ مع أنّه ملك ومالك كلّ شيء في كلّ زمان ومكان ؟
من فوائد الآية: إثبات البعث والجزاء لقوله تعالى {مالك يوم الدّين}، أمّا سبب تخصيصه الملك بيوم الدّين، فذلك لأسباب:
-الأوّل: لظهور ملكوته، وملكه، وسلطانه ذلك اليوم، فالله تعالى ينادي {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] فلا يجيب أحد؛ فيقول تعالى {لله الواحد القهار} [غافر: 16]؛ أمّا في الدّنيا فقد ظهر ملوك ينازعون الله ملكه،كفرعون والنّمروذ وأمثالهم في كلّ مصر وعصر. قال تعالى {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: من الآية73]، وقال {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الحج: من الآية56] {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان:26].


- الثاني: في ذلك اليوم لا يدّعي أحد شيئا، حتّى حقّ الكلام لا يملكه، قال تعالى {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105]، وقال {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً] [النبأ:38].
ولتمام ملكه سبحانه فإنّه لا يملك يومئذ أحد حقّ الشّفاعة، حتّى يأذن سبحانه، قال تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: من الآية255].


-و) يوم الدّين ( هو من أسماء يوم القيامة.
-و) الدّين( يطلق ويراد منه معانٍ عدّة:
- يطلق على الملّة والنّحلة، كقوله تعالى {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ}
- ويطلق على الطّاعة والخضوع، تقول: “دانت لهم العرب والعجم”، ومنه قول الشّاعر:
من القوم الرّسول الله منهم لهم دانت رقاب بنـي معدّ
- ومنها العادة، تقول العرب: هذا دينه وديدنه.


- والحُكم، ومنه قوله تعالى {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [يوسف: من الآية76].
- والورع، كقولك: فلان صاحب دين صلب. وشواهد ذلك يطول ذكرها.


ومن معانيه الّتي تفسّر بها الآية:
- الجزاء، كما في المثل (كَمَا تَدِينُ تُدَانُ) واشتهر لدى النّاس أنّه حديث، وليس كذلك
- الحساب، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: من الآية25]، وقوله تعالى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1]، وقوله تعالى حكاية عن أهل الشّرك {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافّات:53]، أي: محاسبون.
فمعنى ( الدّين في الآية: الجزاء والحساب.


أخرج الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه وناس من الصّحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال: هو يوم الحساب، ويوم الجزاء، وقال البخاري في “ تفسير الفاتحة “: “ وَالدِّينُ الْجَزَاءُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ{بِالدِّينِ } بِالْحِسَابِ، {مَدِينِينَ} مُحَاسَبِينَ.


ومنه اتّصافه عزّ وجلّ بوصف {الديّان} ، وهل هو من أسمائه ؟
روى الإمام أحمد فى الزهد عن أبى قلابة قال )) البر لا يبلى ، والإثم لا ينسى ، والديان لا ينام ، فكن كما شئت ، كما تدين تدان )).
فالكيس من دان نفسه وحاسبها ما دام فى دار المهلة والعمل، والعاجز من أهملها سايرة فى غيها، وأتبعها هواها إلى أن يفجأه الندم.


روى ابن أبى الدنيا فى كتابه)) محاسبة النفس)) عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – أنه قال : “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم فى الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية “ أولاً يذكر الظالم الغشوم هول المطلع وشدة الحساب وقول الديان – سبحانه – فى ذلك اليوم : “ لا ينبغى لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ، ولا ينبغى لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه ، حتى اللطمة “


ولما سأل الصحابة – رضى الله عنهم – كيف يكون الحساب حينئذ والناس إنما يقدمون إلى الله يوم القيامة عراة غرلاً بهماً ؟ ، قال : “ بالحسنات والسيئات “ ، أى : أنه سبحانه يأخذ للمظلوم من حسنات ظالمه ، فإن لم يكن عنده حسنات ، أخذ من سيئات المظلوم ، فطرحت عليه ، ثم طرح فى النار ، كما فى حديث أبى هريرة – رضى الله عنه – ، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، قال : “ أتدرون من المفلس ؟ “ ، قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال : “ إن المفلس من أمتى يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتى قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح فى النار “ روام مسلم .


وروى أيضاً من حديث أبى هريرة – رضى الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : “ لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء “ .


اللهم إنا نسألك زيادة في الدين ، وبركة في العمر ، وصحة في الجسد، وسعة في الرزق ، وتوبة قبل الموت ، وشهادة عند الموت ، ومغفرة بعد الموت، وعفوا عند الحساب ، وأمانا من العذاب ، ونصيبا من الجنة ، وارزقنا النظر إلى وجهك الكريم ، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين واشفي مرضانا ومرضى المسليمين ، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الاحياء منهم والاموات. اللهم ارحم ابائنا وامهاتنا واغفر لهما وتجاوز عن سيئاتهما وادخلهم فسيح جناتك، والحقنا بهما يا رب العالمين، وبارك اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم