في معية الحبيب(4) "مع الموقنين"

محاضرات
طبوغرافي

الدرس الرابع وهو درس الذي جيشت له نفسي، وجمعت له أعصابي، ورغم هذا أراني في حالة من الخشوع التامّ أمام عظمة هؤلاء " مع الموقنين" لقد دخلنا مدارس جميلة في الدروس الثلاثة الماضية.

دخلنا مع المحبين وارتوينا، ودخلنا مع المخلِصين وتعلقنا بهم، دخلنا مع المخلَصين فهامت أرواحنا في الملأ الأعلى، وها أنا أصحبكم مع فريق جديد، وطائفة عظيمة جعل الله تعالى اليقين ميراثًا لها، لست أدري من أين أبدأ، فإن ضيوفي كثيرون، وإن ضيوفي في مرتبة سامية وفي مرتبة عالية، وأنا أستشعر أنهم معي بأنوارهم، وأستشعر أن القلب تملؤه السكينة والخشوع والوقار.

قلت لكم وأنا في معية الحبيب: أرى عملي مختلفًا تمامًا عن جميع التراث الفكري الذي قدمته في حياتي، إنني في هذا الدرس مع الموقنين بفضل الله رب العالمين.

ما أعطى الله أمة من اليقين أفضل مما أعطى أمة محمد صلوات ربي وسلامه عليه، أي أن نصيب هذه الأمة من اليقين ليس له حد، وليس له وصف، وليس له نهاية، هذه الأمة شعارها الأساسي اليقين.

الموت يقين: قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الحياة يقين، المرض يقين، حتى الهزيمة يقين، والنصر يقين والهداية يقين. فاليقين يتشعّب في كل شيء يتصل بأمر الله رب العالمين.

وددت أن أؤلف كتابًا عن تربية اليقين في الإسلام، وأرجو في أن يُفتح لي الفتح الذي أتمناه، وأن أعان على أن أجمع هذه النماذج الفريدة من الموقنين.

في هذا الدرس سنزداد يقينًا مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسنزداد يقينًا مع أنبياء الله عز وجل، وسنزداد يقينًا مع يعقوب عليه السلام عندما جاءه البشير فألقى القميص على وجهه فارتد إليه بصره، وقال جملة اليقين وكلمة اليقين، قال تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الله أكبر خذ هذه الكلمة وضعها في قلبك كلمة اليقين.

هذا أول درس: {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، أن يكون يقين الإنسان بالله تعالى أعظم من أي يقين على وجه الأرض.

 النبي صلى الله عليه ذات مرة أراد أن يربي اليقين في نفوس أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسير فتوقف وقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله: "هل تعرفون أبا روغال؟ قالوا: ومن هو أبو روغال يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احفروا في هذا المكان تجدون أبا روغال، فحفر الناس على عمق محدد حدده لهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال: تجدونه وفي يده غصن من ذهب، فظلوا ينقبون حتى وجدوا أبا روغال كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم" الله أكبر أبو روغال واحد من قوم ثمود وهم قوم سيدنا صالح، عندما أدركتهم الصيحة ظل يجري ويجري فاحتمى ببيت الله الحرام، فكان موته في هذا المكان الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، لو أنك واقف في هذا المشهد لشاهدت نورًا ليس بعده نور، إنه نور النبوة، إنه نور اليقين بالله رب العالمين.

النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه يربّي اليقين عند أصحابه وعند أمته بوسائل شتى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى الفجر فهو في ذمة  الله" الله أكبر، عرفنا معلومة مهمة جدًّا وهى أنك في ذمة الله ما دمت محافظًا على صلاة الفجر هذا يقين، وقال لك النبي صلى الله عليه وسلم وما كان قوله إلا صدقًا: "من تصبح بسبع تمرات أو عجوات، لا يصيبه سُمُّ ولا أذى في يومه هذا"

صدقت يا حبيب الله، أكد العلم أن التمر بحكم يحجب عنك المس والسحر والأذى والحسد، لكن هذا بيقين حتى لو أخذت تمرة واحدة إذا كنت مريضًا بالسكرى سلمك الله، أو جزءًا من تمره مهتديًا بهدي النبي صلوات ربي وسلامه عليه، إذا فعلت هذا تأكد تمامًا وكن على بينة وعلى يقين أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه لا ينطق عن الهوى، هذا الطريق من التحصينات الإيمانية وأنت في حاجة إليها.

 لن يفوتني وأنا مع الموقنين أن أعود إلى هؤلاء الكبار، ودائمًا ألتقي بسيدنا موسى عليه السلام ومعه المؤمنون حقًّا الذين آمنوا به.

خرج موسى عليه السلام من مصر فارًّا بدينه وبمن معه فأدركه فرعون، فصار سيدنا موسى عليه السلام ملتصقًا بالبحر، والفرعون وراءه ومعه جنوده يجرون خلف سيدنا موسى عليه السلام: { فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}  يعني ظهر سيدنا موسي عليه السلام وكاد الفرعون يدركه، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسي إنا لمدركون، إلى أين سنذهب؟ البحر من أمامنا والعدو من خلفنا، إنني معجب بك يا موسى إعجابًا كبيرًا، لقد تعلمت منك يا كليم الله وكنت معك في الدرس الماضي، في الدرس الثالث مع المخلصين، والليلة سأتعلم منك درسًا جديدًا، وهو اليقين التام في قلب موسى الكليم عليه السلام، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} لكن موسى كعادته يزرع فيهم اليقين ويثبت فيهم العقيدة، لكن موسى عليه السلام يقف صلبًا شامخًا شموخ الجبال، كان موسى أشمّ من الجبال بيقينه، والله بيقينه انظروا إلى رد موسى عليه السلام: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} الله أكبر إن معي ربي سيهدين، لأن الله تعالى معك يا موسى، بهذا الشعار إخواني وأخواتي انتصر موسى عليه السلام، انتصر وحُقّ له أن ينتصر، أليس الملك معه؟ "معي ربي" بعد هذا فإن الدنيا كلها لا تساوي شيئًا بجوار هذه الكلمة، إن معي ربي، هذا يقين موسى عليه السلام وهكذا نتعلم في معية الحبيب صلى الله عليه وسلم كيف نزداد يقينا بالله؟ الوعظ جميل، والخطابة جميلة، ولكن التنفيذ أهم.

 ما رأيكم لو انتقلنا ونحن الليلة في معية الموقنين إلى مجال عملي في اليقين بنصر الله تعالى؟ تصور أن مدينة النور يحاصرها الكفار والنبي محاصر صلى الله عليه وسلم، لا يكاد يقدر صلوات ربي وسلامه عليه أن يقضي حاجته وأن يتوضأ.

 وأنا قلبي مع سعد بن معاذ شهيد يوم الأحزان لن أنساك يا سعد، لن أقول لكم وأيكم سعد؟ وأي واحد منا يرقى عمله إلى عمل سعد، ولكن سعدًا كان واحدًا من هؤلاء المحاصرين داخل مدينة النبي صلوات ربي وسلامه عليه، محاصر يعني إما أن يموت وإما أن يُعتقل، أين يذهب من الكفار؟ كانوا إخواني واخواتي يحاصرون المدينة حصارًا شديدًا، والبرد شديد، والمعونات مقطوعة، وأنا الليلة أقدم تحية لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أقدم لهم تحية كبيرة، حق لهم أن نقول رضى الله عنهم، انظر، لو أن أحدًا منا مكانهم لمات في من الرعب وما ثبت وما قوي على تحمل هذه الضربات الموجعة.

 لكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كل يوم يزداد يقينهم بالله، القرآن الكريم سطّر هذا في بيان كريم انظر إلى قوله تعالى {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ}.

المؤمنون يعني الصحابة القرآن سماهم المؤمنين ولم يسمهم الصحابة، لأن عنصر الإيمان عندهم مرتفع، وعنصر اليقين عندهم عالٍ، { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } هذا هو وعد الله ورسوله للمؤمنين، { وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } هذا هو اليقين لم يفروا من الميدان ولم يستسلموا { وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } الله أكبر وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا، أي أن الإيمان عندهم قد ازداد، أي أن اليقين عندهم يزداد كلما اشتد عليهم الخطب، فإن اليقين بالله تعالى جل جلاله يزداد عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أجدني متأثّرًا بهم في ثبات قلبهم، في إخلاصهم، في يقينهم أن الله تعالى لن يخذلهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بنو إسرائيل الذين كفروا بسيدنا موسي عليه السلام وكان إيمانهم بالله تعالى مهزوزًا ضعيفًا، قالوا كلمة عجيبة لسيدنا موسي عليه السلام، عندما اشتدّ الخطب عليهم ذهبوا إلى سيدنا موسى وقالوا له: {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} بحثت في هذه الآية وجدتهم يقصدون بما عهد عندك من الإيمان، بما عهد عندك من اليقين، بما عهد عندك من الدعاء.

يقين موسى عليه السلام جعل هؤلاء القوم المزعجين، هؤلاء القوم الذين أرهقوا سيدنا موسى عليه السلام، وأرهقوا الأنبياء، يعتقدون أنّ موسى عليه السلام بينه وبين الله تعالى سرّ، وكما قلت لك والحق ما شهدت به الأعداء أي أنهم شاهدوا أن موسى عليه السلام في تاريخ الكون له أسرار خاصة عند الله عز وجل أدعوا لنا ربك بما عهد عندك، وسيدنا موسى يدعو ربه بيقين، ويستجيب الله تعالى له ورغم هذا يبقى القوم على كفرهم، وعلى عنادهم، لكن المسألة المهمة هنا: كيف أن هؤلاء القوم علموا أن موسى عليه السلام له خصوصية عند الله عزّ وجلّ، وله أسرار عند الله "بما عهد عندك" أي أنّ الله تعالى جعل فيك يا موسى سرًّا خاصًّا بما عهد عندك، ادعو لنا ربّك، ويستجيب الله تعالى لسيدنا موسي عليه السلام، ويرفع الله الرجز عنهم كما طلبوا، ورغم كل هذا يعودون أسوأ مما كانوا عليه.

لكننا تعلمنا أن هؤلاء القوم يشهدون لموسى عليه السلام أن الله تعالى أعطاه من الأسرار ومن العطايا ما لم يعطِ غيره،  في هذه الفترة الزمنية المهمة في تاريخ الكون سترى المشهد نفسه، يوم بدر لا تنس أنني في هذه الليلة مع الموقنين.

عندما يشتدّ الحصار أيضًا على أصحاب النبي صلوات ربي وسلامه عليه في معركة فاصلة لم يكن الصحابة قد استعدّوا للحرب والنزال وتهجم عليهم قريش ومعها خيلها ورجالها ونساءها وأحزابها، وكان الموقف صعبًا صعيبًا لا يقلّ عن يوم الأحزاب، انظر وأنا أتكلم عن اليقين وكان الموقف صعبًا صعيبًا، فقال الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه كلمة مزلزلة، قال إنا نعلم يا رسول الله إنك إذا ناشدت ربك فلم يردك أبدًا، فادع ربك يا رسول، فقام سيدنا صلى الله عليه وسلم ورفع يديه إلى السماء وظلّ يدعو ويدعو ويتضرع إلى الله عز وجل حتى امتلأ يقينًا حبيب الله، ولما امتلأ يقينًا وهو يدعو، قال: "كأني أرى مصارع القوم" وحدّد النبي صلوات ربي وسلامه عليه الأماكن التي سيموت فيها الكفّار، هنا مصرع فلان، وهنا مصرع فلان، وهنا مصرع فلان.

الله أكبر كما قلت يا حبيب الله كأني أرى مصارع القوم، هذا هو منتهى اليقين في الله عزّ وجلّ ومنتهى الثقة في وعد الله عز وجل، وفي نصر الله تعالى رب العالمين.

ليس عجيبًا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يستجيب له الملك بمجرد أن دعا، ولكن الأعجب أن الصديق رضي الله تعالى عنه يقوله يا رسول الله ناشد ربك، فإنا عهدناك إذا ناشدت ربك فإنه لن يردك، إذًا الصحابة رضي الله تعالى عنهم أصبح عندهم هذا اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا ربه الكريم العظيم فإن الله تعالى يستجيب له على الفور، لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء جاء النصر من الله، { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} ـ أذله يعني يعني قلة، { فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

 ومعنا في معية المتّقين ومع الموقنين أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه، وكان مريضًا وأعرج، رضي الله تعالى عنك يا أنس بن النضر، وعندما أراد أن يخرج يوم أحد رضى الله تعالى عنه قيل له لقد أعذرك الله تعالى، يعني لك عذرك لأنك مريض والحرب لها ما لها.

فقال : ولكنني أحبّ أن أخرج في سبيل الله وأن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، وخرج أنس يعرج ويشتدّ العرج عليه رضي الله تعالى عنه حتى بدأت المعركة ونازل القوم يعني دخل معهم في مواجهة وكان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أيها الكرام يلبس أكفانه، يعني يدخل المعركة لابسًا الكفن، إما الجنة وإما الجنة، ويدخل أنس بن النضر الموقعة ويستشهد، وشاهده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الليلة التى مات فيها واستشهد فيها وهو يطأ بعرجته في الجنة، الله أكبر.

قال: إني أحب أن أطأ بعرجتي في الجنة، وشوهد في الجنة سلمك ربي وأحبك وهو يطأ بعرجته في الجنة، نعم يطأ بعرجته في الجنة، ولما لا وهو الصادق مع الله تعالى رب العالمين؟ ولما لا وهو الموقن بتثبيت الله؟ ولما لا وهو الذي على يقين أن الله لن يخلف الميعاد؟

إني قدمت لك الآن نموذجًا حيًّا مؤثرًا لأحد أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام. الذي هو أستاذ مع الموقنين، وما دمنا مع الموقنين فإنك سترى أحبابًا كثيرين لك في هذه المدرسة الجميلة التي أتحدث عنها ممن عاشوا في كنف الرحمن، وتزودوا بحبّ الرحمن، وامتلأت قلوبهم ونفوسهم بحبّ الرحمن جل جلالك يا الله.

سترى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأستاذ الكبير الذي ربّي اليقين عند أصحابه رضي الله تعالى عنهم، ستراه صلى الله عليه وسلم يوم العسرة وفي ساعة العسرة في الطريق إلى تبوك، وقد اشتدّ الحال عليهم وصعب الأمر عليهم، وفاقت درجات الحرارة منتهاها والناس لا يقدرون ولا يصبرون على العطش.

حرّ شديد، على حد قول المؤرخين يقطع أكباد الجمال أو الإبل، لأن الإبل عندها صبر طويل، فكيف يصبر البشر على هذا الحر الشديد في ساعة العسرة؟

 والله عز وجل الذى سماها بساعة العسرة، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أنك ترى ما بالقوم، وإنك ترى ما بالناس، ادع الله يا رسول الله أن يغيثنا، الجو حرّ.

ورفع سيدنا يديه صلوات ربي وسلامه عليه لم يتكلم، ومجرد أن رفع النبي يديه صلوات ربي وسلامه عليه تغيرت جغرافية الكون في لحظة واحدة، فإذا بالسُّحب تجرى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أغثنا اللهم أغثنا، فإذا بالمطر ينزل شديدًا غزيرًا، ويروي الناس أجمعين.

لم يستغرق هذا المشهد في طلب المطر وفي طلب الإغاثة وفي طلب النجاة سوى دقائق معدودة ويتغير الحال تماما من حر شديد إلى مطر شديد.

مع الموقنين نتعلم من هدي النبي صلوات ربي وسلامه عليه أن الله تعالى يبارك لك في القليل باليقين.

 ويوم تبوك أشار بعض الصحابة إلى نحر أو ذبح بعض النواطح لكي يأكل الناس، فاعترض سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه اعتراضًا شديدًا وقال يا رسول الله إنا أحوج إليها.

فقال الناس وماذا نفعل يا عمر؟ فقال عمر الذكي الأريب الأستاذ المعلم الفاهم الفصيح الذكي: اجمعوا ما عندكم وما بقى من طعام وضعوه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الناس على سفر يا أحبابي وماذا عسى أن يكون معهم؟ تمرة أو كسرة خبز، فجمع الناس ما عندهم ووضعوه أمام النبي صلوات ربي وسلامه عليه وقال عمر باركها لنا يا حبيب الله، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يديه عليها فإذا بها تزداد وتزداد وتزداد، وكان عدد القوم ثلاثين ألفًا، وقيل عشرين ألفًا، وقيل أكثر من هذا، لم يذبحوا النواطح، ولم يستوردوا لحوم، وإنما باركها النبي صلى الله عليه وسلم فأكل الثلاثون ألف جميعًا، الله أكبر، بل أكلوا وتبقى ما يكفيهم بعد ذلك.

 هذه بركة اليقين وأنا مع الموقنين اسمحوا لي أن آخذكم إلى شخصية قيادية أهابها وأحترمها ويملأ حبها قلبي، إنه سليمان عليه السلام.

ماذا عندك يا سليمان عليك السلام؟ كان سليمان عليه السلام جالسًا على كرسيِّه الذي يجلس عليه، وفجأة جيئ له بالكنوز، وجيئ له بالذخائر والنفائس والجواهر، من أعظم ما عند اليمن، انظر إلى ردة فعل سليمان عليه السلام.

ما رأيك في صناديق الذهب المزركشة بالذهب وما في داخلها؟

 ما رأيك في هذا المشهد المزلزل وقد أرسلت إليك بلقيس كنوز وطنها من الذهب والجواهر واللؤلؤ؟

ما رأيك لو اغترفت منه غرفة؟ فقال : لا لست أنا، لست أنا ماذا قلت يا سليمان؟ لقد تعلمنا منك الكثير، قال جملة في اليقين، قال جملة مؤثرة مزلزلة، رفض مالهم وذهبهم وجواهرهم سليمان عليه السلام صاحب اليقين، {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}

الله أكبر، تأملت وأنا صغير ولازلت صغيرًا في هذه الآية، فما آتاني الله خير مما آتاكم، ماذا آتاك الله تعالى يا سليمان من فيض علمه، ونعمه، ومن بحر جوده وكرمه؟ آتاه الله اليقين، عاش بيقين ومات بيقين ورُبّى على يقين، وبُنى بيقين، قال الملك {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } إنني أشدّ ما أكون تأثّرًا عندما أقابل الشخصيات الكبيرة أمثال سيدنا صالح عليه السلام.

صالح عليه السلام، مع الموقنين كيف يفوتني أن أتحدث عنك وأن أستضيفك يا نبي الله؟ صالح عليه السلام، الذي صرخ فيهم: ناقة الله وسقياها فكذّبوه فعقروها. الشاهد عندي في درس الليلة مع الموقنين أن صالحًا عليه السلام أعطى للقوم بعد أن قتلوا الناقة، وبعد أن هرب فصيلها بيانًا ربانيًّا كله يقين في يقين: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}

اليقين أن الله تعالى بعد هذه الأيام الثلاثة سينزل عليكم عذابًا ليس قبله عذاب ولا بعده عذاب، وفعلًا بيقين سيدنا صالح كما علّمه ربه أنهم بعد أيام ثلاثة سيغادرون هذا الكون الذي أفسدوا فيه.

ولماذا يا صالح أهلكهم الله عز وجل؟ أهلكهم هلاكًا عظيمًا لم يسبق له مثيل في تاريخ الكون، لأنهم طلبوا شيئًا صعبًا ولكنه لا يصعب على الله، طلبوا أن يخرج لهم النبى ناقة عشراء ومعها فصيلها من قلب الصخرة، وحدّدوا هذه الصخرة، وطلبوا خروج الناقة، انظر إلى قدرة الله العلى الكبير، وتخرج الناقه إليهم ومعها فصيلها، ورغم هذا يذبحونها ويعقرونها، ألا يستحقون عذاب الله عز وجل؟ فحقّ عليهم عذاب الله عزّ وجلّ، فخسف بهم، يا صالح ما ازددنا معك إلا يقينا بالله سبحانه وتعالى.

مع الموقنين سترى عليًّا بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه شجاع هذه الأمة، يرقد مكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام ينام مكان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، وهو على يقين بفضل الله عز وجل، وكان شابًّا يافعًا، أنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إليه ولا أن يدركوه ولا أن ينالوا شيئا كما قال الملك عز وجل وحق له أن يكون الملك: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}

مع الموقنين سترى على مدى التاريخ أن القلة المؤمنة دائمًا تهزم الكثرة المتكاثرة بأمر الله عزّ وجلّ كما قال الملك عز وجل وهو يربي اليقين عندنا .

((كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ))

 أيها الأحباب، مع الأنبياء ومع الصحابة ومع التابعين، سترى عامر بن عبد الله الذي تمنى أن يموت صائمًا، وأن يموت ساجدًا، يقينه في الله عز وجل كان: كلما سجد دعا الله تعالى أن يموت صائمًا ساجدًا، ومرض في آخر أيامه رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ورغم ذلك كان يوصي أولاده أن يحملوه إلى المسجد.

 وذات يوم اشتدّ عليه المرض فحمله أولاده إلى صلاة المغرب، وكان صائمًا، ووقف يصلي المغرب وهو يتسنّد على الناس، وفي الركعة الأولى خر ساجدًا ولم يرفع رأسه بعدها.

لقد مات ساجدًا، ومات صائمًا، أيكم تمنى على الله  أن يموت صائمًا، وأن يموت ساجدًا؟ أيكم تمنى على الله أن يموت شهيدًا؟

أيكم تمنى على الله أن يموت على اليقين الذي كان عليه سيدنا جعفر بن أبي طالب الذي حمل الراية بين عضديه يوم مؤته؟

أهلًا بك يا شهيد مؤته، لقد زلزلتنا شهيدًا وحيًّا وبطلًا، لقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام يحبك، وعندما عدتَ إلى الحبشة فقال سيدنا صلى الله عليه وسلم: لست أدري بأيهما أفرح؟ بعودة جعفر، أو بفتح خيبر.

استشهد جعفر، ولكن شهادة بطعم خاصّ، شهادة بطعم اليقين رضى الله تعالى عنه، يحمل الراية بيده اليمنى فتقطع يده اليمنى، ثم يحملها بيده اليسرى، فتقطع يده اليسرى، ويحملها بين عضديه، فيشتهد.

ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصف الموقعة من بعيد عبر الوحي، عبر هذا البث المباشر من مؤتة إلى مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فأمسك بالراية جعفر فقطعت يده اليمنى ثم قطعت اليسرى ثم حملها بين عضديه فاستشهد، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أرى الآن جعفر يطير في الجنة الله أكبر.

أنه جعفر الطيار، لن أقول لكم وأيكم جعفر؟ ولكن أيكم على قلب جعفر الذي كان يقينه بالله تعالى عظيمًا؟ الذي يذهب مهاجرًا إلى الحبشة ويحمل دين الله عز وجل، ما أجمل هذه النهاية يا جعفر!

 مع الموقنين أحيا مع هؤلاء الكبار الذين رسموا معالم الكون.

 يقول سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه: لقد عودني ربي أنه كلما أعطيت أعطانى الله، وأخشى إن قطعت قُطع عني، من كان فقيرًا فليتصدق، هذا هو اليقين من كان فقيرًا فليتخلّص من بعض الأشياء، رجل تصدق بنصف رغيف ونجى بنصف الرغيف.

أرى رجلًا يسير في الحرّ الشديد فيرى كلبًا يلهث من العطش، هذا رجل صاحب يقين، فيخلع خفه وينزل إلى البئر ويعبئ الخفّ ويصعد والماء في الخفّ، ويسقي الكلب، فينظر الله تعالى إليه برحمته وبعفوه وكرمه فيدخل الجنة الله أكبر . يقينه أن الله تعالى ينظر إليه عندما سقى كلبًا فحمد الله وشكر الله رب العالمين.

 مع الموقنين سترى رجالا كانت حياتهم كلها يقينًا في يقين، هذا رجل كان يقينه أنه إذا أبر بأمه فإنه سيكون مستجاب الدعوة، فكانت حياته كلها أن يكون بارًّا، بأمه فأخلص في بره بأمه، فلما أخلص في هذا الباب سلمك الله تعالى وأحبك، كان إذا دعا الله تعالى فإن الله تعالى يستجيب له.

 مع الموقنين سترى النبي صلى الله عليه وسلم يربي اليقين عند أصحابه، ذات ليلة كان البرد شديدًا، وكان الصحابة محاصرين، فقال النبى وقد اشتد البرد على أصحابه والناس ينكفئ بعضهم على بعض من شدّة البرد: "أيكم يأتيني بخبر القوم؟ فقالها ثلاثًا، فقام حذيفة رضي الله تعالى عنه، يقول حذيفة وكنا في برد شديد واشتدّ البرد علينا، ولكنني لما قمت وكأنني أسير في حمام دافئ، الله أكبر .

هذا هو اليقين، هذه هى الثقة بالله رب العالمين التي ينميها الملك ويربيها الملك عند موسى وهارون عليهما السلام، حيث قال لهما:  {قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ}

مع الموقنين سترى أمّة تنام على يقين، وعندما تنام هذه الأمّة تقول: اللهم قنا عذابك يوم أن تبعث عبادك، ننام على يقين بالموت ونصحو على يقين بالموت، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور .

مع الموقنين، أنا ما زلت لم أذكر شيئًا بعد، مازال في جعبتي الكثير من هؤلاء القوم الكبار، إنهم الأكابر كما أسمّيهم دائمًا، لأن قلوبهم تميزت عن قلوبنا باليقين الكبير في الله رب العالمين.

 يرد النبي صلى الله عليه وسلم عين أبي قتاده بيده ويعيدها كما كانت، فتكون هذه العين التي تصفّت ويعيدها النبي صلى الله عليه وسلم مكانها العين، فتعود عينه أحسن وأشدّ إبصارًا من الأولى، الله أكبر.

فى يوم خيبر يقول سيدنا صلوات ربي وسلامه عليه: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله فاشرأبت أعناق الرجال" فإذا بهذا الرجل هو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، انظر، وكان في عينيه رمد، يعني كانت عينيه مصابة رضي الله تعالى عنه، فتفل النبي صلى الله عليه وسلم النبي في عينيه بريقه الشريف، ومسح النبي على عينه المصابة، يقول علي: فعادت أفضل مما كانت.

ماذا أقول يا حبيب الله في معية الموقنين؟ وأنت الذي علمتنا اليقين كله، وأنت الذي ربيت في أصحابك كأنهم يعيشون عند عرش الرحمن كما قال أحدهم: كأني أرى عرش ربي بارزًا، وكأني أرى أهل الجنة ينعمون فيها، وأهل النار يعذبون فيها، هذا  يقين، ثم يقول: وبعد هذا استوى عندي ترابها مع ذهبها، أى الدنيا.

هذا هو اليقين يا حبيب الله الذي نمّيته فينا، اليقين يا حبيب الله وأنت أستاذ الموقنين، اليقين يا حبيب الله هو الشجرة التي ترعرعت وتزايدت أغصانها فملأت الدنيا بالنور وبالإيمان.

ما ظنك بأثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا.

 كنت معك حبيب الله ومع ضيوفنا الكرام من الأكابر الذين عشت الليلة معهم، إنهم أكابر بقلوبهم، إنهم أكابر بيقينهم، إنهم أكابر لأنهم جمعوا في حب الله عز وجل، وازدادوا في كل يوم بالله تعالى يقينًا، حتى قال أحد الأكابر وحُقَّ له أن يكون من الأكابر. وهو الإمام علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه: لو كشف الحجاب بيني وبين ربي ما زدت يقينًا، الله أكبر فإن عنده من اليقين ما يكفيه، فإن عنده من الإيمان ما لا يحتاج معه إلى أدلة.

أيها الإخوة الكرام، ما أجمل أن تكون واحدًا في جامعة الموقنين، ما أجمل أن تكون واحدًا من الملتحقين بمعية الموقنين.

اللهم اجعلنا وإياكم مع الموقنين، وفي زمرة خير الموقنين، واحشرنا يا ربنا يوم القيامة مع سيد الموقنين صلى الله عليه وسلم.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ}