هذه الحكمة من كتاب "صيد الخاطر" لابن الجوزي رحمه الله تعالى وهو مداد للحكم الربانية التي اقتبست منها العمر كله، وأنا أدين لهؤلاء العلماء بالفضل لأنني تربيت على مائدتهم واقتبست من أنوارهم وتنعّمت بأحوالهم، يقول ابن الجوزي عن حبيب الفارسي رحمهما الله تعالى أنه كان مجاب الدعوة وهذا أبرز ما فيه، وألّف الحافظ ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى كتابًا عن صفات مجابي الدعوة.
لا بد أن نتكلم عن حياة هؤلاء وأن نقشقش عن أنوارهم وأن نتغذى بكلامهم، الحكمة الربانية التي أختارها تأتي ملامسة لقلبي وليست مصطنعة، يقول رحمه الله تعالى: "إِنَّ مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ إِذَا مَاتَ مَاتَتْ مَعَهُ ذُنُوبُهُ".
إنني أشعر أنني أطير في السماء عندما أشمّ رياحين الصالحين ،وأنهل من فيض علمهم، وحبيب أبو محمد الفارسي رحمه الله تعالى لم يكن بالتوهج الذي بدأ به حياته، وحبيب أبو محمد الفارسي رحمه الله تعالى كان من عوامّ الناس وليس في الكينونة الربانية المطلوبة..
أنا أتكلم عن عالم من النور ومن الأمل الأمة كلها تحتاج إليه.. جلس حبيب أبو محمد الفارسي رحمه الله مع الإمام الحسن رضي الله عنه فأشرقت الأنوار على قلبه بعد أن كان مهجورًا، ولما حضر حبيب أبو محمد الفارسي رحمه الله المجلس تنوّر، ولما تنوّر تطهّر فزاد إشراقًا..
كيف يتحول الإنسان من عاصٍ إلى إنسان في قمة الربانية؟
كان حبيب أبو محمد الفارسي رحمه الله مجاب الدعوة رغم كونه عاصيًا، هؤلاء العصاة لا يعتقدون أنهم دخلوا في سرداب أهل النار، وهؤلاء العصاة لا يعتقدون أنهم قد طُلسم عليهم بطلاسم الحجب المحجوبة عن الله تعالى، فقد يتزلزل العاصي في درس من دروس العلم فيُشد له.
كيف تحول من إنسان عاصٍ إلى ولي من أولياء الله الصالحين؟ قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}. كيف تتفوق على نفسك وتتحول من إنسان تعتريه الغفلة إلى إنسان تجاوز مفاوز الفتن؟ قد تكون إنسانًا تجاوز قناطر الفتن حتى وصل إلى خزائن المنن؟ وقديمًا علمونا أن العبد الرباني هو الذي يصل إلى مرحلة كن فيكون..
من أصحاب الدعاء المستجاب..
رد الله تعالى بصر الكفيف بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان مجاب الدعوة ، والعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه كان مجاب الدعوة، والعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه كان يقاتل في بلاد فارس فنفق فرسه – أي مات - فتضرع إلى الله تعالى فقام الفرس، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ}.
كيف وصل هؤلاء إلى مرتبة السعادة؟
السعيد هو الذي يموت ولا يترك وراءه ذنب، وأنت عند سفرك سافر خفيفًا لكي يخف الحساب عليك، قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من ورائكم عقبات كؤوداً لاَ يَنجُو مِنها إلاّ كُلّ مُخف»، وهذا الحديث صحيح، ورواه الطبراني عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قالت قلت له مالك لا تطلب ما يطلب فلان وفلان قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن وراءكم عقبة كؤودا لا يجوزها المثقلون . فأنا أحب أن أتخفف لتلك العقبة . رواه الطبراني بإسناد صحيح؛ أي من الذنوب وما يؤدي إليها وفي النهاية يقال أخف الرجل فهو مخف وخف وخفيف إذا خفت حاله ودابته وإذا كان قليل الثقل يريد به المخف من الذنوب وأسباب الدنيا وعلقها.
من أسباب التخفف من الذنوب:
السبب الأول: التوبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}، وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}.
السبب الثاني: الاستغفار، كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر الله لهم)).
السبب الثالث: الأعمال الصالحة والحسنات، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)). وقال: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)). وقال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)). وقال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
السبب الرابع: المصائب، وهي كل ما يؤلم من هم أوحزن أو أذى في مال أو عرض أو جسد أو غير ذلك، لكن ليس هذا من فعل العبد، وهذه المصائب يكفر الله بها في الدنيا، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)). ولما نزل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}. قال أبو بكر: يا رسول الله: قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر: ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأوى؟ فذلك ما تجزون به)).
عندما تسافر لا تسافر إلا خفيفًا لا تحمل ذنوب غيرك معك، لا توصِ لأحد بشيء إلا في إطار الشريعة الإسلامية، لا تعطِ أحدًا شيئًا إلا في إطار الشريعة الإسلامية، لا تمكن أحدًا من شيء إلا في إطار الشريعة الإسلامية.
قابيل الذي قتل هابيل يحمل وزر كل حالة قتل تجري يوميًا في العالم كله، فمن يسن سنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن يسن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى إلى يوم القيامة.
قد تفعل مصيبة ولا تستطيع التوبة منها، وطلب الطاعة أيسر لك من طلب التوبة، فالذي سرق وأراد أن يتوب ورفض المسروق منه أن يعفو عنها، فكيف حال السارق مع الله تعالى؟
كثير من الناس لا يتورعون عن المعاصي بحجة أن الله تعالى غفور رحيم، لأنهم لم يفهموا الإسلام بالصورة الصحيحة، ولم يفهموا قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُم"، فهذا الحديث الشريف معناه أن الله تعالى يتجاوز لك عن الذنب عندما تفعل الذنب غير مدرك إياه. قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}.
الذي يبارز الله تعالى بالمعصية سيموت حاملًا ذنوبًا كثيرة جدًا
فلا تكتب بخطك غير شيءٍ ... يَسُرّك في القيامة أن تراهُ
لما سُئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عن رجل مات وترك لأولاده آلات معازف ما حكم النفقة عليهم منها؟ فقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا يجوز الانتفاع بآلات المعازف حتى لو مات الإنسان جوعًا.
"إِنَّ مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ إِذَا مَاتَ مَاتَتْ مَعَهُ ذُنُوبُهُ"