اللِسَانُ العربيُّ القويمُ مِنْ مرتكزاتِ الحضارةِ العربيةِ الإسلاميةِ لا غنى عنه

محاضرات
طبوغرافي

 أ/ هشام شعبان الفقي 

باحث دكتوراه بقسم النحو والصرف

والعروض كلية دار العلوم - جامعة القاهرة

 لابد لأي حضارة من الحضارات، وأي أمة من الأمم، وأي مجتمع من المجتمعات البشرية مجموعة من الركائز التي تقوم عليها، وتبنى على أركانها وتشيد على أساسها، وتأتي في مقدمة هذه الركائز وأهمها اللغة، فاللغة وعاء للفكر والثقافة والعلوم والفنون، واللغة ناقلة للتراث الحضاري، واللغة وسيلة أساسية للتواصل بين أبناء الشعب الواحد، واللغة جسر ضروري للتفاهم والتعايش بين أفراد المجتمع، ومن ثم تقدمه وازهادره، واللغة وسيلة للتواصل بين الشعوب المختلفة، واللغة سفيرة مهمة للحوار والاتصال بين كل البشر في كل العالم.

وفي هذه المقالة سوف نناقش مرتكزًا مهمًا من أهم المرتكزات الأساسية للثقافة العربية الإسلامية، وركنًا أساسيًّا من أركان بناء الحضارة العربية الإسلامية وهو اللسان العربي، ولقد أشار أستاذنا الدكتور أحمد فؤاد باشا المحقق المصري للتراث العربي والإسلامي وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة في كتبه وأبحاثه ومقالاته إلى أن مرتكزات الثقافة العربية الإسلامية خمس ركائز، ومن أهمها: الدين الإسلامي الصحيح، واللسان العربي القويم، والرصيد الحضاري.

أكتبُ هذه المقالة وتفصلنا أربعة أيام فقط على يوم الثامن عشر من شهر ديسمبر لعام 2017م، وهذا اليوم هو اليوم العالمي للاحتفال باللغة العربية الذي أقرته الجمعية العامة بالأمم المتحدة، وبموجبه تقرر إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، وترتب على هذا القرار أن اللغة العربية واحدة من ست لغات عالمية معترف بها.

وفي حقيقة القول لا يعدُّ هذا تشريفًا وتكريمًا للغة العربية، فاللغة العربية قد كُرمت منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ عندما اختارها الله –عز وجل- أن تكون لغة كتابه الخاتم القرآن الكريم، ورسوله الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: "إنا أنزلناه قرآنا عريبا"، و"بلسان عربي مبين"، و"لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين"، وهناك العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تبين فضل اللغة العربية بين سار اللغات، فاللغة العربية لغة الدين الإسلامي وبها يتعبد المسلون في صلاتهم، وكرمها الله من فوق سبع سموات.

والناظر في حال اللغة العربية اليوم، وفي حال أهلها اليوم يجد جحودًا ونكرانًا غير مسبوق لقيمتها ومكانتها وقدرها ومنزلتها، فليس هناك قوم أهملوا لغتهم، وأعرضوا عنها، واستبدلوا بها غيرها، وأغربوا عنها، مثلما وجدت من أهل اللغة العربية تجاه اللغة العربية، وكأن أبيات شاعر النيل حافظ إبراهيم تحطي واقعها اليوم في قصيدته: "اللغة العربية تنعى حظها" فقال:

رجعتُ لنفسي فاتهمت حصاتي

وناديتُ قومي فاحتسبتُ حياتي

رموني بعقم في الشباب وليتني

عقمتُ فلم أجزع لقول عـــداتي

ولدتُ ولمـــــــا لم أجــــد لعرائسي

رجــــــالاً وأكْفــــــاءً وأدت بنـــــاتي

وسعــــــتُ كتاب الله لفظًا وغايةً

وما ضقت عن آي به وعظاتِ

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ

وتنسيق أسمـــــاءٍ لمختــــــرعاتِ

أنا البحرُ في أحشائه الدر كامنٌ

فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني

ومنكم وإن عزَّ الدواءُ أساتي

فــــــلا تكلــــــوني للـــــزمان فإنني

أخاف عليكم أن تحين وفاتي

إن أجدر وصف يمكن أن نسمي به اللغة العربية الآن هو "اللغة الباسلة" كما تفضل بذلك الدكتور فتحي جمعة في كتاب له يحمل هذا المصطلح، فقال: "هذا وصف يثبت استقراء واقع اللغات وتتبع أحوال الأمم والشعوب أنه لا يصدق على لغة كما يصدق على اللغة العربية؛ لأن التاريخ اللغوي لا يعرف لغة تظاهرت عليها الخصومات والعداوات تأتيها من كل مكان: من الشرق ومن الغرب، ومن الداخل والخارج كما عرف ذلك للعربية، فإذا كانت البسالة تعني من بين ما تعني الشجاعة والقدرة وصلابة المقاومة في مواجهة الطعنات والضربات، فإن العربية جديرة بحق أن ينسب إليها هذا الوصف بأقوى دلالاته وأنبل معانيه". 

ما أقسى كلامك أيها الدكتور، أيها الغيور، صاحب قضية اللغة العربية، الذي تشرفت بالتلمذة على يديه وجلست أمامه بإحدى قاعات كلية دار العلوم جامعة عندما كنت طالبًا بالفرقة الثانية بالكلية، فما وجدت أستاذًا يحب اللغة العربية، ويدافع عنها، ويعتز بها، ويرفض أي كلمة أجنبية داخل قاعة الدرس، وكان نموذجًا جديرًا بالاحترام للأستاذ الجامعي المتحدث بالفصحى مثله، نعم إن أصدق وصف جدير باللغة العربية وجديرة به اليوم، وجدير بأهلها العرب هو اللغة الباسلة، نعم تواجه العربية عند إشراقة شمس كل صباح العديد من التحديات، ويوضع أمامها الكثير من الصعاب والعراقيل، وتتحدى العديد من المشكلات والصعوبات من أجل استمرارها وبقائها حية متماسكة صلبة كأنها في ريعان شبابها.

وتأتي العديد من التحديات التي تواجهها اللغة العربية من الداخل ومن الخارج، ومن أهم هذه التحديات إعراض أهلها عنها، واستبدال بها العاميات واللهجات المحلية، والبعد كل البعد عن اللغة العربية الفصيحة بوصفها من عوامل وحدة الشعب العربي والدول العربية، ومنها البون الشاسع بين الفصحى والعامية، وهجوم اللغات الأجنبية في كثير من مؤسسات وميادين المجتمع العربي، وجعلهم شرطا أساسيا من شروط التعيين بالعديد من الوظائف والدرجات العلمية والعملية.                       

إن اللغة العربية هي ركيزة أساسية من ركائز التي قامت عليها الثقافة العربية الإسلامية؛ لأنها من رابط قوي من الروابط والصلات بين أبناء المجتمع الواحد، وهذا ما أورده الشيخ الإمام محمد الخضر حسين في كتابه دراسات في اللغة العربية وتاريخيها، فقال: "والتوافق في اللغة مما يزيد العلائق التي تؤلف الناس في نظم الاتحاد قوة ووثوقا، ولهذا ترى الداعي إلى الوحدة الوطنية يسعى في تعليم لغة الوطن وتعميم نشرها حتى تكون هي اللغة الجارية في خطاباتهم وتحريراتهم على وجه الصحة، لا يعدلون إلى التفاهم بغيرها إلا عند الحاجة، ومتى أهملت الأمة لغتها وزهدت في تعلمها انفصمت عرى جامعتها".

لقد بات معلومًا وواضحًا أن "المحافظة على التراث لا تعني النظر إلى الخلف أو الجمود على الماضي، بل هي دليل على قوة الانطلاق في السعري إلى الأمام؛ لأنه انطلاق تحدوه الثقة بالنفس، والاعتداد بالذات وهو أمر ضروري في استحثاث الخطى على متابعة المسيرة الحضارية للأمة؛ إذ الحضارة التي نركن إلى جذورها من تراث أصحابها، أقوى وأبقى من الحضارة التي أنشأها أهلها إنشاء ليس له أصول في تاريخهم القديم. من أجل ذلك يكون الحرص على التراث ضرورة حضارية حيوية في حياة جميع الأمم والشعوب، هذه حقيقة ثابتة لا تقبل إنكارا ولا تحتمل جدلا". كما قال صاحب كتاب اللغة الباسلة.