ثمة فرق كبير بين سمع الناس، وسمع رب الناس، وهذا علم كبير، يسمى علم الأسماء والصفات، {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ} لا بد أن يكون هذا اليقين الذي كان عند موسى عليه السلام وأخيه موجودا عند كل مسلم.. إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، في كل العقبات في حياتك لا تخاف، في جميع ما يعتريك من أزمات أسرية وعائلية ومالية.
تذكر هذه الجملة القرآنية، "لَا تَخَافَا"، مهما زاد الظلمُ، قل في نفسك لَا تَخَافَا .
مهما اشتد البطش قل في قلبك لَا تَخَافَا، ثم تذكر الحالة الإيمانية التي ارتقى إليها سيدنا موسى عليه السلام، عندما وصل إلى مرحلة اليقين، كل هذا ترتيب لـتربية إيمانية، لا تخف، خمسة عشر ألف ساحر، لا يهزمونك يا موسى، لا تخف، {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى}، سيدنا موسى عليه السلام، لماذا هو أعلى؟ لأنه عرف الطريق إلى الأعلى، سبحان ربي الأعلى، وليس علوا دنيويا، إنك أنت الأعلى كعبا، والأعلى قربا، والأعلى رشدا، والأعلى وصلا لله، ألم يقل لك الملك : {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} ألم يصنعك الملك بـعينه، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}، كيف تخاف؟
لِأجل هذا عندما أراد الملك أن يصف سيدنا موسى عليه السلام، قال : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إنهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) } قال تعالى: " مُخْلَصاً"، ولم يقل: مُخْلِصاً، لأن مُخْلَصا درجة أعلى من مخلِص .
{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} لماذا وناديناه؟، لأنه كان مُخْلَصا، وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، دخل مرحلة القرب، ومرحلة المناجاة، الاثنتين معا .
وكلمة نَجِيًّ لم تأت في القرآن كله، إلا مع سيدنا موسى عليه السلام، وَقَرَّبْنَاهُ لم تأت أيضا في القرآن كله إلا مع سيدنا موسى عليه السلام
الشكر مدخل إلى المناجاة .
إذا لم تكن شاكرا لن تستطيع أن تناجي.. بأي وجه تناجي الملك، وأنت جاحد نعمه عليك، وبأي لسان تناجي، وبأي قلب تناجي، وبأي عطاء تناجي، عندما وقف النبي صلى الله عليه وسلم، وناجى الله بعد ابتلاء شديد، عندما ذهب إلى أرض الطائف، ودعا أهلها بكل قوة، ورموه وسال منه الدم، وأطلقوا عليه سفهاءهم، وصل إلى مرحلة عالية فقال مناجيا ربه:
((..إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي))، هذه هي المناجاة، تسبقها معاناة.
إذن المناجاة أنك تبث حالك إلى الله جل جلاله، دون أن تبث الشكوى إليه، كيف تشكو الرحيم إلى الرحيم، ثم كيف تشكو الخالق إلى الخلق، فإذا شكوت الله تعالى إلى الخلق، إنك تشكو الرحيم إلى من لا يرحم .
نجاح يعقوب في المناجاة.
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، أستاذية سيدنا يعقوب عليه السلام في اليقين، هو يعلم أن كل هذا مقدر ومرتّب من الله تعالى، وأن الله تعالى سيجمعه بسيدنا يوسف عليه السلام، وأن الله تعالى سيرد إليه بصره، فيتهم بالجنون والضلال، فيقول لهم أنا في النهاية غيركم، يقيني غير يقينكم، حتى عندما جبر الله سبحانه وتعالى خاطره، ورد إليه بصره، وعندما فتح عينيه، قال هذه الجملة المزلزلة، {فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، لقد نجح في اليقين.
هل تعرفون لماذا نجح في المناجاة؟، إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ.
إذن المناجاة بث الحال إلى الله، بماذا؟ بأسمائه، وصفاته، وآيات إنعامه، التي إن أدركتها فهمت من تناجي .
أدب خير البشر في المناجاة.
لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ظلت تسير ناقته حتى استقرت عند صحابي في البداية، اسمه أبو أيوب الأنصاري فصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعلى كما طلب منه الصحابي، فـجيء له بالثوم والبصل، وهما طعامان عربيان شهيران لهما من الفوائد الطبية، والنفسية، والصحية، ما لا حد له، فقدموا إليه الثوم والبصل فاعتذر بأدب، ولم يرفض النبي صلى الله عليه وسلم طعاما قط .
فقال إني امرؤ يناجي، فهو يعرف أن المناجاة مع الله الملك لها أدبها، وكيف يناجي ويفوح البصل من فمه الشريف .
إذن المناجاة تحتاج إلى وضع إيماني ونفسي معين، عندما يصله الإنسان يستطيع أن يناجي، عندما وصل النبي إلى مرحلة البلاء، واشتد عليه البلاء، قال بعد رحلة الطائف، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي .
هل طلب شيئا؟ هذه هي المناجاة، إنما عبر عن حاله، بث الأمر إلى الله، ثم استرسل النبي صلوات ربي وسلامه عليه، في الكلام المفعم بالنور حتى قال مناجيا أيضا:
((لك العتبى حتى ترضى))، لم يقل ارضَ عني .
فحالة المناجاة التي وصل إليها الأنبياء، إنما وصلوا إليها بعد معاناة، فسيدنا إبراهيم عليه السلام، لم يطلب شيئا عندما بث الشكوى القلبية إلى الله جل في علاه .
أبو الأنبياء وأدب المناجاة.
{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ..} إِنِّي أَسْكَنتُ، هذه مناجاة لم يطلب شيئا، أنا الآن أناجيك، ثم لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، دعا لمن؟ لنفسه أم لـقومه؟ دعا لـقومه .
لكي يقيموا الصلاة، يجب أن يحبوك أولا يا رب كي يصلوا، لا بد أن تكون قلوبهم متعلقة بالملك، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، إذن تعلق القلب بالملك، أقوى ما في المناجاة، وهم يريدون أن يشكروك يا الله.