الأنبياء وهبوا حياتهم من أجل إعلاء "لا إله إلا الله"

معية الحبيب
طبوغرافي

الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض

الداعية والمفكر الإسلامى

الفضيلة أخيرة 33

حياتك لا تقاس بالأعمار والسنوات ..فالشافعي عاش 40 عاما وترك علما غزيرا

النبي موسى قطع الأميال ليتعلم من الخضر..وذو القرنين بني سدا هندسياً دون مقابل

الدنيا كلها تعلمت من أصحاب البذل للحياة، ومن أصحاب الثبات على العقيدة، كل الأنبياء بلا استثناء وهبوا حياتهم من أجل إعلاء كلمة ((لا إله إلا الله))، كل الأنبياء عُذّبوا لأجل كلمة ((لا إله إلا الله)) ولكنهم استعذبوا العذاب، أي صار مذاق العذاب حلوا فى أفواههم ذلك لأجل كلمة ((لا إله إلا الله)).

أُلقيَ إبراهيم عليه السلام في النار باذلًا حياته لأجل ((لا إله إلا الله))، وأُلقي يوسف عليه السلام فى الجب، وحُبس فى السجن بضع سنين ظلما فصبر من أجل ((لا إله إلا الله)) ومكث يونس عليه السلام فى بطن الحوت فكان من الذاكرين والمسبحين والمتغفرين، ولم يقنط من رحمة الله تعالى.

كل نبيّ ضحى بحياته كلها لأجل ((لا إله إلا الله)) والرسالة التي بُعث كل الأنبياء لأجلها كلمة ((لا إله إلا الله)).
البذل للحياة هو أن تترك الوطن والأهل والأحباب، لأجل الله تعالى، وأفضل الباذلين فى هذا المجال هو نبينا صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى فيه وفى أصحابه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (النحل: 41)، بذل النبي صلى الله عليه وسلم حياته تاركا أرضه ودياره وأحب البلاد إلى الله وإلى قلبه لأجل الله.

أيها الأخ الحبيب.. سأضيف لك في هذا الدرس مجموعة من المعاني الجديدة كي نفهم معنى الحياة، خدعوك فقالوا: إن الحياة هيَ الأعمار والسنون التي نقضيها، ولكن الحياة تقاس بمقدار العطاء الذي أعطيته في هذه الحياة،
الإمام الشافعي عاش أربعين عاما ولكنه ترك علما غزيرا لا يستطيع أحد فى عصرنا أن يجمعه فى مئات السنين، فكان فارس الأمة فى الفقه.

الإمام أبو يحيى التلمذي عاش عمرا قصيرا، الإمام النووي فاق الأربعين عاما بقليل، عاشوا أعمارا قصيرة لكنهم تركوا أعمالا كثيرة.

استطاع مصعب بن عمير
في وقت قصير أن يغير مسار حياته من الكفر للإيمان، ومن ذاك الفتى المدلل المنعم في مكة، إلى شاب متواضع متعفف رث الثياب، كان يحيا في مكة حياة اللهو والمتع، وأخذه الإسلام إلى حياة أخرى بشكل آخر وعطاء مختلف، فباع حياة الترف واشترى الإيمان بالله والدار الآخرة، إنه نموذج فريد وجميل.

وصدق من قال: ومن يستصعب صعود الجبال ..يعش أبد الدهر بين الحفر

خباب بن الأرت:
تعرض خباب رضي الله عنه لشتى ألوان العذاب، لكنه تحمل وصبر في سبيل الله، فقد كانوا يضعون الحديد المحمي على جسده فما يطفئ النار إلا الدهن الموجود في ظهره، وقد سأله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومًا عما لقى من المشركين، فقال خباب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر عمر، فقال: ما رأيت كاليوم، قال خباب: لقد أوقدت لي نارا، وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري (أي دهن الظهر).

مؤمن آل فرعون:
قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُومُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]
"مؤمن آل فرعون" هو رجل من قوم فرعون آمن بموسى عليه السلام، وظلّ يتكتم على إيمانه، ويعتبر نفسه مكلفا بالدفاع عنه عليه السلام.

لقد كان الرجل - كما يدل عليه السياق القرآني - ذكيا و لبقا، يقدّر قيمة الوقت، ذا منطق قوي، حيث قام في اللحظات الحسّاسة بالدّفاع عن موسى عليه السلام وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته.

الخضر عليه السلام:
يخرج سيدنا موسى عليه لسلام يقطع الأميال والأميال، يبذل جزءا كبيرًا من عمره لكي يلتقيَ بوليّ صالح، وعبد صالح، آتاه الله تعالى رحمة وعلمًا، هذا العبد الصالح هو الخضر عليه السلام، الذى بذل حياته كلها لله تعالى ولتعليم الناس.

بدأت حكاية موسى عليه السلام مع الخضر عليهما السلام، حينما كان عليه السلام يخطب يوما في بني إسرائيل، فقام أحدهم سائلا: هل على وجه الأرض أعلم منك؟ فقال موسى: لا، إتكاءً على ظنه أنه لا أحد أعلم منه، فعتب الله عليه في ذلك، لماذا لم يكل العلم إلى الله؟ وقال له: إنَّ لي عبدا أعلم منك وإنَّه في مجمع البحرين، وذكر له أن علامة مكانه هي فقد الحوت، فأخذ حوتا معه في مِكْتَل وسار هو وفتاه يوشع بن نون، وحكت لنا سورة الكهف كيف التقى مع العبد الصالح الخضر، إذ بدأت الحكاية في القرآن الكريم بعزم موسى عليه السلام على الرحلة إلى مَجْمع البحرين في طلب العلم ، كما قال تعالى : " وَإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ".

ثم تتابعتْ الأحداث حيث نسيا الحوت وواصلا طريقهما، ثم تنبها لنسيانه فعادا، ولقي موسى عليه السلام الخضر عند مجمع البحرين، والخضر (و القول بنبوته قوي ) عبد صالح وهبه الله نعمة عظيمة من العلم وفضلا كبيرا: "فوَجَدَا عبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً". وتستمر القصة حين يعرض موسى عليه السلام على الخضر مرافقته لطلب العلم، والشرط بينهما، وما حصل أثناء هذه الرحلة من أحداث، في تسلسل قرآني جميل: { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا }.

ثم انطلقا، وحصلت المواقف التي لم يصبر موسى عليها، وكان الختام حين افترقا، ليقدم المعلم للمتعلم تفسيرا لكل ما حصل، في دروس عظيمة ظلت خالدة تتلى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}. ثم بدأ يشرح له: " أمّا السفينة " !

ذو القرنين:
قال تعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 84 – 90]

ذو القرنين المذكور في سورة الكهف في القرآن الكريم كان ملكا صالحا عابدا لله، وهذا ‏ظاهر من خلال سياق القرآن، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وما أدري ذا ‏القرنين أنبيا كان أم لا"

من بعد ما انتهى ذو القرنين من أهل الشرق أكمل طريقهُ حتى وصل إلى قوم يعيشون بين جبلين أو سدين وبينهما فجوة، وكانوا يتكلمون بلغة غريبة غير مفهومة وعندما وصل إليهم وجدوه حاكما آتاه الله من القوّة، فطلبوا منه المساعدة ليجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدّا مقابل المال فوافق الملك أن يجعل بينهم سدّا ولكنّه لم يرض أن يأخذ مالا وزهد عنهُ، انظر إلى البذل، لا يريد أجره إلا من الله تعالى، وقد آتاه الله من الحكمة فقد استخدم ذو القرنين هندسة رائعة في بناء السد، فقد قام بجمع قطع الحديد ووضعها في الفتحة حتى تساوت مع قمة الجبلين وأوقد النار عليها ومن ثم سكب عليه النحاس المذاب حتى يصبح أكثر صلابة وقوّة فسدّ الفجوة وأغلق الطريق على قوم يأجوج ومأجوج.