أ.د/أحمد عادل عبد المولى
اللغة كائن حيّ، تحيا على ألسنة الناس، ويحيا بها الناس أيضًا؛ إذ إنها وسيلة التواصل بين البشرية جميعًا، ولذلك أشبهت الهواءَ الذي لا غنى للإنسان عنه، ومن هنا يأتي هذا المقال بعنوان "نسمات لغوية"، نسعى فيه جاهدين لتقديم فائدة لغوية في لغتنا العربية.
ونسمتنا اليوم عن كلمة (قبطيّ)، فقد يظن بعض الناس –خطأً- أن الكلمة تشير إلى ديانة أو إلى فريق معيّن من المصريين هم المسيحيون في مصر فقط، ولكن الحقيقة غير ذلك، فكلمة قبطي تعني المصريّ، ولا علاقة لذلك بالديانة التي يدين بها، والقبط والأقباط تعني المصريين جميعًا منذ أن فتحت عيونهم عليها قبل فجر التاريخ.
قَالَ الفَرَاهِيدِي في العَيْنِ القِبْطُ: أهْلُ مِصْرَ وبُنْكُهَا؛ أَي: أَصْلُهَا وخَالِصُهَا، والنِّسْبَةُ إلَيْهِمْ: قِبْطيٌّ، وقِبْطيَّةٌ.
وقَالَ الزُّبِيْدِيُّ في تَاجِ العَرُوسِ: واخْتُلِفَ في نَسَبِ القِبْطِ، فقِيلَ: هُوَ القِبْطُ بْنُ حَام بْنُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ؛ ذلك أنَّ مِصْرَايِمَ بْنَ حَام أَعْقَبَ مِنْ لوذيم، وأَنَّ لوذيم أَعْقَبَ قِبْطَ مِصْرَ بالصَّعِيدِ... اهـ
ولكن الراجح أنَّ كَلِمَةَ (قِبْطِيٍّ) مُشْتَقَّةٌ مِنَ الكَلِمَةِ العَرَبِيَّةِ (قِبْط)، وهي تعود في جذورها إلى كلمة (آجبه) أي أرض الفيضان، وهي تعود إلى الأصل المصري: (حـ.ت كا- بتاح) أي مقر قرين الإله بتاح إله مدينة منف، ثم تحوّلت الحاء إلى هاء وأسقط حرف التاء، فصارت الكلمة (هكاتباه)، ثم صُحفت هذه الصيغة في اليونانيّة لتصبح (الهاء) (همزة)، والـ (كا) (جيما)، وأضيغت لها النهاية اليونانيّة لتصير (آيجِبْتُوس) التي أطلقت على مصر، وذكر هوميروس في ملحمته (الأوديسة) نهر النيل على لسان (منلاوس): "في نهر أيجبتوس مكثت سفني".
ثم انتقلت الكلمة إلى اللغات الأوروبية الحديثة، مع إسقاط النهاية US والإبقاء على جذر الكلمة، فكانت في الإنجليزية Egypt، وفي الفرنسية Egypte وهكذا في سائر اللغات الأوروبية. أما في اللغة العربية، فقد صُحّفت الكلمة بحذف (Ae آي) اليونانية، والإبقاء على الجذر الرئيسي (gypt)، فصارت (قبط).
وكَلِمَةُ قِبْطِيٍّ شَاعَتْ عِنْدَمَا كَانَتْ مِصْرُ تَحْتَ الحُكْمِ البِيزَنْطِيِّ؛ لأن كَلِمَة (قبط) تعني مصر، كما تعني سُكَّان مِصْرَ مِنْ أهْلِهَا الأصْلِيِّينَ، فتكون في هذه الأخيرة اسم جمع يعني المصريين، وقد تجمع أحيانًا على (أقباط) أي مصريين سواء أكانوا مسلمين أم مسيحين أم غير ذلك.
قَالَ القُرْطُبِيُّ في تفسير قَوله تَعَالَى: "وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ" (القَصَصُ: 20): إِنَّ الْمَلَأَ يَأَتمِرُونَ بِكَ: أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِي قَتْلِكَ (بِالْقِبْطِيِّ) الَّذِي قَتَلْتَهُ بِالأَمْسِ". والله تعالى أعلى وأعلم.