فَضْفَضَةٌ أَدَبيَّةٌ : آداب الجدل !

قصص وروايات
طبوغرافي

في القاموس المحيط أن الجَدَلَ هو اللدَدُ في الخصومة والقدرةُ عليها . وقد عرَّفَه بعض العلماءِ بأنه : دفع الخَصْمِ بحُجَّةٍ أو شُبْهة . ومنهم من قال إنه تحقيقُ الحقِّ وتزهيقُ الباطل . وذهب آخرون إلى أنه نظرٌ مشتركٌ بين اثنين ، وأنه طلبُ الحكم بالفكر مع الخَصم . أما الإمامُ الجُوَيني ، إمامُ الحرَمين ، ( 419 ـ 478 هـ ) فقد رَدَّ هذه التعريفاتِ جميعَها ، وقرَّر أن الصحيح هو أن يقالَ : إن الجدلَ هو إظهارُ المتنازِعَيْنِ مقتضى نظرتهما ، على التدافع والتنافي بالعبارة ، أو ما يقوم مقامَهما من الإشارةِ والدلالة .


ومن الجدلِ ما يكون محموداً مرضياً ، ومنه ما يكون مذموماً محرَّماً ؛ فالمحمودُ هو الذي يحقِّقُ الحق ويكشف عن الباطل ويهدفُ إلى الرشد ، وفيه قال ربُّنا عزَّ وجلَّ : " اُدْعُ إلى سبيلِ ربِّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ ، وجادِلْهم بالتي هي أحسن " وقال نبيُّنا صلى الله عليه وسلَّم : " يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدُولُه ، يَنفون عنه تحريفَ الغالين ، وانتحالَ المبطلين ، وتأويلَ الجاهلين " . أما الجدلُ المذمومُ فهو ما يكون لدفْع الحق ، أو تحقيق العناد ، أو تلبيس الحق بالباطل ، أو لما لا يُطلَبُ به تَعَرُّفٌ ولا تَقَرُّب ، أو للمماراةِ وطلب الجاه والتقدُّم ، إلى غير ذلك من الوجوه المنهِيِّ عنها . وهي التي نصَّ الله سبحانه في كتابه على تحريمها ، فقال : " ما ضربوه لكَ إلا جدَلاَ ، بل هم قومٌ خَصِمون " ، وفي مثله قال الرسول : " دَعِ المِراءَ وإن كنتَ مُحِقّاً " ، وهذا فيمن خرج من أدب الجدل ، أو لم يقطع اللجاجَ بعد ظهور الحق ، كدَأْبِ الكفار المعاندين مع الرسل المكرمين .


وفي كتابه القيِّم " الكافِيَةُ في الجدَل " ، وهو سِفْرٌ ضخمٌ ونافعٌ يقع في ستمائة صفحة ، عَقَدَ الإمامُ الجُويني فصلاً مفيداً ورائعاً عن آداب الجدل ؛ ساق فيه جملةً من النصائح الثمينة والتوجيهات الرشيدة التي يجب أن يلتزم بها كلُّ من يجادلون خصومَهم أو يناقشون مخالفيهم . وأنا هنا أعرضها إجمالاً ؛ حيث لا مكان لتفصيلها ، وأتمنى على القارئ الكريم أن يعودَ إليها بالنظر والمراجعة ، فالكتابُ مطبوعٌ وموجودٌ بين أيدي الناس ، وإن قَلَّ مِن بينهم مَن يعرفُه أو يُطالعُه ، وقد حقَّقَتْه وقدمت له وعلقتْ عليه الأستاذة الدكتورة فوقية حسين محمود ، أستاذة الفلسفة الإسلامية بكلية البنات بجامعة عين شمس ، وأخرجته منذ سبعٍ وثلاثين سنة .


يرى الإمامُ الجويني أن أولَ ما يجب على الناظر ، أو المجادلِ ، أن يقصد إلى التقرب إلى الله سبحانه ، ويتقي الله أن يقصدَ بنظره المباهاةَ وطلب الجاه ، والتكسب والمماراة والمَحَكَ والرياءَ وأن يحذرَ أليم عقابه سبحانه ، وألا يكون غرضه الظفر بالخَصم والسرور بالغلبة والقهر ؛ فإنه من دأْب الأنعام الفحولة ؛ كالكباش والدّيَكة !
وعليه أن يحذرَ رفعَ الصوت جهراً زائداً على مقدار الحاجَة ؛ فإنه يُورِث الحِدَّةَ والضجر ، وهو ما يقطع مادة الفهم والخاطر . وعليه أن يلزمَ الخشوع والتواضع ويقصد الانقيادَ للحق ، فيكون من جملة " الذين يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَه " . وألا يُعَوِّدَ نفسَه الإسهابَ والجدالَ بالباطل والمبادرة إلى كل ما سبق إليه الخاطرُ واللسان . وألا يسرع في مكالمة من يستشعرُ في نفسه منه العداوةَ والبغض ، إذا لم يأمن على نفسه بقدر الحدِّ والرسمِ في النظر باشتداد الغضب ، فيورثه تشوُّشَ الخاطر والعِي . وأن يحذرَ أيضاً أن يعتمدَ في كلامه على من يظن أنه معه ، أو يستحسنُ كلامه في جملة الحاضرين ؛ فلربما تبين له خلافُه فيضعفُ ذهنُه وخاطره ، ويذهبُ عنه كثيرٌ مما لا يستغني عنه .
إلى آخرِ هذا الكلامِ الطيبِ السديدِ الذي أتمنى أن أعرض لبقيته في المقال القادم بإذن الله !