فَضْفَضَةٌ أَدَبيَّةٌ: قراءةٌ في قصة !

منوعات
طبوغرافي

د. شعبان عبد الجيد

دكتوراه في الأدب العربي

مثلما هو دائماً في قصصه القصيرة ، ورواياته أيضاً، كان إحسان عبد القدوس في قصة " منتهى الحب " ، مباشراً وتلقائياً ؛ يكتب وكأنما يتكلم ، بلا مشقةٍ ولا تكلف ، ويقدم لقرائه في صفحاتٍ محدودةٍ فكرةً بسيطةً في ثوبٍ أنيق ، وهي فكرةٌ فيها شيءٌ من الجِدَّة والطرافة ، وإن كانت مسبوقةً في التاريخ . وهو فيها ، كعادته في كثيرٍ مما كتب ، يتجاوز السائد والمألوف ، ويقتحم المناطق الخطرةَ أو الشائكة ، ولا يعبأ كثيراً بما اعتاد عليه الناس ، ولا يحمل هماً لغضبهم المتوقَّع أو ردود أفعالهم المتباينة . إنه يكتب بحرية وطلاقة ، كلَّ ما يرد على خاطره من أفكار ، ولا عليه بعد ذلك رضيَ القومُ أم سخِطوا !


بطلةُ القصة فتاةٌ ريفية ساذجة ، لا تعرف الحقد ولا الشر ولا الكراهية ، وتحملُ بين جنبيها قلباً ممتلئاً بالحب الخالص لكل ما في الوجود ، عاشت بين الناس رمزاً للرحمة والمحبة ، ورأَوا فيها صورة الملائكة أو القديسين ، وأحاطوها بشيءٍ كبيرٍ من التجلَّة والتقدير ، وحين صعدت روحها إلى السماء، حزن عليها الجميع ، وتركت هذا العالم الأرضيَّ الشقي لتسعد بالخلد في جنات النعيم .


ولكن أنَّى لها التمتعُ بملذات الفردوس وطيباته، وقد سمعت أنات المعذبين في الجحيم ، وكيف تهنأ بما تلقاه من مسراتٍ وقد علمت أن أهل النار يسامون فيها سوء العذاب . لقد قررت أن تذهب إليهم لتخفف عنهم ما يلاقون من أهوال ، وحين أدركت أنها لن تستطيع بمفردها أن تفعل ذلك ، عادت إلى أهل الجنة ليساعدوها في هذه المهمة الإنسانية . وبعد حوارٍ ومجادلة ، توجه معها حشدٌ من الأنبياء والصالحين ، وخففوا ، ما استطاعوا ، عن أهل النار شقاءَهم وآلامهم ، وعلموا أن رحمة الله شملت الخطاةَ والعاصين ، وأنه " قد صدر قرارٌ إلهيٌّ بإلغاء الجحيم " !


ويمكننا أن نقرأ هذه القصة القصيرة في ضوء الجانبين الكبيرين اللذين يتكون منهما كل عملٍ أدبي؛ أقصد جانبَي الشكل والمضمون ؛ لنجيب من خلال أولهما عن سؤال : كيف قال الكاتب ؟ ونجيب من خلال الثاني عن سؤال : ماذا قال الكاتب ؟
أما الشكل ، وهو لا يمثل هنا أدنى مشكلة ، فهو قالب القصة القصيرة التقليدية : حَكيٌ بسيط، وسردٌ مباشر ، يتخلله حوارٌ في بعض المواضع ، لدفع الملل وتنويع الأداء ، وقد جاءت القصة بضمير الغائب ، على لسان الكاتب ، وبطلتها فتاة ، لا فتى ، أي أنثى لا ذكر ، وهو ما كان سائداً في معظم قصص إحسان ورواياته ، ولعله اتخذ منها ، وهي الكائن الرقيق المرهَفُ الحسِّ ، مثالاً للحب الخالص ورمزاً للرحمة الصافية . ثم إنها " فتاةُ " وليست امرأةً ، أي أنها لم تتلون بعدُ بما يطمس ملامح الطبيعة النقية أو يفسد نقاء الفطرة الصادقة . وجاء العرض في لغةٍ فصيحة ، لا تكلف فيها ولا معاظلة ، وهي أقرب إلى العامية في سهولة مفرداتها ووضوح معانيها ، وهي لغة إحسان على كل حال ، تأثر فيها بعمله في الصحافة ، وجاءت في تقنيتها أقرب إلى طبيعة الفيلم السينمائي ، وكأن عين الكاتب فيها كانت على الشاشة البيضاء أكثر مما كانت على المجلة الأسبوعية أو الكتاب المطبوع !


ثم يجيءُ دور" المضمون " أو الفكرة التي عرضت لها القصة ، وهي فكرةٌ خيالية على كل حال ، وتنطلق من نظرةٍ مثالية وحالمة ، تُرضِي الطامعين في عفو الله ، وتُطَمئنُ الراجين رحمتَه وغفرانَه ، وتفتح أبوابَ الأمل للعصاة والخاطئين من أهل الذنوب والكبائر . بيدَ أنها قد تصدم بعض مَن يرون أن عدل الله يقضي بأن يعاقَبَ المجرمون والمذنبون ، ولا يُقبلُ عقلاً أن يتساوى أهل الطاعات بأهل المعاصي .


أما أنا فلا أدري ـ والله ـ كيف سيكون مصير الناس بعد يوم القيامة ؛ فهو غيبٌ مطلق ، حيث تبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات . صحيح أن الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين الطائعين بالجنة ، وتوعد المشركين العاصين بالنار ، ووصف لنا طرفاً مما سينعم بها المؤمنون ، وطرفاً مما سيشقى به الكافرون ، لكن ذلك كله في نظري للتقريب ، وفي الحديث أن الجنة فيها ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر !