أ.د / عبد الله أحمد جاد عبد الكريم
أستاذ اللغة العربية بجامعة جازان
لَمْ يَكُنْ اختيارُ العربيَّةِ لِتنَالَ شَرَفَ كَوْنِها لُغَةَ القُرآنِ الكريمِ إلا إنفاذًا لإرادَةِ الله تعَالَى وحكمته، فسبحَانَهُ يفعلُ ما يريدُ ويختارُ، ثُمَّ لأنَّها تتمتَّعُ بكثيرٍ مِنْ مَظَاهِرِ العبقريَّةِ فِي كُلِّ مُستويَاتِهَا وأَنْسَاقِهَا؛ الصَّوتيَّةِ والصَّرفيَّةِ والنَّحويَّةِ، فاللُّغَةُ العربيَّةُ مَرنةً ثَريَّةً غنيَّةً بالمُفردَاتِ؛ فمُعجمُهَا اللُّغويُّ يشتملُ على مَا يزيدُ عَنْ سبعةَ عَشَرَ مِليونًا مِنْ الكَلِمَاتِ وِفْقَ أَحْدَثِ التَّقديراتِ – ومن العلماء من يرى أنَّهُ أقلُّ من ذلك إلا أَنَّ جمهور العلماء متفقٌ على أنَّه معجمٌ مليونيٌّ، الأمرُ الذي جعل الإمامَ الشّافعيَ يقولُ عن سِعَةِ مُعجمِ العربيَّة فِي عَصْرِه "لا يُحيطُ بها إلا نبيٌّ"، في الوقتِ الذي لا يزيد ما يشتمله معجم اللغة الإنجليزية اللغة الأشهر في زماننا عن مائة ألف كلمة !!
وهذه السِّعةُ وتلك المُرونَةُ التي امتازت بها العربية مكَّنتها من القيام بدورها المنوط بها، وهو حَمْلُ أَمَانَةِ القُرآنِ الكريمِ، ونجحتْ ببراعةٍ في التَّعبير عمَّا فيه من أسمى المعاني وأحكم التعاليم، وما كانت لتستطيع لغة أخرى القيام بذلك؛ لأنَّها لم تَحْظَ بالخِصَائِصِ والسَّمَاتِ التي حظيت بها العربية.
ومن ظواهرِ الاتِّساعِ في العربيَّةِ (التَّرادُفُ)؛ وهو أنْ نَجِدَ أكثرَ مِنْ كَلمَةٍ يُمكنُها أنْ تُعبِّرَ عَنْ المَعْنَى الوَاحِدِ، فإنَّنا نَجِدُ فِي مَعجم العربية بعض المعاني يمكننا التعبير عنها بأكثر من كلمة؛ كالأسد (الليث، الغضنفر،...)، والسيف(المهند، اللامع، المصقول...)، والحبِّ(الهيام، الغرام، العشق..)، والعطش (الظمأ، الأوار،..)، والجلوس(جلس، قعد، استراح،..) وغيرها الكثير. ممَّا ساعد العربية في التَّعبيرِ عَنْ أدقِّ المعاني، فكل كلمة تُضيف بعدًا أو معنى إضافيًا على المعنى الأساسي للكلمة!!
ومن ظَوَاهِرِ الاتِّسَاعِ في العربيَّةِ أَيضًا (التَّضَادُّ)؛ وهو أنْ نجدَ بعضَ الكَلِمَاتِ تُعبِّرُ عَنْ المعنى ونقيضه، ومن أمثلة ذلك كلمة (المَوْلَى) فتأتِي بمعنَى (السَّيِّد) عندما نقول: مولانا رسول الله ؛أي: سيدُنا رسول الله، وتأتي بمعنى (العَبْد أو الخَادِم)؛ كقولنا: كان زيدُ بن حارثة مولى رسول الله؛ أي: خادمه. ومنه كلمة (الحَمِيْمُ) بمعنى السَّاخِن والبارد، و(الجون) بمعنى الأبيض والأسود..الخ.
ومن ظواهر الاتساع في العربية أيضًا (المُشتركُ اللَّفظِي)؛ ونقصدُ به الكلمة التي تدلُّ على معنيين أو أكثر، مثل كلمة (العَيْنُ) التي تأتي بمعنى العين الباصرة، أو بمعنى الحسد، أو بمعنى الجاسوس، أو البئر، علية القوم وأشرافهم، ...الخ.
ولقد استطاعتْ العربيَّةُ بمُرُونَتِهَا أَنْ تَزيدَ - ولا تزالُ - في معجمها اتِّساعًا وثراءً؛ عن طريق ظاهرة (التوليد أو الاشتقاق) ونقصد به توليد كلمة من أخرى لتدلَّ على معنى جديدٍ له صلة بمعنى الكلمة الأولى، فمثلاُ الفعل (كتب) فعل ماض؛ نريد أن نشتق اسم فاعله فنقول (كاتب) أو ماذا كتب؟ فنقول (كتاب) وأين وضعه؟ فنقول في (المكتبة) (كتب – يكتب – اكتب – كاتب – مكتوب – مكتبة – كتاب – اكتتاب – مكتب ..الخ). ومثل هذه الظاهرة لا نجدها في اللغات الأخرى؛ فمثلاً تجد كلمات المثال السابق في الإنجليزية لا تربطها أي علاقة فيما بينها (Wrote - clerk – Book – Library – Desk) فهي على الترتيب (كتب – كاتب – كتاب – مكتبة – مكتب)؛ لذلك جاءت معاجمها فقيرة جامدة؛ لذلك لا تستطيع التعبير عن كثير من العاني بالدقة التي تستطيعها العربية !!