حوار: أحمد الجعبري
كانت العربُ إذا نبغ فيها غلام صغير وظهرت عليه أخلاق الفرسان قالوا هذا ابن أبيه بحق، يُريدون أنه ورث الفروسية من أبيه.. هذه مقولة تنطبق على القارئ الشهير طارق عبد الباسط عبد الصمد، نجل القارئ الأشهر في مصر والعالم الإسلامي والذي ملأ الدنيا بتلاوته الندية وشغل الناس بصوته الملائكي حتى أطلق عليه المستمعون "صوت السماء" ولا يزال دراويشه حتى الآن يهيمون في تلاوته عند تنفس كل صُبحٍ جديد وانبلاج كل قمرٍ وليد.. نجله القارئ اللواء طارق عبد الباسط ورث ذلك الصوت الموهوب المنفوح بنفحات الله، فكان كالبحر كل جوانبه خير وكل سواحله تصلح للرسو عندها، عمل ضابطًا بوزارة الداخلية حتى وصل إلى رتبة اللواء، ومع هذا القرآن هو أنيسه وجليسه يجري في عروقه مع الدماء، فهو قارئ من نسل قارئ قبل أي شيء وكل شيء.. وكان للفتح اليوم معه هذا اللقاء الذي اختصها فيهخ بكشف أسرارٍ جديدة عن والده تُنشر لأول مرة:
*أنت نجل فضيلة الشيخ عبد الباسط ووارثه فى تلاوة القرآن الكريم.. نود أن تكلمنا قليلا عن مسيرتك مع القرآن الكريم في ظل هذا الوالد العظيم..- بفضل الله تعالى أكمل مسيرة الوالد رحمه الله تعالى، وأنا ما زلت فى منتصف الطريق، ووالدى رحمه الله تعالى دعا لى بأن يوفقنى الله تعالى فى أي مجال، بشرط ألا أترك إكمال رسالته مع القرآن الكريم، فالتحقت بفضل الله بكلية الشرطة وتخرجت فيها.
وقد رأى الوالد رحمة الله تعالى عليه فينا "كل أولاده" الاستعداد لإكمال هذه المسيرة خاصة أنا وأخى ياسر عبد الباسط، وكنا بفضل الله تعالى من حفاظ القرآن الكريم مبكرا ولله الحمد.
إتمام الرسالة
-كيف كانت البداية معكم في حفلات القرآن الكريم وأول لقاء بالجمهور وما نصائح الوالد لك ؟
-بدأ هذا بتشجيع من الوالد رحمه الله تعالى لنا على إتمام رسالته الشريفة، وكان هناك احتفال فى صعيد مصر فى أحد الأيام فطلب أحد كبار المشايخ من والدى أن يسمع صوتى وكنت وقتها طالبا بكلية الشرطة، وبفضل الله قرأت فى الحفل واستمع الجمهور إلي، وبدأت مسيرتى، وأوصانى أبى أن أبدأ فى دراسة القراءات بمعهد قراءات القرآن الكريم، وبالفعل بدأت وحصلت على إجازة التجويد فى رواية حفص عن عاصم، ثم رتلت القرآن وسجلته، ثم حصلت على إجازة فى رواية قالون عن نافع المدني، وبدأت الآن بفضل الله فى رواية ورش عن نافع.
- بماذا تحب أن نناديك؟ سيادة اللواء، أم فضيلة القارئ الشيخ؟
أنا أترك هذا الأمر للناس فمنهم من يقول لي يا شيخ طارق، ومنهم من يقول سيادة اللواء، ولكني أحب فضيلة الشيخ لأن القرآن لا يعلو عليه شيء فأحب أن أكون شيخا قبل أن أكون ضابطا فى الشرطة، وأنا فى الأساس لا أهتم بهذه الألقاب ولا ألقى لها بالا.
-لم اخترت دخول كلية الشرطة؟ وأنت ابن فضيلة القارئ الكبير عبد الباسط عبد الصمد؟
التحقت بكلية الشرطة لأننى كنت أحب هذا العمل الشاق الملئ بالتدريبات والتمرينات الجسدية والانضباط، كما أن للضابط هيبة وقدرا ووقارا، وهذا العمل يعد من أسمى وأشرف الرسالات، ويثاب عليه المسلم إذا أخلص فيه وراعى حق الله وحقوق الناس، فالتحقت بكلية الشرطة فى نهاية السبعينيات، وتخرجت منها بداية الثمانينيات.
-هل كان فضيلة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله راضيا على هذا الاختيار؟
لم يكن معترضا، ترك لي الاختيار كما أشاء، ودعا لى بالتوفيق فى أي مجال أختاره، ولكن بشرط أن لا أبتعد عن القرآن الكريم ولا أهمله. فوفقنى الله فى العمل إلى أن وصلت الآن إلى رتبة لواء بفضل الله تعالى.
-رسالة توجهها إلى رجال الشرطة أصحاب التضحيات والبطولات؟
عليهم أن يصبروا وأن يؤدوا عملهم دون توان، وألا يلتفتوا إلى من يعطلون مسيرة مصر نحو التقدم والأمن والأمان ويجب علينا كلنا أن نشدّ على يد كل رجل شرطة، فرجل الشرطة هو المسئول الأول عن أمن وأمان المواطن والوطن.
موهوب للقرآن
-نود أن نتعرف منكم عن جانب من حياة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله تعالى، كيف كانت نشأته؟ كيف كانت حياته؟ وكيف كان حاله مع القرآن الكريم؟
سلك الوالد الاتجاه نحو القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه للناس من صغره، والحمد لله تعالى كان الوالد يتقى الله تعالى فى نفسه وفى أهله، وفى تلامذته، وكان أبوه " جدي" رحمه الله قد وهبه للقرآن الكريم فأعانه الله تعالى على ذلك، ووفقه إلى كل خير بسبب إخلاصه لله عز وجل، ووهبه الله تعالى الصوت الندي ورزقه القبول بين الناس، فأصبح بذلك من أشهر القراء على مستوى العالم.
-كيف اكتشفت موهبة الوالد عليه رحمة الله تعالى؟
كان يقرأ أمام زملائه فى الكتاب فأحس شيخه بسرعة نبوغه وحفظه للقرآن الكريم واكتشف جمال صوته وإتقانه لأحكام التلاوة، فبدأ يأخذه معه فى الاحتفالات المختلفة، فأطلق عليه الناس لفظ الشيخ وهو ما زال فى سن مبكرة فاشتهر فى قرى ومدن صعيد مصر فى البداية، فأخبر والده بذلك وقال له لا بد أن وأن يكمل هذه المسيرة لأن عنده الموهبة، ولما سافر الشيخ محمد حمادة المنشاوى إلى الصعيد ذهب إليه الوالد رحمه الله وتعلم منه القراءات العشر الكبرى والصغرى وأتقن الأحكام على يديه لمدة سنتين.
اللقاء الأول
-صف لنا أول لقاء للشيخ رحمه الله بالجمهور؟
أول لقاء مع الجمهور كان فى بداية الخمسينيات فى الحفلات والمناسبات، فذهب فى مرة إلى مسجد السيدة زينب ليستمع إلى القراء الكبار، وفى أثناء الاستراحة اقترب منه الشيخ محمد السبيعي إمام المسجد الزينبي وقال له أنا سمعتك تقرأ وأعلم أن صوتك جميل وطلب منه أن يقرأ ولو عشر دقائق فى هذا الاحتفال، فانتابته الرهبة فى بداية الأمر، فتوكل على الله وبدأ فى القراءة، وكان فى الاحتفال جمع كبير من الناس ومن كبار قراء الإذاعة، فعندما قرأ الوالد ساد المكان صمت غير عادي، فكان يقرأ بأسلوب متميز ليس فيه تقليد لأحد من المشايخ، فكان له أسلوب جديد وصوته عزب، وكان يصل نهايات السور ببدايات السور التى تليها، فكان هذا الأمر يجذب المستمع لأنه أسلوب جميل يحبه المستمعون.
فكان المقرر أن يقرأ عشر دقائق فاستمرت القراءة أكثر من ساعة والناس كلهم فى صمت مستمتعين بهذا الصوت الجميل الجديد، ثم انقلب هذا الصمت بعد ذلك إلى صيحات من التهليل والثناء والدعاء للشيخ رحمه الله تعالى.
-كم كان عمر الوالد رحمه الله وقتها؟
كان عمره فى ذلك الوقت لم يتجاوز العشرين عاما، ثم خرج بعدها من المسجد محمولا على الأعناق وذلك بفضل الله فى أول لقاء له بالجمهور.
-هل استمر فى القاهرة بعدها أم عاد إلى الصعيد؟
لقد عرض عليه البعض أن يلتحق بالإذاعة ولكنه رفض فى البداية وعاد مؤقتا إلى صعيد مصر. وبعدها بفترة شاءت إرادة الله تعالى أن يلتحق بالإذاعة والتحق بها وبدأ مرحلة جديدة مع الشهرة وذيوع الصيت. وبذلك التحق بالإذاعة بمجرد أول تلاوة له أمام الجمهور.
- مَن مِن المشايخ كان قريبا إلى قلب الوالد رحمه الله؟
-كان الشيخ محمد رفعت رحمه الله من أحب المشايخ إلى الوالد رحمه الله تعالى، فكان يقطع إليه المسافات مشيا على القدمين ليحضر الأمسيات والحفلات التى كان يؤمها، بل كان قدوة له رحمه الله، وبعدها بدأ يتابع المشايخ وعلى رأسهم الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ أبو العينين شعيع والشيخ محمد صديق المنشاوي. فصاروا أصدقاءه المقربين.
* ما مدى العلاقة الودية بين الوالد رحمه الله بالمشايخ الآخرين؟ هل كانت تنافسية وصراع شهرة كما يحدث اليوم أم علاقة حب ودفء؟
- كانت علاقة الوالد رحمه الله بزملائه من القراء علاقة حب وصداقة قويتين إلى أبعد الحدود، وهذه العلاقة لا تمنع أن يكون بينه وبينهم تنافس شريف فى العمل، فالتنافس مطلوب لإخراج العمل فى أبهى وأحلى صوره. ليس كما يحدث فى هذه الأيام من عداء بين فئة من القراء والإساءة التى تحدث من بعضهم إلى البعض الآخر.
* ما مدى اهتمام نقابة القراء بالمشايخ؟ هل تحافظ على حقوقهم وتساعدهم؟
- يوجد هناك الكثير والكثير من قراء القرآن الكريم ومن المحفظين يعانون من الفقر ومن الأمراض ولا يجدون اهتماما من النقابة، على الرغم أنهم يؤدون أعمالهم بكل جد واهتمام بالغ، فلا بد للنقابة أن تقف إلى جانب هؤلاء وترعى مصالحهم وتتطالب بحقوقهم، وتوفر لهم فرص الرعاية فى شتى المجالات، فالنقابة الآن لا تؤدى أي خدمات للقراء ولا تعطيهم معاشات، ولا تهتم إلا بكبار القراء من المشاهير فقط.
*إذا أصبحت نقيبا للقراء كيف سيكون تغييرك لهذا الوضع الحالى للنقابة وأحوال القراء فى مصر؟
- بفضل الله لدي خلفية عن النواحى الإدارية وأستطيع أن أضع منهجا سليما لتطوير وإصلاح نقابة القراء فى مصر، ولكن هذا كله سيحتاج إلى دعم مادي ومعنوي من وزارة الأوقاف والأزهر الشريف والدولة ورجال الأعمال والمؤسسات الخيرية المختلفة والمستشفيات، فنحن نخدم فى هذه النقابة لوجه الله تعالى لا نريد جزاء ولا شكورا.
وأيضا دور الكتاتيب الذى أوشك على الانقراض، لا بد أن نعيد للكتاتيب هيبتها وأهميتها فى الحفاظ على القرآن وأهل القرآن.
وعلى الإعلام أن تصحح صورة أهل القرآن فى نظر الناس، فهم يعرضونهم فى صورة فكاهية وكارتونية، فهم أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، فلا أن نعطى لكل ذى حق حقه.
-كيف كان حب الوالد رحمه الله تعالى للسفر؟
-كان الوالد رحمه الله تعالى يعشق السفر، فكان يسافر فى كل عام فى شهر رمضان إلى دولة مختلفة، وكان أول قارئ يزور دولة جنوب إفريقيا، وكانوا يستقبلونه استقبال الرؤساء والأمراء بفضل الله عز وجل إكراما للقرآن وأهل القرآن.
وفي جنوب أفريقيا عندما علم المسئولون بوصوله أرسلوا إليه فريق عمل إعلامي من رجال الصحافة والإذاعة والتليفزيون لإجراء لقاءات معه ومعرفة رأيه عما إذا كانت هناك تفرقة عنصرية أم لا من وجهة نظره، فكان أذكى منهم وأسند كل شيء إلى زميله وابن بلده ورفيق رحلته القارئ الشيخ أحمد الرزيقي الذي رد عليهم بكل لباقة وأنهى اللقاء بوعي ودبلوماسية أضافت إلى أهل القرآن مكاسب لا حد لها فرضت احترامهم على الجميع.
- كنا نرى الخشوع مرتسما على وجه الوالد رحمه الله تعالى عند قراءته للقرآن الكريم، صف لنا هذا.
-كان الوالد رحمه الله تعالى إذا نوى أن يقرأ القرآن عرفنا ذلك فى وجهه، عندما نراه قد صرف انتباهه عنا وبدأ فى خلوته مع الله بالقرآن الكريم، وكان يقول لنا عندما أقرأ القرآن أشعر أننى أكلم الله تعالى، فكان يبدأ قراءة القرآن بعد صلاة العشاء حتى صلاة الفجر، ثم يصلى الفجر وبعدها يستريح.
* حدثنا عن بعض كرامات الوالد رحمه الله تعالى.
- من أفضل الكرامات التى حدثت بفضل القرآن الكريم أننا كنا إذا ذهب أحدنا لقضاء أمر ما فى أي مكان، فبمجرد أن يعلموا أننى فلان بن فلان تقضى المصلحة بدون أي تعطيل، وفى إحدى المرات سافر إلى فرنسا، ولم يأت أحد إلى المطار لاستقباله، فركب سيارة أجرة (تاكسى) وسأل السائق كيف أصل إلى مركز كذا فقال له اركب المترو، فذهب إلى المترو فوجد أن الخطوط والمحطات كثيرة ولم يعرف أي وجهة يتجه إليها، فتوجه إلى الله تعالى بالدعاء أن يرشده، وفجأة رأى رجلا قادما إليه مسرعا ومرحبا به باللغة العربية المصرية فأوصله إلى المكان الذى يريده.
* كيف كان شعور أبناء فضيلة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله عندما توفى؟
- انتابنا حزن عميق لفقدان هذا الأب الذى طالما علمنا كتاب الله عز وجل، وكان لنا أهم شيء فى حياتنا، فكان نعم الأب والمربى والمعلم، فكان حزننا عليه أكثر من أن يتصوره أحد، فرحمه الله رحمة واسعة وجعلنا خير خلف نكمل مسيرته التى بدأها.
* أشد المواقف الخطيرة التي مرت على فضيلة الشيخ عبد الباسط ولا تناساها؟
حادث المنصة الشهير والذي تم اغتيال الرئيس أنور السادات به، حيث كان والدي مجاورا للرئيس السادات حينها وهو من افتتح حفلة تخرج الكلية الحربية بالقرآن الكريم.. والحمد لله تعالى بمجرد إطلاق النار على الرئيس السادات ومن معه جذبه الدكتور ممدوح جبر وزير الصحة حينها وأخذه بسيارته خارج المنصة وعاد به إلى داره دون أن يصاب بسوء مادي.
-بأي الروايات سجلتم القرآن الكريم؟
-سجلت القرآن لكريم برواية حفص عن عاصم ويذاع على قناة المجد للقرآن الكريم، كما سجلته أيضا برواية ورش عن نافع.
-إلى أي الدول سافرت لقراءة القرآن؟
سافرت إلى بلجيكا، وجنوب أفريقيا، وأوغندا، وإسبانيا، وماليزيا، وكثير من الدول العربية بفضل الله تعالى.
القارئ اللواء طارق عبد الباسط عبد الصمد يروي للفتح اليوم أسرارًا جديدة لصوت السماء:
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة