عاش أحد الصالحين الأغنياء على أرض اليمن، وبالتحديد في قرية يقال لها "ضروان" على بعد ستة أميال من صنعاء،
وكان من أهل الكتاب قبل بعثة النبي محمد "صلي الله عليه وسلم"، وكان من أهل المعروف والفضل والجودِ والكرم، وكانت
له حديقة كبيرة وضخمة وجميلة وكان أهل القرية يُسمونها جنه فهي حقاً تشبه جنة من جنات الله، وكان يسير فيها سيرة
حسنة، فكان يأخذ منها ويرُد فيها ما تحتاج إليه أي (من زرعها) ويدخر لعياله قوت العام، ويتصدق بالباقي من زرعها.
يقول المولى عز وجل في كتابه العزيز: "إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ".
فلما توفاه الله وورثه بنوه قالوا: لقد كان أبونا رجلًا ساذجًا أحمق، إذ كان يعطي من هذه شيئاً للفقراء، ولو أن منعناهم لتوفر ذلك
علينا، وفي هذا العام طرحت محصولاً أضعاف الأعوام السابقة، فلما عزموا على ذلك كان العقاب من الله بنقيض قصدهم،
فأذهب الله بأيديهم رأس المال والربح والصدقة، فلم يبق لهم شيء.
قال تعالى: "إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ" أي اختبرناهم، وهذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم
من النعمة الكبيرة، وهو بعثة محمد "صلي الله علي وسلم" إليهم فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة لهذا قال تعالي: "كَمَا بَلَوْنَا
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ" وهي البستان المشتمل علي أنواع الثمار والفواكه" إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ" وَلَا يَسْتَثْنُونَ"(17)القلم،
نحن أمام أصحاب الجنة، جنة الدنيا لا جنة الآخرة، وها هم يبيتون في شأنها أمراً، لقد كان للمساكين حظ من ثمارها عندما كان
صاحبها الرجل الصالح ذا الفضل علي قيد الحياة، ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن ويحرموا المساكين حظهم
منها، تأمل معي كيف تجري الأحداث إذن، لقد استقر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر، دون أن يستثنوا منه شيئاً
للمساكين، وأقسموا على هذا، وعقدوا النية على ذلك، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه.
فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي بيتوه، ولننظر ماذا يجري من ورائهم في ظلمة الليل وهم لا يشعرون، فإن نامت أعينهم
فإن عين الله لا تنام، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون، جزاء على ما بيتوا من بطر النعمة ومنع للخير، وبخل بنصيب المساكين
المعلوم، إن هنا أمرًا يتم في خفية وجنود ربك تتحرك في ظلام الليل، والناس نيام قال تعالي: "فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ
نَائِمُونَ " (20،19 القلم)، أي: طاف على تلك الجنة طائف من الله سبحانه وتعالى، والطائف قيل:هي آفة سماوية أصابتها حتى
أسودت، " فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ" أي كالليل الأسود وهذه معاملة بنقيض قصدهم، وقيل: هي جند من جنود الله يرسله على العصاة
والمُذنبين للعقاب، وتأتي في أشكال عدة قد تكون غرق مركب وعليها بضائع، أو حريق بمنزل أو مصنع أو خسارة أموال في
تجارة وما شابه ذلك.
(روي ابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيكم والمعاصي إن العبد ليذنب
الذنب فيُحرم به رزقاً قد كان هُيئ له" ثم تلا رسول الله قول الله تعالى: "فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ"