الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)}
حرمة الربا:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}
لقد كان الربا منتشراً في عصر الجاهلية انتشاراً كبيراً وقد عدوه من الأرباح العظيمة – في زعمهم – التي تعود عليهم بالأموال الطائلة، فقد روى الإمام الطبري – رحمه الله – بسنده في تفسيره عن مجاهد أنه قال: ”كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه“.
وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلّ أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه، وأخّر له الأجل إلى حين، وقد كان الربا في الجاهلية في التضعيف أيضاً. وفي السِّنِّ كذلك، فإذا كان للرجل فضل دين على آخر فإنه يأتيه إذا حلّ الأجل. فيقول له: تقضيني أو تزيدني؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضاه، وإلا حوله إلى السّنِّ التي فوق سنه من تلك الأنعام التي هي دين عليه، فإن كان عليه بنت مخاض، جعلها بنت لبون في السنة الثانية، فإذا أتاه في السنة الثانية ولم يستطع القضَى، جعلها حقّة في السنة الثالثة، ثم يأتيه في نهاية الأجل فيجعلها جذعة، ثم رباعيّاً وهكذا حتى يتراكم على المدين أموال طائلة. وفي الأثمان يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده في العام القابل أضعفه أيضاً، فإذا كانت مائة جعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده من قابل جعلها أربعمائة يضعفها له كل سنة أو يقضيه فهذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَأْكُلُواْ الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وعن جابر رضي الله عنه قال: ”لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه“، وقال: ”هم سواء“.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فَرُدَّ حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا“.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”اجتنبوا السبع الموبقات“ قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ”الشرك، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات“.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة“.
وعن سلمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع يقول: ”ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع، وأول دم أضع منها دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل، قال: اللهم هل بلّغت؟ قالوا: نعم، ثلاث مرات. قال: اللهم اشهد ثلاث مرّات“.
ففي هذا الحديث أن ما أدركه الإسلام من أحكام الجاهلية فإنه يلقاه بالرّدّ والتّنكير، وأنّ الكافر إذا أربى في كفره ثم لم يقبض المال حتى أسلم فإنه يأخذ رأسه ماله، ويضع الربا، فأما ما كان قد مضى من أحكامهم فإن الإسلام يلقاه بالعفو فلا يتعرض لهم فيما مضى، وقد عفا الله عن الماضي، فالإسلام يَجُبُّ ما قبله من الذنوب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن الحلال أم مِنَ الحرام“أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا تحذيراً من فتنة المال، فهو من بعض دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم بالأمور التي لم تكن في زمنه، ووجه الذّمّ من جهة التّسوية بين الأمرين وإلا فأخذ المال من الحلال ليس مذموماً من حيث هو والله أعلم.
وعن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ”نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب، وكسب الأمة، ولعن الواشمة، والمستوشمة، وآكل الربا، وموكله، ولعن المصوِّر“.
وعن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ”الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإنَّ أربى الربا عرض الرجل المسلم“.
ورُوِيَ عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدُّ من ستٍّ وثلاثين زنية“.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تشترى الثمرة حتى تطعم، وقال: ”إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله“.
المسارعة إلى الغفران والإنفاق:
ينبغي للمؤمن أن يُسارِع في الخيرات؛ فالعمر قصير، والأجَل قريب، وابن آدمَ لا يَدرِي متى يأتيه الموت، وأعني بالمسارعة إلى الخيرات: المبادرة إلى الطاعات، والسبق إليها، والاستعجال في أدائها، وعدم تأخيرها؛ قال - تعالى -: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 113-114]، وقال - تعالى -: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
وقال - تعالى - عن نبيِّه موسى - عليه السَّلام -: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84]، وقال - تعالى - عن نبيِّ الله زكريا: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90]، وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يحثُّ أمَّته على المُسارَعة إلى الأعمال الصالحة؛ فإن المؤمن لا يَدرِي ما يَعرِض له من مرضٍ، أو فتنة، أو أجل.
روى مسلم في “صحيحه” من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنْه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((بادِرُوا بالأعمال فِتَنًا كقطع الليل المظلم؛ يُصبِح الرجل مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، أو يُمسِي مؤمنًا ويُصبِح كافرًا، يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا)).
وروى الحاكم في “المستدرك” من حديث ابن عباس - رضِي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لرجلٍ من أصحابه: ((اغتَنِم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمِك، وصحَّتك قبل سَقَمِك، وغِناك قبل فَقرك، وفَراغك قبل شُغلك، وحَياتك قبل موتك)).
وروى أبو داود في “سننه” من حديث مصعب بن سعد عن أبيه، أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((التُّؤَدة في كلِّ شيء، إلا في عمل الآخرة))، وقد كان الصحابة - رضِي الله عنهم - يَأخُذون بهذا التوجيهِ النبوي الكريم فيَتَسابَقُون إلى الأعمال الصالحة، ويَتَنافَسُون في أعمال الآخرة، كما أرشد إلى ذلك ربُّنا - سبحانه وتعالى - فقال: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
روى أبو داود في “سننه” من حديث عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - قال: أمَرَنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا أن نتصدَّق، فوافَقَ ذلك مالاً عندي، فقلتُ: اليومَ أسبِقُ أبا بكر، إن سبَقتُه يومًا، فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أَبقيتَ لأهلك؟))، قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر - رضِي الله عنْه - بكلِّ ما عندَه، فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أَبقَيْتَ لأهلك؟))، قال: أبقيت لهم اللهَ ورسولَه، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.
وفي قوله: { أضعافًا مضاعفة } تنبيه على شدة شناعته بكثرته، وتنبيه لحكمة تحريمه، وأن تحريم الربا حكمته أن الله منع منه لما فيه من الظلم.
وذلك أن الله أوجب إنظار المعسر، وبقاء ما في ذمته من غير زيادة، فإلزامه بما فوق ذلك ظلم متضاعف، فيتعين على المؤمن المتقي تركه وعدم قربانه، لأن تركه من موجبات التقوى.
والفلاح متوقف على التقوى، فلهذا قال: { واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين } بترك ما يوجب دخولها، من الكفر والمعاصي، على اختلاف درجاتها، فإن المعاصي كلها- وخصوصا المعاصي الكبار- تجر إلى الكفر، بل هي من خصال الكفر الذي أعد الله النار لأهله، فترك المعاصي ينجي من النار، ويقي من سخط الجبار، وأفعال الخير والطاعة توجب رضا الرحمن، ودخول الجنان، وحصول الرحمة، ولهذا قال: {وأطيعوا الله والرسول} بفعل الأوامر امتثالا، واجتناب النواهي {لعلكم ترحمون}
فطاعة الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة}.
ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض، فكيف بطولها، التي أعدها الله للمتقين، فهم أهلها وأعمال التقوى هي الموصلة إليها، ثم وصف المتقين وأعمالهم، فقال: {الذين ينفقون في السراء والضراء} أي: في حال عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا ولو قل.
{والكاظمين الغيظ} أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل-، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
{والعافين عن الناس} يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}
ثم ذكر حالة أعم من غيرها، وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان، فقال [تعالى]: { والله يحب المحسنين } والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق. [والإحسان إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة الخالق].
فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”
وأما الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده.
ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم، فقال: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم } أي: صدر منهم أعمال [سيئة] كبيرة، أو ما دون ذلك، بادروا إلى التوبة والاستغفار، وذكروا ربهم، وما توعد به العاصين ووعد به المتقين، فسألوه المغفرة لذنوبهم، والستر لعيوبهم، مع إقلاعهم عنها وندمهم عليها، فلهذا قال: { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }
{ أولئك } الموصوفون بتلك الصفات { جزاؤهم مغفرة من ربهم } تزيل عنهم كل محذور { وجنات تجري من تحتها الأنهار } فيها من النعيم المقيم، والبهجة والسرور والبهاء، والخير والسرور، والقصور والمنازل الأنيقة العاليات، والأشجار المثمرة البهية، والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات، { خالدين فيها } لا يحولون عنها، ولا يبغون بها بدلا، ولا يغير ما هم فيه من النعيم، { ونعم أجر العاملين } عملوا لله قليلا فأجروا كثيرا فـ “عند الصباح يحمد القوم السرى” وعند الجزاء يجد العامل أجره كاملا موفرا.
وهذه الآيات الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة، على أن الأعمال تدخل في الإيمان، خلافا للمرجئة، ووجه الدلالة إنما يتم بذكر الآية، التي في سورة الحديد، نظير هذه الآيات، وهي قوله تعالى: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } فلم يذكر فيها إلا لفظ الإيمان به وبرسله، وهنا قال: { أعدت للمتقين } ثم وصف المتقين بهذه الأعمال المالية والبدنية، فدل على أن هؤلاء المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم أولئك المؤمنون.ثم قال تعالى:
سنن الله في الخلق تعزية للمؤمنين:
وهذه الآيات الكريمات، وما بعدها في قصة “أحد” يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم، ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة، امتحنوا، وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين، فلم يزالوا في مداولة ومجاولة، حتى جعل الله العاقبة للمتقين، والنصر لعباده المؤمنين، وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين، وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم.
{ فسيروا في الأرض } بأبدانكم وقلوبكم { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } فإنكم لا تجدونهم إلا معذبين بأنواع العقوبات الدنيوية، قد خوت ديارهم، وتبين لكل أحد خسارهم، وذهب عزهم وملكهم، وزال بذخهم وفخرهم، أفليس في هذا أعظم دليل، وأكبر شاهد على صدق ما جاءت به الرسل؟”
وحكمة الله التي يمتحن بها عباده، ليبلوهم ويتبين صادقهم من كاذبهم، ولهذا قال تعالى: { هذا بيان للناس } أي: دلالة ظاهرة، تبين للناس الحق من الباطل، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، وهو الإشارة إلى ما أوقع الله بالمكذبين.
{ وهدى وموعظة للمتقين } لأنهم هم المنتفعون بالآيات فتهديهم إلى سبيل الرشاد، وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي، وأما باقي الناس فهي بيان لهم، تقوم [به] عليهم الحجة من الله، ليهلك من هلك عن بينة.
ويحتمل أن الإشارة في قوله: { هذا بيان للناس } للقرآن العظيم، والذكر الحكيم، وأنه بيان للناس عموما، وهدى وموعظة للمتقين خصوصا، وكلا المعنيين حق.
من السنن الربانية العظيمة في الخلق: تقلبُهم من حال إلى حال، ونقلُهم من طور إلى طور، ونجد هذه السنة الربانية في كل الأحياء على الأرض، وتجري على الأفراد والأمم والدول، بل وعلى النظريات والأفكار والصناعات والتطور، ونجدها في الزمان والأجواء والعمران.
فالإنسان خلق ولم يكن من قبل شيئا ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان:1] ثم لما كان شيئا مذكورا بخلق الله تعالى له تقلب في أطوار عدة ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون:12-14] وفي تمامه بشرا سويا ينتقل في حياته من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة فالهرم ﴿ اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ ﴾ [الرُّوم:54] وفي آية أخرى ﴿ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴾ [يس:68] حتى يفقد التمييز كما كان في طفولته بلا تمييز ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [النحل:70].
لقد كان الله تعالى قادرا على أن يخلق البشر دون الحاجة إلى هذا التدرج، فلا يكونون في قوة بين ضعفين، ولا في قدرة بين عجزين، ولا في كمال بين نقصين، ولكن سنته سبحانه فيهم اقتضت هذا التدرج والانتقال من حال إلى حال، وله سبحانه الحكمة فيما قضى فينا. وكان خلق الحيوان والنبات كخلق الإنسان في التدرج، والانتقال من ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف وشيخوخة وفناء.
هذا في الجانب الجسمي للإنسان، وفي الجانب العقلي القلبي الفكري هو متقلب أيضا من حال إلى حال ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [التِّين:6].
وهذا الاستثناء للمؤمنين لأنهم قبلوا هدى الله تعالى كما قال سبحانه ﴿ وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ [مريم:76] وفي آية أخرى ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد:17] كما أن الذين كانوا في أسفل سافلين إنما كان ذلك بسبب أعمالهم ﴿ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة:67] وفي آية أخرى ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصَّف:5].
ولذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: “يا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي على دِينِكَ قال أنس رضي الله عنه: فقلت: يا رَسُولَ الله، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قال: نعم، إِنَّ الْقُلُوبَ بين إصبعين من أَصَابِعِ الله يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ” رواه الترمذي.
والأفراد والدول والأمم تتقلب أحوالها، وتنتقل من طور إلى طور؛ قوة وضعفا، وصحة ومرضا، وغنى وفقرا، وعزا وذلا، بأسباب كونية قدرية، وبأسباب شرعية مَرْضِيَّة ﴿ قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران:26] وما من أفراد إلا فرحوا وحزنوا، وضحكوا وبكوا، وطمعوا وأيسوا، واستبشروا وأبلسوا، وجرى ذلك على الدول والأمم.
وفي قصة يوسف عليه السلام التي هي من أعاجيب قصص القرآن، ومن أبين الدلائل على تقلب الأحوال، قرأنا كيف ابتلي يوسف عليه السلام بالجب وكان مظنة الهلاك، ثم بالرِّق وهو مظنة دوام الأسر والذل، ثم بالسجن وهو مظنة البقاء والنسيان، ليبدل الله تعالى حاله في الابتلاء المتتابع، فيُمكِّن له في الأرض، ويجعله على خزائنها، فيعتز به أهله وإخوته الذين أرادوا ذله وهلاكه؛ ولذا ابتدأ الله تعالى هذه القصة العظيمة بقوله سبحانه ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ ﴾ [يوسف:3] وختمها بقوله عز وجل ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [يوسف:111] وما ذاك إلا لما فيها من أنوع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ثم من محنة إلى منحة ومنة، ومن ذل إلى عز، ومن رق إلى ملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، ومن حزن إلى سرور، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، ومن إنكار إلى إقرار، فتبارك من قصها فأحسنها ووضحها وبينها.
وفي قصة بني النضير قلب الله تعالى حالهم من الاستقرار إلى التشرد، ومن السعة إلى الضيق، كانوا يعمرون بيوتهم وحصونهم لبقائها، وبقائهم هم فيها، فإذا حالهم ينقلب فيخربونها بأيديهم ﴿ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ [الحشر:2] فما أسرع النقمة التي حلت بهم بعد النعمة!
وصاحب الجنتين في سورة الكهف سار فيها معجبا مستكبرا، ثم ماذا؟! ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴾ [الكهف:42].
والتاريخ مملوء بحوادث تقلبت فيها أحوال أفراد ودول وأمم، فعز فيها من كانوا أذلة، وذل فيها من كانوا أعزة، وسادت دول ثم بادت؛ ليخلفها في السيادة غيرها. ورأينا ذلك رأي العين في أفراد افتقروا بعد الغنى، وآخرون اغتنوا بعد الفقر، ورأينا دولا ارتفعت ثم سقطت؛ ليخلفها غيرها ﴿ اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطَّلاق:12] قال أهل التفسير في قوله سبحانه {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطَّلاق:12] “بحياة بعض وموت بعض، وغنى قوم وفقر قوم، وما يدبر فيهن من عجيب تدبيره: فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار والصيف والشتاء ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها فينقلهم من حال إلى حال.