من لم ينظر إلى الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء

الحكم الربانية
طبوغرافي

حثّ الإسلام في كافة مذاهبه السلوكية على الالتزام بالأخلاق العامّة التي تنطوي على الاعتقاد فحسب بل على التطبيق العملي، ومن المفاهيم التي يحدث بها التباس على الوجه العام، وتعتبر ركيزة من ركائز المسلم العابد "الورع"، فهي من أعلى مراتب الإيمان بل ربما أسماها وأعظمها قدرًا عند الله سبحانه وتعالى، وينتج اللبس في هذا المفهوم بوجه عام نتيجة لخلط الجوانب السلوكية بالعقيدة الصحيحة، فربما يكون المسلم مصليًا أو قوامًا أو صوامًا أو داعية أو خطيبًا أو عالمًا، ولكن من الصعب أن يكون ورعًا، فالورع رتبة من الصعب نيلها إلا إذا تحقق مفهوم الإخلاص. ودون أدنى شك فإنّ لانتشار الفساد في الأرض، وضلال الإنسان وانحرافه نحو تحقيق مآربه الشخصيّة، وانتشار الفواحش، وغياب البركة في الأرزاق الأمر الذي ساهم كثيرًا في غياب مفهوم الوَرع.

ويُعرف الورع شرعًا على أنّه ليس فحسب الكفّ عن المحارم التحرُج، بل أيضًا الكفّ عن الكثير من المباح والمستحبات خشية الوقوع في الحرام، ويعرف الورع اصطلاحًا بترك ما يُريب، ونفي ما يعيب، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشقّ.

وقد عرّفه شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه ترك ما يخاف الإنسان عاقبته، وهو ما يعلم تحريمه أو ما يشكّ في تحريمه، ولذا فإن الورع في المصطلح الديني يشير إلى حالة تنطلق من النفس، بحيث يشعر الإنسان بصعوبة الإتيان بمثل هذا القول أو الفعل فلا يقدم عليه خشية لله عز وجل، واستشعارا لنعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، أو محبة لله سبحانه وتعالى نابعة من قلب المؤمن، أو يستحضر موقفًا من مواقف الآخرة، كنعم الله للطائعين وعقاب الله للعاصين فتضعف لديه نوازع المعصية لوضوح الصورة القبيحة للعاصين والجميلة للطاعات، ولهذا الأثر الكبير في سلوكيات الإنسان وحسن تعامله مع الناس كافة باختلاف أجناسهم  وأعراقهم أو حتى معتقداتهم الدينيّة، وهو الهدف الراسخ للدين الإسلامي والتطبيق العملي لمنهجه.

وهنالك علاقة كبيرة بين الوُرع والعبادة، فالعبادة مقترنة بالورع، وذلك من خلال عكس مفهوم العبادة في المعاملات مع الله سبحانه وتعالى ومع الأفراد، وفي هذا الصدد علينا أن نتجنب الخلط بين مفهومي الورع والتشدد، فالورع هو ترك ما لا بأس به حذرًا مما به من بأس، كترك بعض المباحات أو التقليل منها لتهذيب النفس ولتقوية الوازع الداخلي، وأمّا التشدّد فهو تحريم الحلال أو ترك الحلال بصفة التعبد بما هو ليس بعبادة، ومن
آثأر الوُرع حجز اللسان عن قول الزور والخوض في أعراض الناس، ومنع القلب من سوء الظن بالآخرين أو ظلمهم، وكف الإنسان عن إيذاء الآخرين أو إلحاق الضرر بهم.

أيها الأحباب.. الإنسان الورِع هو الذي يبتعد عما يجره إلى معصية, والورِع هو الذي يدع هامش أمان بينه وبين المعاصي؛ لأن الله عز وجل يقول:﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ [البقرة:187].

يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((الحلالَ بيِّن, والحرام بيِّن, وبينها أمور مشتبهات, لا يعلمهن كثير من الناس)) [أخرجه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير].

أهل الورع:

أيها الإخوة الكرام.. إني لا أختار من الحكم إلا الحكم التي لمست شغاف قلبي، والتي أثّرت في نفسي، وكونت شخصيتي، الإنسان في هذه الحياة لابد أن يعلم أن كل شىء له مثقال، وأن كل شىء له ميزان حساس عند الله سبحانه وتعالى، هذه الحكمة التراثية داخلة في إطار الورع، أى لا تأخذ إلا ما هو لك، ولا تقصر في ما وكّل إليك، ولا تنظر أبعد مما ينبغي أن تنظر، ولا تطمح في ما هو في يد الأخرين، وإذا أخذت مما ليس لك، فينبغي أن تأخذه بمقدار معلوم، في هذا الإطار سترى حياة الصالحين كلها تدور حول هذا المعنى.

- قَالَ كهمس : أذنبت ذنبا أبكى عَلَيْهِ منذ أربعين سنة وَذَلِكَ أَنَّهُ زارني أخ لي فاشتريت بدانق سمكة مشوية فلما فرغ أخذت قطعة طين من جدار جار لي حَتَّى غسل يده وَلَمْ أستحلّه.

- قيل : وَكَانَ رجل يكتب رقعة وَهُوَ فِي بَيْت بكراء فأراد أَن يترب الكتاب من جدار الْبَيْت فخطر بباله أَن الْبَيْت بالكراء ثُمَّ إنه خطر بباله أَنَّهُ لا خطر لِهَذَا فترب الكتاب فسمع هاتفا يَقُول: سيعلم المستخف بالتراب مَا يلقاه غدا من طول الحساب.

- ورهن أَحْمَد بْن حنبل رحمه اللَّه تَعَالَى سطلًا لَهُ عِنْدَ بقال بمكة حرمها اللَّه تَعَالَى فلما أراد فكاكه أخرج البقال إِلَيْهِ سطلين وَقَالَ: خذ أيهما لَك فَقَالَ أَحْمَد: أشكل عَلِي سطلي فَهُوَ لَك والدراهم لَك، فَقَالَ البقال: سطلك هَذَا وأنا أردت أَن أجربك فَقَالَ: لا آخذه ومضى وترك السطل عنده.

 - وَقَالَ سيب ابْن المبارك: دابة قيمتها كثيرة وصلى صلاة الظهر فرتعت الدابة فِي زرع قرية سلطانية فترك ابْن المبارك الدابة وَلَمْ يركبها.

- عن فاطمة ابنة عبد الملك، قالت: اشتهى عمر بن عبد العزيز يومًا عسلاً، فلم يكن عندنا، فوجَّهْنا رجلاً على دابَّة من دوابِّ البريد إلى بعلبك بدينار، فأتى بعسل، فقلت: إنكَ ذكرتَ عسلاً، وعندنا عسل، فهل لك فيه؟ قالت: فأتيناه به فشرب، ثم قال: من أين لكم هذا العسل؟ قالت: وجَّهْنَا رجلاً على دابَّة من دوابِّ البريد بدينار إلى بعلبك، فاشترى لنا عسلاً. فأرسل إلى الرجل، فقال: انطلق بهذا العسل إلى السوق فبعه، واردد إلينا رأس مالنا، وانظر إلى الفضل فاجعله في علف دوابّ البريد، ولو كان ينفع المسلمين قيء لتقيَّأت.

- وقيل: جاءت أخت بشر الحافي إِلَى أَحْمَد ابْن حنبل وَقَالَتْ: إنا نغزل عَلَى سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية ويقع الشعاع عَلَيْنَا أفيجوز لنا الغزل فِي شعاعها فَقَالَ أَحْمَد : من أَنْتِ عافاك اللَّه تَعَالَى فَقَالَتْ: أخت بشر الحافي فبكى أَحْمَد وَقَالَ: من بيتكم يخرج الورع الصادق لا تغزلي فِي شعاعها.