صحبة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار

الحكم الربانية
طبوغرافي

قال الله تعالى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل.

أيها الأحباب.. نعيش معكم اليوم من خلال إحدى الحكم التراثية العظيمة التى تركت أثرًا جميلًا في نفوس كل من علمها، صحبة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار..

أيها الأحباب إن الصحبة السيئة من أخطر الأمور على العبد المسلم، وهى آفة خطيرة، ومصيبة عظيمة، والأخطر من ذلك كما تقول حكمة اليوم أنها تجعل الإنسان يسيئ الظن بكل من حوله، حتى ولو كانوا من الأخيار لماذا؟ لأن صديق السوء يستحوذ على صديقه فلا يترك له مجالًا بأن يصاحب أهل الخير، فيظن أن كل الناس على هذه الشاكلة ومن الأشرار، فيسوء ظنه بالناس جميعًا ولا يستطيع أن يفرق بين الحق والباطل، ولا يستطيع أن يفرق بين الحق والباطل، ولا يستطيع أن يميز بين الصديق الخيّر والصديق الشرّير، فيستوى عنده الناس ويصبح الأخيار في نظره أشرارًا.

وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم مدى خطورة القدوة السيئة على الخلق، وما تحمله من أوزار من يتأسّون ويتأثرون بها، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: ((من سَنَّ في الإسلام سُنَّةً سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ))

 

الصحبة السيئة تنتج إنسانًا عاريًا من الخلق والدين غير صالح لهذا المجتمع بل هو بمثابة الفيروس الذي يقضي على الأسرة وبالتالي على المجتمع.

والصاحب السيء يردي صاحبه وهو علامة سيئة في جبين من يمشي معه وقد ورد في الأثر (( إياك وقرين السوء فإنك به تُعرف )).

ومصاحبة أهل الباطل والمعاصي تهوّن المعصية، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: (( أما الفاسق المصرّ على فسقه فلا فائدة في صحبته بل مشاهدته تهوِّن أمر المعصية على النفس، وتبطل نفرة القلب عنها، ولأن من لا يخاف الله لا تؤمن غوائله ولا يوثق بصداقته بل يتغير بتغير الأغراض)) فالصاحب العاصي متقلب حسب المصلحة وهذا خُلُقه، أهلك نفسه وأهلك صاحبه بل إنه غير مؤتمن على هذه الصحبة، لأن الصحبة أمانة كما في الحديث " إنما يتجالس المجالسان بالأمانة ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره "

أثر الرفقة على السلوك:

ولا أدل على أهمية الرفقة والصحبة في حياة المرء وتأثيرها في نفسيته مِمَّا قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما شبّه رفقة السوء ورفقة الخير بنافخ الكير وحامل المسك، فقال: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، وحامل المسك إما أن يُحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً، ونافخ الكير إما أن يَحْرِق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)).

لهذا؛ يجب على المرء اختيار الرفيق الصالح الناصح الذي يعينه على تنمية الجانب الخلقي لا تدميره وخرابه؛ لأن من طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها، ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق من أهل المواساة والبرّ والصدق وكرم العشيرة والصبر والوفاء.

 

وعليه؛ وجب الحرص كلَّ الحرص على اختيار القدوة الصحيحة، والصحبة الصالحة؛ إذ الناس - كما هو معلوم وكما يقول ابن تيمية رحمه الله - في تفاعلهم واقتدائهم ببعضٍ - كأسراب القَطَا؛ مجبولون على تشبُّه بعضهم ببعض، لكن هذه الجِبِلَّة ينبغي ألا تكون مطلقة العَنَان، بل ينبغي أن تُعْقَل بما يعود على الفرد والأمة بالخير والصلاح والفلاح في الحال والمآل لا بالتهلُكة والفساد، فالمرء - كما يقول سيد الخليقة المصطفى عليه الصلاة والسلام : ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخَالِل))؛ لهذا حذّر السلف الصالح من صحبة السوء، فقال أحدهم: احذروا من الناس صنفين: صاحبَ هوًى قد فتنه هواه، وصاحبَ دنيا أعمتْه دنياه.

آثار الصحبة السيئة على المسلم:

خلق الله الإنسان ضعيفًا وأودع فيه من المشاعر الكم الجليل وجعلها تحكمه فما من فعل يصدر منه إلا مواليًا لتلك المشاعر مطيعًا لها، فالإنسان يُفضّل أن يتعلم رغبة على أن يحقق مرادًا له، هو يأكل لأنه يشعر بالجوع، وهو يفرح ويغضب ويخاف ويقلق وكل هذه وغيرها الكثير من المشاعر، أودعها الخالق رحمة لنا تؤثّر على حياتنا وتجعل لها معنى، وفرض علينا بأن نحكمها ونقودها وليس العكس ولكي نفعل ذلك يجب أن نحكم محيطنا وأن نجعله يوافق مطلبنا.. وأهم عناصر ذلك المحيط هي الصحبة ومالها من التأثير الكبير على الفرد فقد يكون الإنسان صالحًا مفكرًا لديه من الحكمة القدر الكبير ومن المواهب الكم الوفير ورغم ذلك كله واقعه أقل بكثير من المفترض أن يغدو عليه.. والسبب في ذلك لا يعود لكونه مقصّرًا بل لأن محيطه (بما فيه رفقته) قد أعاقه عن ذلك.. فالصحبة لها الأثر البليغ إيجابيًا كان أم سلبيًا.. فمن صور الأول وآثاره أن الصحبة الصالحة تعين على الخير، تصحح الأخطاء، وتورث النقاء وتعين وقت الشدة والضيق بعكس رفيق السوء كما يقول الشاعر:

ما أكثر الأخوان حين نعدهم *** لكنهم في النائبات قليل

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الْحَدَّادِ لَا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً ".

ولا يخفى علينا عظم الأثر الذي يزرعه الرفيق في رفيقه إن كان الأثر إيجابيًا الخوف كل الخوف من العكس فالنوع الثاني من الرفقة وهو السيئة لا يجني منها سوى الأسى والندم والصديق السيئ لا يورث سوى السيئ.. فكم من فطن عاقل والى صاحبًا سيئا وما نال إلا الندم والخسران.. فالصور في ذلك الأثر كثيرة ومتباينة قد تكون بسيطة ككلمة بذيئة يتسربلها اللسان مع التكرار أو سُمّ زعاف يمتصّه الدم فيؤدى للبوار.

فعلى المرء أن يعنى باختيار صحبته لأنه بذلك يختار نفسه.. وفي الآية: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.. فالرفقة والصحبة ليست مقصورة على وقت تهدره أو ضحك تبعثه بل هي المصير وإن لم تكن كذلك فهي جزء كبير منه.

أضرار مصاحبة الأشرار:

1ـ من أضرار جلس السوء انه قد يشكك في معتقداتك الصحيحة ويصرفك عنها.

2ـ أن جليس السوء يدعو جليسه إلى مماثلته في الوقوع في المحرمات والمنكرات.

3ـ أن المرء بطبيعته يتأثر بعادات جليسه وأخلاقه وأعماله قال صلى الله عليه وسلم:

( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) " رواه أبو داود " ، وقد قيل " إياك ومجالسة الشرير فإن طبعك يسرق من طبعه وأنت لا تدري "

4ـ أن رؤيته تذكر بالمعصية سواء كانت ظاهرة عليه أو خفية وكنت تعرف  ذلك منه فتخطر المعصية في بال المرء بعد أن كان غافلا أو متشاغلا عنها.

 

5ـ أنه يصلك بأناس سيئين يضرك الارتباط بهم وقد يكونون أشدّ انحرافًا وفسادًا.

6ـ أنه يخفي عنك عيوبك ويسترها عنك ويزين لك خطاياك ويخفّف وقع المعصية في قلبك ويهوّن عليك التقصير في الطاعة.

7ـ أنك تحرم بسببه من مجالسة الصالحين وأهل الخير لانهماكك معه في الشهوات والملذات ويحذرك من مجالستهم فيفوتك من الخير والصلاح بقدر بعدك عنهم.

8ـ أن الذي يجالس أهل السوء يقارن أفعاله السيئة بأفعالهم فيستصغر سيئاته مقارنة بسيئاتهم فيكون ذلك سببا في زيادة طغيانه وانحرافه وتقصيره في الأعمال الصالحة.

9ـ أنّ صحبته ومؤاخاته عرضة للزوال عند وجود أدنى خلاف أو تغيير مصلحة بل وتحصل البغضاء بدون ذلك، قال عبدالله بن المعتز ـ رحمه الله ـ " إخوان السوء ينصرفون عند النكبة ويقبلون مع النعمة "

قال أبو الحسن التهامي ـ رحمه الله :

شيئان ينقشعان أول وهلة ***** ظل الشباب وخلة الأشـرار

وقال ابن حبان ـ رحمه الله ـ " العاقل لا يصاحب الأشرار لان صحبة

السوء قطعة من النار تعقب الضغائن لا يستقيم وده ولا يفي بعهده"

10ـ أن مجالس أهل السوء لا تخلو من ا لمحرمات والمعاصي كالغيبة والنميمة والكذب واللعن ونحو ذلك فربما يوافقهم جليسهم فيما هم فيه أو ينكر عليهم أو لا يفارق مجلسهم فيقع في الإثم.

11ـ أنها لو دامت مودتهم في الدنيا فإنها سرعان ما تنقشع في الدار

الآخرة وتنقلب إلى عداوة وبغضاء قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}

12ـ أن غالب مجالس أهل الفسق لا يُذكر الله فيها فتكون حسرة وندامة على أصحابها يوم القيامة.

13ـ أن في مجالستهم تضييعًا للوقت الذي سيحاسب العبد على التفريط فيه يوم القيامة.

14ـ انك به تعرف ويساء بك الظن من أجل صحبتك له.

15ـ ومن أخطر أضرار صحبة السوء، سوء الظن بالأخيار وذلك بسبب عدم التمييز بين الصالح والفاسد نتيجة كثرة أصحاب السوء، وكثرة مغرياتهم، فيظنّ الإنسان أن كل الناس أهل سوء.

قال الشيخ عبدالرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ

" وبالجملة فمصاحبة الأشرار مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم وشر على من خالطهم فكم هلك بسببهم أقوام وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون "

وقال أبو الأسود الدؤلي ـ رحمه الله ـ " ما خلق الله خلقا أضر من الصاحب السوء "

فعلى العاقل الناصح لنفسه الذي يريد لها النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة أن يتجنب مخالطة هؤلاء ويفر منهم غاية الفرار ولا يتهاون في ذلك.

أيه الأحباب الكرام.. المنشغلون بالله هم الأخيار، والمنشغلون بالدنيا أكثر مما ينبغي هم الأشرار، المنشغلون بالآخره كما ينبغي هم الأخيار.. رزقنا الله و إياكم صحبة الأخيار، وجعلنا و إياكم من الأخيار، و ذكّرنا بسِيَر الأخيار، وجعل كلامنا كلام الأخيار، وجعلنا يوم القيامة مع الأبرار.

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}

 {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}