كان لقمان الحكيم وليًّا، ولم يكن نبيًّا ولكن أتاه الله العلم والحكمة والموعظة.. وهو لقمان بن عنقاء بن سدون، واسم ابنه ثاران في قول حكاه السهيلي، وقد ذكره تعالى بأحسن الذكر، فإنه آتاه الحكمة، والحكمة هي العلم بالحق على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالمًا، ولا يكون حكيمًا، وأما الحكمة فهي مستلزمة للعلم، بل وللعمل، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع، والعمل الصالح.
وقد أثنى الله عليه في القرآن، وحكى من كلامه فيما وعظ به ولده الذي هو أحب الخلق إليه، وهو أشفق الناس عليه، فكان من أول ما وعظ به أن قال: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} .
عن علقمة عن عبد الله قال: ((لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟! فقال رسول الله: ((إنه ليس بذاك ألم تسمع إلى قول لقمان: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)).
وأخبر القرآن عن لقمان فيما وعظ به ولده: { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}، أي: إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل ﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ أي: أحضرها الله يوم القيامة، حين يضع الموازين القسط وجازى عليها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السموات أو الأرض، فإن الله يأتي بها؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ أي: لطيف العلم، فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دقت ولطفت وتضاءلت ﴿خَبِيرٌ﴾ بدبيب النمل في الليل البهيم، والمقصود من هذا الحث على مراقبة الله، والعمل بطاعته مهما أمكن، والترهيب من عمل القبيح قل أو كثر.
ثم قال: {يا بني أقم الصلاة} أي: أدها بجميع واجباتها من حدودها وأوقاتها وركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها، وما شرع فيها واجتنب ما ينهي عنه فيها.
ثم قال: {وامر بالمعروف وانه عن المنكر} أي: بجهدك وطاقتك، وقوله: {ولا تصعر خدك للناس} أي: لا تتكبر على الناس، وتميل خدك حال كلامك لهم، وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والازدراء لهم.
وقوله: {ولا تَمشِ في الأَرضِ مَرَحاً إنّ اللّهَ لا يُحِبُ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ} ينهاه عن التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس كما قال تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا}.
ثم قال: {واغضض من صوتك} يعني: إذا تكلمت لا تتكلف رفع صوتك، فإن أرفع الأصوات وأنكرها صوت الحمير، وقد ثبت في الصحيحين الأمر بالاستعاذة عند سماع صوت الحمير بالليل، فإنها رأت شيطانا، ولهذا نهى عن رفع الصوت حيث لا حاجة إليه، ولا سيما عند العطاس، فيستحب خفض الصوت وتخمير الوجه، كما ثبت به الحديث من صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إنها وصايا رائعة في الدين والدنيا والأخلاق والعبادة، تنم عن حكمة عظيمة، وحرص من الأب على صلاح ابنه، وهو قدوة لكل الآباء
ألا يحرموا أبناءهم من حكمة الحياة، ووسائل التقرب من الله، وأن يتركوا لهم ميراث الدين قبل أن يتركوا لهم ميراث الدنيا .