حكاية الابن الضال ‏‎.. كما تدين تدان

قصص وروايات
طبوغرافي

أحمد رشدي

بقلم/ أحمد رشدى

مذيع تلفزيونى وكاتب صحفى

 

 

 الخميس ليلا.. عاد الأب رجل الأعمال السعيد مع أولاده وزوجته بعد سهرة تناولوا فيها طعام العشاء عند أم حسن ، الحَّ الأبناءُ على أبيهم فى أن يكملوا السهرة معاً ، لأن الأب مشغول طول الوقت بماله وأعماله ، وابتسم الأبُ وأشار برأسه الكبير على الموافقة ، طار الأبناء فرحا ، غيروا ملابسهم وجلس الأولاد العطشى مع الأب ليرتوا من حبه وحنان ، وكانت الأم تجهز لهم الكابتشينو ( أبو رغوة ) وبدأ الحديث من الإبن الأصغر ، صاحب 14 سنة وطلب من أبيه أن يحدثهم عن طفولته وعن جده وجدته الذين رحلوا عن الدنيا منذ زمن بعيد ، وبدأ الأب يحكى عن طفولته وكيف أنه كان طفلا مثاليا ، - بلاش مثاليا لتفُهم خطأ – مطيعا وبارا بوالديه. 

حكاية الابن الضال

 واثناء حديث السمر النادر وقف ريموت كنترول التلفزيون اللى فى ايد الأب عن برنامج أجنبى شهير ، برنامج اجتماعى يقدم قصصاً حقيقة ، وكان بطل الحلقة مهندساً شاباً ، يحكى عن والده الطبيب الذى لم يتزوج بعد ما ماتت والدته وكرسه حياته بجانب عمله ليربى ابنه ، فكانت حياته كفاح ونجاح وكان يقوم بدورالأم و الأب والصديق و بكى الشاب بكاء شديدا على تقصيره مع والده بعد أن وصل السبعين من عمره ، فكان قد تزوج المهندس وترك والده وحيدا بين أربعة جدارن وكان يزوره كل أسبوع وتوسل الأب والح على الإبن ألا يتركه وحيدا وذكَّره بطفولته وتضحياته بعد وفاة الأم وسلمه شريط فيديو عن طفولته ، ولكن الإبن قال لأبيه سوف يعود الأسبوع القادم ويأخذ قرارا بشأن المعيشة مع الأب ،وبالفعل عاد الإبن بعد أسبوع ولكن وجد سيارة الإسعاف والشرطة تقفان أمام منزل أبيه الذى كان قد مات و رائحته ملأت المكان ، فانهار الإبن ، وأُصيب بصدمة نفسية بعد أن شعر بالتقصير مع والده ونقل إلى المستشفى وبعد أيام تذكر شريط الفيديو ، واتصل بصديقه ليحضره وكانت الصدمة القاتلة بعد أن شاهد كم كان مدللا و كم تعب الأب، إذ كان أميرا ووالده كخادم وفىِّ وبكى الإبن المهندس وبكت المذيعة الجميلة اوووووى.

وصرخ ابن رجل الأعمال ، صرخ الابن الصغير وقال : حيوان .... حيوان ... كيف يترك والده الذى ربى وعلم وسهر وتعب وضحى من اجل اسعاده ...

- حاول أخوته أن يهدئوا من روعته و ظل والده ، رجل الأعمال فى صمت رهيب ، سأله ابنه الأكبر والدموع في عينيه : بابا هو ممكن يكون أبناء كده ، فيه ابن ممكن يترك أباه وحيدا فى شقة ، فيه ابن ممكن يلهو ويلعب مع أولاده ووالده المسن يجلس فى شقة بين أربعة جدران يشكى ويشتكى إلى الله ؟

- صرخ الأب : اسكتوا .... وقام مسرعا إلى غرفته و صُدم الأبناء من رد فعل أبيهم.. وجرت الزوجةُ وراء زوجها..

- دخلت وأغلقت الباب ووجدت الزوج يبكى بكاء مريرا ، ويبدو أنها تعلم سر بكاءه ، قال الزوج لزوجته : كأن المهندس يتكلم عنى .... آه والله عنى ، عن أبى الذى تركته فى دار المسنين ، وانتى كنتى سببا فى ذلك ، انتى اللى زنّيتى عليه ، وتحججتى بأشياء تافهة ... مش عارفه أخد راحتى ، والدك كبر و أنا مش هشتغل خدامه ، وأنا كنت دلدولاً – زعلوط – لما سمعت كلامك ، بكت الزوجة التى تأثرت بقصة المهندس ، وقالت بصوت حزين ومنكسر : اللى انكسر ممكن يتصلح .... اهدى يا حبيبى ونام و الصباح رباح ....

- حاول الزوج أن ينام بعد أن أوقف دموعه بشدة .... وقام كالمجنون وغير ملابسه و سألته الزوجة : رايح فين ؟

- سأفعل شيئا كان يجب أن افعله من زمن بعيد .... عرفت الزوجة إنه ذاهب لدار المسنين التى أسْكَن والده فيها... والده المقاول المسن ، الرجل الذى بنى ابنه ولكن الإبن أصابه العقوق و الخذلان ، خرج الإبن باكيا مسرعا وركب سيارته و أبناؤه لا يفهموا شيئا مما يجرى ، وصل الإبن دار المسنين و كان وقت الفجر قد حان ، وصل الإبن الذى كان فى غيبوبة وقد فاق ، ضرب الجرس ، رد عليه فرد الأمن : أيوة .

دار مسنين

- الابن :السلام عليكم ....

- الأمن : وعليكم السلام ورحمه الله .... أقدر أساعد حضرتك ؟

- الابن : أنا ابن الحاج صابر المصرى ....اللى عندكم فى غرفة 120

- الأمن : حضرتك الحاج صابر المصرى للأسف مش موجود ، كان فيه حريق فى احدى الغرف من 5 شهور و خرجنا كل المقيمين بسرعة وكنا خايفين حد تجرى له حاجة والحاج صابر اختفى و اتصلنا بحضرتك كتير على الرقم اللى حضرتك تركته و لكن للأسف مفيش حد رد .

- الابن : حسبى الله ونعم الوكيل فيكم ، ده أنا هبهدلكم ، يا مهملين ... أنا هقفلكم الدار ....

- الأمن : قبل ما تلوم الدار لوم نفسك ياباشا ، حضرتك سايب لنا رقم تليفون مغلق ولا بتسأل فى والدك .

- الابن : عندك حق .... أنا برضه اللى غلطان.... خرج الإبن وصوت أذان الفجر شق الظلام ولاقى رجليه أخذته على المسجد الذى هجره من زمن وتوضأ ودخل فى الصلاة و إذ يشاء السميع العليم أن يقرأ الإمام قول الله تعالى : )وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .... فبكى الإبن بكاء رهيبا حتى بعد الصلاة اقترب منه شيخُ الجامع و بعض المصليين ليشدوا من أزره ، فحكى لهم الحكاية : لما تزوجت بأيام قليلة دبت الخلافات الزوجية ، ورفضت زوجتى أن تعيش مع أبى فى شقة واحدة و تعللت بأنها تريد أن تأخد راحتها و لن تعمل خادمة لوالدى المسن واقترحت زوجتى أن اذهب به إلى دار مسنين وسيجد الرعاية و العناية ، فى البداية ترددتُ ولكن اقنعت نفسى أن أبى سيكون بخير وفى صباح يوم لا ينسى .... غيرت ملابسه وسألنى : هنروح فين يا ابنى ؟

- قولت له : هنروح المستشفى يا بابا .... وأحضرته هنا و كنت أزوره كل 15 يوم و مع زحمة وزحام الحياة كنت اتصل اطمن بالتليفون ... وكنت كل 6 شهور أحول فى البنك مصاريف الدار على حسابهم و الليلة أفقتُ من غيبوبة العقوق وجئتُ أقبل رأسى أبى و ارجوه أن يغفر لى ويسامحنى و سأخذه لأفضل مكان فى البيت ولكن لم أجده فى دار المسنين ..... يارب ما أشقانى

- و طلب من شيخ الجامع والحضور أن يدعو الله أن يجمعه بأبيه .... وقام الحضور وخرج الإبن لا يريد العودة للمنزل وجلس فى سيارته ومن شدة التعب النفسى راحَ فى نوم عميق وتذكر فى المنام طفولته السعيدة و كيف كان الأب - الراجل المقاول الناجح - يلبى كل طلبات ابنه المدل وحضرته صورة والده لما قفز من الدور الثانى لما وقع من على الدراجة وأصيب ذراعه و تذكر لما نجح فى ثانوية عامة اشترى له سيارة و كتب له كل شىء ، فهو ابنه الوحيد ، رأى فى المنام ابنه الصغير يتوعده لما يكبر أن يدعه فى دار مسنين كما فعل فى جده و قال له يا بابا : كما تدين تدان ، فقام من نومه فرعا وتحرك بسيارته الـ بى أم دبليو و فى إشارة المرور وجدا رجلا مسنا يبيع مناديل ،رجلا يبدو مألوفا له ، نزل الإبن من سيارته - بعد أن فتحت الإشارة - مسرعا يقبل يدى هذا الرجل وسط ذهول الماره واقترب رجل المرور مندهشا مما يرى رجل ثرى من أصحاب الـ بى أم دابليو ينزل وينسى نفسه و يقبل يدى ورأس رجل " شحات " وحمل أباه الرجل الذى ظل يبكى وابنه أشد منه بكاء وركبا فى السيارة وبكى رجل المرور و بعض الماره لما قال لهم الإبن : هذا أبى .... هذا أبى وعاد الإبن و أبوه وكانت الزوجة حكت لأولادها ما حدث مع جدهم و أنها ندمت..

دار المسنين- جريدة الفتح اليوم

ووصل الأبن والأب صاحب الدار وبانيها .... وفتحت الزوجة التى قبلت رأس حماها وارتمى الأبناء فى حضن جدهم الذى ظل على هندامه البسيط ، لم يعلق الأب عن ما حدث إلا بكلمة واحده لإبنه : كنت عارف إنك هتيجى .... بس كنت خايف أموت قبل ما تيجى ..... يا ولدى الدنيا دوراه و كما تدين تدان أنا عملت كده مع جدك ،زمان وأنا فى شبابى كنت حاسس إنى ملكت الدنيا و اشتريت بيت جديد بعد ما اتجوزت وتركت أبويه وحيدا فى البيت القديم ولكن الحمد لله لحقته قبل ما يموت ورجوته يسامحنى وسامحنى زى ما سامحت ... يا ولدى سامحتك .... بس ادعى ربنا إنه مفيش حد من ولادك يعمل معاك كده لما تبقى فى سنى .

- إلى كل الأبناء .....هل وصلت الرسالة .... كما تدين تدان .