أبناء التراب.. فاطمة زينة البنات

قصص وروايات
طبوغرافي

بقلم: 

دكتور/ عبدالعظيم عمران 

عبدالعظيم عمران

خرجت الشمس رويدًا رويدًا، وألقت بأشعتها على قصر حيدر ساطعة على صفحة مياه الدميرة التي تحيط بالقرية من جهاتها الأربع.
كان الموج الرقيق يتقارب فيحتضن البيوت، ثم يتباعد عنها شيئًا فشيئًا، وعلى مدى البصر طير يحاول أن يلتقط رزقه من كومة قش على صفحة الماء الذي يخالطه الزبد .
تعود الأمواج الهادئة لتلامس حزم البوص التي تحيط بالبيوت، وتتحسسها في رفق، وتلمس فيها الأوجاع والأفراح.
هنا شرقي القرية أمام بيت أسفله من الحجارة، وأعلاه من الطوب اللبن جلس محمد مسعود يتأمل أولاده الصغار، وهم يلعبون، ويلقي بنظره بعيدًا على رقاب النخيل البارزة في المياه البعيدة .
سطعت في ذاكرته جلسته في بيت علام محمد علام، تذكر أصوات الطبل وهي تعلو وسط فرحة يانعة.
كانت فاطمة أمنية حياته، وكانت مشيتها وهي تحمل فوق رأسها طبق الطعام المنسوج من سعف النخيل قاصدة أباها وأخاها في غيطهم الشرقي القريب- لحظات مورقة، يا لها من لحظات كانت تنتظرها النفس وهي تائقة، ويرسمها الشوق على صفحة السماء السامقة.
كانت تمر جيئة وذهابًا فترمقها العين رمقة المحب الخجول.
وربما رآه أبوه مسعود في بعض المرار، فأحس إحساس الأب العطوف أن ابنه يحمل لها في قلبه سرًّا عميقًا .
تذكر يوم قال له أبوه يومًا تحت ظل نخلة مألوفة: يا محمد أنت تعلم أنك أعز أبنائي عندي، وأنا أريد أن أزوجك من بيت أصيل، ارتفع البيت الذي تسكنه فاطمة فوق كل بيوت قصر حيدر حتى لم يكد يتخيل حوله بيوتًا ، لكنه لم يكد يرفع عينيه في وجه أبيه خجلا.
لكن فرحته انطلقت كالجواد الجامح حينما قال له أبوه : بيت علام من البيوت الأصيلة، وفاطمة ابنته زينة البنات.
في مساء غير بعيد كان الحاج مسعود يجلس هو وأخوه الأكبر أحمد في بيت علام محمد علام، وكان محمد مسعود يجلس بينهم تتألق في وجهه ملامح الرجولة وسمرة العنفوان، ومسحة الأرض الطيبة والنخيل .
دقت الطبول وانطلقت الزغاريد، وتعالت الأناشيد والأغاني، لكنها لم تكن تتحدث عن أمجاد المساعدة ولا العبادلة؛ لأنهما لم يكونا عرفا بعد، فها هو مسعود عبد العال جد المساعدة يجلس هو وأخوه أحمد عبد العال جد العبادلة يجمع بينهما الحب العميق والأخوة الجارفة، وميراث الأب والأرض بأفراحها وأوجاعها.
فارقت نظرات محمد أطراف النخيل البعيد وآبت رويدًا رويدًا حتى لامست وجه ابنه عمران فارتسمت في ذهنه صورة أبيه مسعود بهيبته الصلبة ونظراته الحازمة وحنوه العميق وصوته الذي ينشر الطمأنينة حول النخيل والبيوت.