أجدادنا الطيبون الكلمة رشفة ماء فى ساعة الظمأ

قصص وروايات
طبوغرافي

يقولون: إنه جاء من مكان ما من الجنوب مهاجرًا حتى ألقى عصا ترحاله فى قصر حيدر، تخيلت أنه كان منهكًا، جلس يلتقط أنفاسه، ربما هبت على حياته أعاصير الحزن الجنوبية، فبعثرت بعض أحلامه ولونتها بلون مر، وربما لم يأت أصلًا، وكانت هذه الحكاية مجرد قصة روتها شفاه متعبة تحت ظل النخيل.

لكننى ذكرتها على استحياء؛ فقيل لي: إن هذه الحكاية لا أصل لها، كيف يأتى غريب من الغرباء، فينبت فى القرية من ذريته عائلتان يلامس شرفهما ذروة النخيل، ويناطح حسبهما قمم الجبال.

المساعدة والعبادلة هل يعقل أن يكون أبوهما غريبا، جاء ليمتلك القرية بكاملها، لا تشع هذا الكلام يا رجل، ووضع يده على كتفى فصمت.

كانت قصر حيدر تتباعد أمامى فأرى أكواخها تتسابق حتى ترتشف من ضوء الشمس فى الصباح، وتتطاول حتى تصافح القمر فى المساء، نخيلها قصائد شعر محمل بتمر الذكريات، وزروعها حدائق تثمر الأمل، ودروبها ممزوجة برائحة الطيب، وأسوارها مرة المذاق حنونة البناية، لكنها حالت فى صباى بينى وبين الشمس، كنت أرغب أن أقتبس من نورها ما يضيء طريقى بالهدى .

فى هذه السنوات ذات الألم المحبوب، والذكريات الأليفة هناك أيد من قصر حيدر تمتد تحت ضوء القمر لتنقى قدميَّ من الأشواك، وتحاول جاهدة أن تبعد الصخور عن طريقي.

كنت أؤمن أن الصخور زائلة، وأن الله لن يترك صبيًّا يبحث عن نور الحروف.
وكان هؤلاء يؤمنون معي، كأنهم يبحثون كل صباح عن شجرة الأمل فى عينيَّ حتى إذا ما رأوها يانعة الأوراق اطمأنت نفوسهم وارتاحت قلوبهم، قضيتى أصبحت قضيتهم، ألفتهم وألفوني، وكانت مجالسهم بساطًا أخضر فى هجير الحياة وصحراء الأيام.

ربما لم يقدم لى بعضهم إلا الكلمات، وهل الكلمات شيء هين، الكلمة تحول اليأس إلى أمل، والليل إلى فجر، والظلام إلى ضياء، الكلمة مفتاح الحياة، وتسابيح النخيل، وأنيس الصمت، ورقة الهواء، وظلال الشجر.

الكلمة رشفة ماء فى ساعة الظمأ، وومضة فرح فى حدائق الأحزان، الكلمة دواء وصفاء ورجاء، وعطاء.
لقد تحولت كلماتهم إلى معالم فى حياتي، وصرت مدينًا لهم، أكتب هذه الكلمات من فيض كلماتهم، ومن معين حنوهم، ومن صدق مشاعرهم.

مضت سنوات ذابت فيها الصخور، وتهدمت الأسوار، وظللت أعدو فى الفضاء الممتد على صفحة الحقول الخضراء حتى احتضنت ضوء الشمس، أخبرته عن شوقى الطويل فى ساعة الأصيل، سألته بالله أن يمنحنى كلامًا أصوغه قصائدًا، أبعثه حمامًا يطير فوق قريتى ليبذر السلاما.

كان أحبابى هؤلاء يؤكدون لى دائمًا أن هذه اللحظة آتية، وهل يترك الله من تمسك به ودعاه، وبين وحشة الأيام والسنين ناجاه، إنهم الآن يجلسون تحت النخيل فى بساط الحقول الممتد فى الفضاء، مشيت نحوهم قليلًا قليلًا، فأحسست بعبق المحبة، ورونق التواضع، وطعم الألفة، ولون الصفاء اليانع.