فَضْفَضَةٌ أَدَبيَّةٌ : نحن والعلم

قصص وروايات
طبوغرافي

د. شعبان عبد الجيد

الكتب بما تثيره لا بما تقوله ، وقيمتها الحقيقية في تأثيرها وليس في حجمها ، وليس صحيحاً أن أفضل الكتب هو أكثرها شهرةً أو أغلاها ثمناً ؛ فما أكثر الكتبَ القيِّمةَ التي لا يعرف الناس عنها شيئاً ، وما أكثر الكتب الذائعة التي لا يَفيد منها أحدٌ شيئاً ، وصدق من قال : إن أعلى الأواني ضجيجاً أفرغُها ، وإن العملة الرديئة تطرد الجيِّدةَ من السوق.

وفي زمنٍ يبحث فيه القراء عما يمتِّعهم ويسلِّيهم ، وينفرون مما يحرِّك أذهانَهم ويستفز عقولهم ، ترُوج الكتبُ التافهة ، وتنتشر الأفكارُ الرخيصة ، ويخلو الجوُّ لأشباه العلماء وأنصاف الموهوبين ؛ فيملأون الأفق بسخافاتهم ، ويفسدون أذواق الأجيال بما يسطِّرونه من ساقط القول أو يثرثرون به من رَذْل الحديث.

وحدها الشعوبُ الخاملة البلهاء هي التي توسِّع لأمثال هؤلاء ، فتبدد طاقاتها فيما لا نفع فيه ، وتفوِّت على نفسها فرص اللحاق بركب الحضارة والتقدم. أمَّا الأمم اليقظة العاقلة فإنها لا تضيِّع وقتها فيما يشغلها عن غاياتها ، ولا تلقي بالاً إلا لما يساعدها في بناء نهضتها وتحقيق أحلامها. ونظرةٌ عجلَى إلى ما نحشو به أدمغة تلامذتنا من معارفَ ميتةٍ وعلومٍ محنطةٍ ، تدلُّنا على واحدٍ من أكبر أسباب تخلفنا وانحطاطنا.

إننا معزولون عما يصطخب في الحياة من حولنا ، ولا نهتم كثيراً بتسابق الدول المتقدمة لامتلاك أسباب القوة والمعرفة ، ولا نصل طلابَنا في المدارس والجامعات بروائع مدهِشات العلم الحديث وآخرِ منجَزاته ، ولا نُعِدُّهم ليواجهوا سوق العمل والإبداع ويسايروا موكب الرقيِّ والتقدم. وغاية ما ينتهي إليه أمرُنا معهم أن نجعل منهم ببَّغاواتٍ تردِّدُ ما يُقال لها ، ونصنع منهم أجيالاً من المقهورين الذين لا يفكرون ولا ينقُدون ولا يبدعون.

أقول هذا بعد أن وقع بين يديَّ كتابان قيِّمان للعالم الجليل الدكتور علي مصطفى مشرَّفة ( 1898 1950 ) ، صدرا منذ أكثرمن خمسٍ وستين سنة ، وأعيدَ نشرُهما مؤخراً ، في طبعةٍ جيِّدةٍ وسعرٍ زهيد ، ولا يتجاوز عدد صفحاتهما معاً مائتي صفحةٍ من القطع المتوسط ، ويمكن للقارئ المحبِّ أن يأتي عليهما في جلسةٍ واحدة ، وسوف يعينه على هذا لغةُ المؤلف السلسةُ المحكَمةُ ، وتَمكُّنُه المدهش من عرض المشكلات العلمية الشائكة المعقدة بعبارةٍ شائقةٍ وبسيطة. بَيْدَ أنه سيعود إليهما مرةً أخرى ، أو مراتٍ مثلما حدث معي ، ليقلِّبَ النظر فيما يثيرانِه من قضايا في كتاب ( العلم والحياة ) ، ويقع فى ثمانية فصولٍ قصيرة ، تسبقها مقدمةٌ وتليها خاتمة ، تحدث الدكتور مشرفة عن علاقة العلم بالسياسة ، والصناعة ، والمال ، والأمم العربية ، والشباب ، والأخلاق ، والدين ، والحياة. ويبدو من هذه العناوين أنه يقدم لنا رؤية كلية شبهَ فلسفية ، يبسط فيها خبرته العلمية والمعرفية ويبرز خلاصة ما انتهت إليه تجاربه وتأملاته. وأزعم أنها كانت خطوطاً عريضة ومسوَّدة أوَّلية لفلسفة عامة وشاملة ، كان يمكن لصاحبها أن يوسِّعها ويفصِّل القول فيها لو امتد به العمر وعاش أكثر مما قُدِّرَ له.

ولم يفُتْهُ أن يبث رُوح التفاؤل في نفوسنا ، ويؤكد لنا أن في مصر اليوم شباباً متعطشاً للعلم ، قادراً على البحث العلمي ؛ إذا نحن أحسنَّا إرشادَه وتوجيهه ، " فلنعمل إذن على إعداد جيلٍ صالحٍ يؤمن بالحق ، ويستمد من إيمانه وعلمه قوةً يستخدمها في الخير ، فيعمل على رفع مستوى الحياة بين مواطنيه ، ويسمو بنفسه وأغراضه نحو المثل العليا ".

أما كتاب ( نحن والعلم ) ، فهو يشتمل على مقدمة وخمسة موضوعات عن التأليف العلمي والثقافة العلمية وما يجب نحوهما " و " توجيه الرأي العام توجيهاً علمياً " و " العلم في خدمة المجتمع " و " البحث العلمي وتنظيمه " و " كيف يوجَّه العلمُ والعلماء لتحقيق تعاون عالمي "
لقد كان الدكتور مشرفة عالماً كبيراً وأديباً بليغاً وفناناً مرهفَ الحس ، وكان وطنيّاً مخلصاً لقومه وبني جِلدته ، وإنسانياً يعمل لخير البشرية وسعادتها. ولا يزال رحيلُه المأساويُّ لغزاً غامضاً إلى يوم الناس هذا ، ومن الوفاء له أن نعيد قراءة كتبه ومؤلفاته ، وأن ننشر آراءه العلميةَ بين أبنائنا ؛ لعلَّ الله يُخرِج من بينهم من يحملُ رايتَه ويكملُ رسالتَه ، ويجدِّدُ لهذه الأمةِ المجيدةِ تاريخَها الزاهرَ وماضيَها العريق.