حوار أحمد الجعبري
الشاعر والناقد والأديب الدكتور محروس بريك، أحد أبناء مدرسة دار العلوم الشعرية والنقدية، تميز إنتاجه الأدبي بالصدق الفني واستعماله التقنيات التي ترقى بالقارئ الكبير دون أن تتعالى عليه؛ يؤمن بأن الإبداع الحقيقي هو الذي يعبر عن النفس الإنسانية آمالها وآلامها تعبيرا فنيا ليرقى بها في مدارج الجمال والكمال فتطرب له النفس ويخفق له القلب وتهتز له الروح..
مصر ستنهض كالمارد في بضع سنين
غياب الرقابة على الفضائيات أفسد أذواق الناشئة.. والعربية تعاني أزمة هُويّة
العودة إلى حفظ القرآن وتعلّم الخط العربي في (الكُتّاب) هو السبيل الحقيقي لاكتساب العربية في سِنّ مبكرة
الوطن في شعري هو هذا العناق الأبدي بين المآذن والكنائس
نعاني من فجوة كبيرة بين تعليم حكومي لا يجد موارد له وتعليم أجنبي يستنزف الثروات ولا يهتم بمظاهر الهوية
وإلى نص الحوار:
الهوية العربية والإسلامية هي الرابط الوثيق بين الدول العربية. واللغة العربية هي الأساس والمحور، ولكننا اليوم نعيش واقعا صعبا ومريرا من قلة العناية والاهتمام باللغة العربية والحفاظ على قواعدها في حياتنا وأحاديثنا اليومية وحتى في المخاطبات الرسمية، من المسئول عن هذا التدهور، وما مخاطر تفشي هذا الإهمال؟
بداية لابد أن نتفق أن هناك مستويين من مستويات التواصل اللغوي (الفصحى والعامية)، وتلك طبيعة اللغات، وليست العربية بِدعًا في ذلك؛ ولا أرى أن هناك معاداة بين الفصحى والعامية، لكن ما ينبغي التنبه إليه أن لكل منهما ميدانه؛ فالفصحى هي اللغة الرسمية في مخاطباتنا ونوادينا الأدبية وجامعاتنا ومدارسنا وإعلامنا، أو هكذا ينبغي أن تكون، والعامية هي لغة العامة في بيعهم وشرائهم وحديثهم ونوادرهم وسيرهم، لكن الواقع أننا نحن العرب لم نكتسب الفصحى عن طريق السماع الصحيح للغة بل عن طريق التلقين في المدارس والذي يشوبه كثير من الأخطاء العلمية والتربوية، في حين أن كلا منا قد اكتسب لهجته سماعا في طفولته، فغدَت العامية على ألسنتنا سليقةً وغدت الفصحى لغة تمشي على ساق واحدة. كل هذا أدى إلى أن يلجأ المدرس وأستاذ الجامعة إلى التدريس بالعامية التي يحسنها لا الفصحى التي يتلعثم بها أو لا يحسن الحديث بها البتة، وبخاصة إذا كان قد تلقى تعليمه الأولي في مدارس أجنبية، وتلك أزمة أخرى يعلمها القاصي والداني. إن أزمةَ العربية ليست أزمة لغة بل أزمة هُويّة. فالعربية لغة غنية بتراثها الأدبي والعلمي الذي يمتد على ما يربو على أربعة عشر قرنا. لذا فكلنا مسئولون عما أصاب اللغة من تراجع في الاستعمال، لكن أجهزة الدولة بلا شك تتحمل الجزء الأكبر من المسئولية في الحفاظ على اللغة. ولننظر كيف استطاعت إسرائيل أن تحيي لغتها العبرية التي كانت قد ماتت على الألسنة ردحا من الزمن، في حين أننا نهمل لغة حية ممتدة عبر قرون من الزمان.
الفهم الصحيح للدين وفهم القواعد الفقهية ومعاني القرآن الكريم والسنة النبوية لن يتأتى إلا بمعرفة أصول لغتنا العربية والعلم بأسرارها وهذا ما نفتقده اليوم كيف يكون العلاج لتعود العربية لمكانتها وسابق عهدها؟
العلاقة بين علوم العربية والعلوم الإسلامية علاقة قديمة ممتدة متجددة، وكلنا يعلم أن النحو نشأ بسبب شيوع اللحن على ألسنة الناس بعد أن امتدت رقعة الدولة الإسلامية إلى بلاد غير العرب آنذاك نحو الشام وفارس ومصر. وكذلك بقية علوم العربية نشأ أكثرها خدمة للنص القرآني، وبخاصة علم البلاغة. وتاريخ التأليف في العلاقة بين أصول الفقه وأصول النحو تاريخ ممتد كذلك، وهناك من ألَّف حول ما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية؛ ولعله من نافلة القول أن الفقيه والمفسر وغيرهما من المشتغلين بعلوم الشريعة لابد أن يكون عالما بالعربية علمَ المتخصص كي يستطيع استنباط الأحكام من لغة النص الذي بين يديه سواء أكان قرآنا أم حديثا أم كلاما للفقهاء والأصوليين. ويتملكني العجب الآن إذا ما ساقني حظي العاثر لحضور مناقشة رسالة علمية في الشريعة، ولا أكاد أصدق أذني وهم يمنحون الطالب درجة الامتياز وهو الذي لا يحسن صياغة جملة عربية سليمة؛ أنّى لمثله أن يصبح متخصصا في الشريعة فيفتي الناس في أمور دينهم ودنياهم وهو الذي لا يستطيع قراءة النص الذي بين يديه فضلا عن تأويله. إن علاج ذلك الداء المستحكم لا يكون إلا بإصلاح منظومة التعليم برمتها، بدءًا بمراحل التعليم الأولى وانتهاء بمرحلة الدكتوراه ومنظومة ترقيات الأساتذة في الجامعات، وبدون ذلك نحن نحرث في أرض جرداء صماء لا تُمسك ماءً ولا تُنبت زرعًا.
ثمة علاقة قوية بين تطوير التعليم وخاصة ما يتصل بتعلم اللغات وتجديد الخطاب الديني.. كيف يمكن الارتقاء بتدريس النحو العربي والبلاغة الوظيفية بما يخدم مشروع الخطاب الديني الجديد؟
اسمح لي في البداية أن أقول إن عبارة (تجديد الخطاب الديني) قد غدَت عبارة مستهلكة مفرغة من مغزاها، فالخطاب الديني خطاب متجددٌ تبعا لمقتضيات كل عصر ومِصر، ولا شك أن تطوير التعليم -وليس تعليم اللغة فقط- أمر لازم كي تلحق أية أمة بركب الحضارة. وليس منطقيا ونحن في عصر التكنولوجيا والصورة أن يظل بعضنا يدرس النحو والبلاغة على طريقة الاستظهار والحفظ والتلقين فحسب دون إعمال العقل في ذلك النص المحفوظ وتقديمه للشداة والدارسين بطريقة تلائم روح العصر الذي يعيشونه؛ لقد غدت البلاغة في مناهجنا التعليمية ضربا من القواعد الصماء، ولم تعد تلك القواعد البلاغية تمد الطالب بالذائقة التي تجعله يميز بين شعر جيد وشعر رديء، إننا نعيش عصر التلاعب بالأفكار فهل استطاعت تلك القواعد البلاغية أن تمكن خريج الجامعة من التمييز بين الصدق والمراوغة والاحتيال فيما يقدم إليه من مواد لغوية عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي؟!
دائما ما يوجه اتهام إلى النحو العربي بصعوبته وجفافه، هل الاتهام صحيح، وأين تكمن المشكلة الحقيقية ؟
النحو علم كغيره من العلوم، وهناك من العلوم ما هو أصعب من النحو، لكن الشكوى من النحو مردّها في رأيي إلى طريقة تدريسه لا إلى ماهيته، فنحن ندرس قواعد العربية للأطفال في مرحلة مبكرة جدا، نقدم لهم قواعدَ للغة لم يكتسبوها بعد، والأَولى أن يكتسب الطفل اللغة الفصحى من خلال نصوص شعرية محببة لا منفرة، ثم يأتي النحو في مرحلة تالية بقواعده الكبرى دون تفريعاته وتقسيماته ليضبط ما نَدّ من تلك النصوص في أذهان أولئك التلاميذ، ويفسرَ ما استقام منها. كما أن قصر تعليم النحو على الضبط الإعرابي دون ربطه بالمعنى هو أحد أسباب تلك الصعوبات، فكثير من معلمي العربية يقفون عند حدود تعريف الفاعل بأنه مرفوع، ولا يهتمون بدلالة أنه من فعل الفعل مثلا. ومن صعوبات تعليم النحو إغراق الطالب بالتفاصيل والتفريعات والتقسيمات والخلاف النحوي، وتلك مسائل تشغل بال المتخصص لا الدارس العادي فضلا عن التلميذ المبتدئ.
بناء الدولة الحديثة مشروع كل مصري، هل للغة العربية دور منشود في هذا الحلم، وهل هناك علاقة بين قوة الدولة وتمسك شعبها بلغتهم والحفاظ عليها؟
اللغة وعاء الفكر، وهي أحد مقومات الحضارة، تلك مُسلَّمة لا يُماري فيها إلا جاهل، وانظر إلى أجدادنا الفراعنة كيف خلدوا أدبهم وتاريخهم وعاداتهم بلغتهم الهيلوغريفية على جدران المقابر والمعابد. لم يبدع قوم إلا بلغتهم، ومن العجب أن تُتهم العربية بصعوبتها فنهجرها إلى لغات الشرق والغرب، في حين أن اليابانيين والصينيين والكوريين -على ما في لغاتهم من صعوبة- لم يفعلوا فعلنا نحن العرب ولم يولوا وجوههم شطر الغرب ليقترضوا من لغاتهم، ولم يركنوا إلى الدَّعة والخمول، فانكبوا على لغاتهم فألفوا بها وأبدعوا، وقد أشرت من قبل كيف أن إسرائيل أحيت لغتها الميتة، فغدَت لديها سبع جامعات ضمن التصنيف الدولي لأفضل 500 جامعة في حين تدخل جامعتان عربيتان فحسب إلى ذلك التصنيف على استحياء!!
حدثنا عن الدكتور محروس بريك، النشأة – الميلاد – الأسرة ودور الوالدين – كيف اجتهدت وكان توفيق الله تعالى حليفك إلى أن صرت أستاذا كبيرا بدار العلوم وشاعرًا معروفًا؟ ومن كان القدوة للدكتور محروس بريك في حياته، ومن العلماء الراحلين الذين تفتقدهم وكيف أثروا على مسيرتكم العلمية والإبداعية؟
بداية لا أرى في نفسي ما تفضلت به علي من صفات، ولست مشهورا كي أشغل الناس بحياتي، ولولا أن ذكر شيء من تلك الحياة ربما يكون محفزا لبعض الشباب لما أجبت على هذا السؤال. وُلدتُ كآلاف من أطفال مصر في الريف، في قرية صغيرة نائية من قرى الفيوم، وعانيت ما يعانيه طفل الريف من العمل في الحقل ليل نهار بجانب المواظبة على التعلم، لكن العمل في زراعة الحقل أورثني حب الجمال والصبر والأناة وعدم العجلة في قطف الثمرة، وقد غدت تلك عادتي في البحث العلمي لاحقا، فربما واتتني فكرة بحث فظَللتُ مشغولا بها ردحا من الزمن، أقلبها على وجوهها، وأقرأ حولها، وأرعاها رعايتي لنبتة صغيرة في حقلنا، حتى إذا استوت قدمتها إلى القارئ ربما في صفحات لا تتجاوز الأربعين، وهي التي شغلتني سنين عددا. لذا تراني أفضل القليل الجيد على كثير من الضجيج، شعاري في ذلك قول ابن الرومي: (نارُ الرَّوِيَّةِ نارٌ جِدُّ مُنْضجةٍ .. وللبديهَةِ نارٌ ذَاتُ تَلْويحِ / وَقَدْ يُفضِّلُهَا قَوْمٌ لِعَاجِلِها .. لكنَّهُ عاجِلٌ يَمْضي مع الريحِ) التحقت بمدارس التعليم العام، وكان المعلم آنذاك مشغولا بتلاميذه لا يبخل عليهم بوقته وجهده وعلمه، لم تكن تلك المدارس قصورا فخمة، ولم يكن أثاثها أنيقا، ولا حوائطها مرصّعة باللوحات الفنية، لم تكن الدولة يشغلها البنيان لكنها كانت مشغولة بالإنسان، كان المدرس إنسانًا، والعامل البسيط إنسانًا، كان المعنى أفخم من المبنى، تعلمنا على أيدي أولئك المدرسين المغمورين كثيرا من معاني الحب والتفاني والاحترام والانضباط فضلا عن العلم وحب الخير والجمال. لم يعكر صفو هذا الجمال سوى نظام الثانوية العامة الذي ما زال قاسيا ومخيفا لطلابنا في تلك المرحلة الحرجة من العمر. كان أبي وعمي وأقاربي يقدرون العلم ويودون أن أصبح ذا شأن، كان تشجيعهم لي لا حد له، يلقبونني بالدكتور منذ الصغر، كان لكلماتهم وتشجيعهم المتواصل وتشجيع أساتذتي في المدارس أثر عميق في نفسي، ومحفز من محفزات تفوقي. كان أبي يود -كغيره من الآباء في مصر- أن ألتحق بكلية الطب، لكن عدوى الدروس الخصوصية قد بدأت تتفشى في المدارس على حساب الشرح داخل الفصل، وأبَيتُ أن أحصل على درس خصوصي إحساسا مني بدونية من يعطيها ومن يُعطاها، كان من المتوقع أن أحصل على درجات لا تؤهلني للالتحاق بكلية الطب. أحببت قراءة الروايات والمقالات والشعر، وتعرفت من خلال تلك القراءات على أعلام الأدب العربي وبخاصة في مصر في العصر الحديث بدءا بطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وانتهاء بعدد من الأدباء الشبان. عزمت على أن أتخصص في اللغة العربية حبا في الأدب. التحقت بدار العلوم بالقاهرة عن رغبة وحب؛ إذ تعرفت إلى كثير من أعلامها عبر القراءة والإذاعة، قبل أن ألتحق بها عرفت فاروق شوشة ومحمود حسن إسماعيل وطاهر أبو فاشا وأحمد هيكل وأبو همام وكمال بشر وعبد الصبور شاهين ومحمد حماسة عبد اللطيف وغيرهم. لم يكن همي في سنوات الجامعة أن أتعلم من أجل الحصول على درجة مرتفعة فحسب، بل من أجل الحصول على مزيد من المعرفة في الأدب واللغة والنقد والبلاغة. في دار العلوم أدركت جيلا من كبار الأساتذة نهلت منهم المعرفة ودروسا لا حصر لها من دروس الحياة، أذكر منهم وأرجو ألا تخونني الذاكرة: محمد حماسة وشفيع السيد وأحمد كشك وتمام حسان وكمال بشر وعبد الصبور شاهين وأبو همام والطاهر مكي وعلي عشري زايد وحسن طبل وسلوى ناظم وعبد الحميد مدكور وحسن الشافعي وحامد طاهر ومحمد بلتاجي حسن وأحمد شلبي وغيرهم. في مرحلة تالية تعلقت أسبابي بأستاذين عظيمين هما سعد مصلوح ومحمد عبد المطلب. لكن تبقى علاقتي بأستاذي العظيم الراحل الدكتور محمد حماسة علاقة شديدة الخصوصية؛ إذ أشرف علي في مرحلتي الماجستير والدكتوراه فكان نعم المعلم والأب، تعلمت منه كيف يكون الحلم وحب الناس والكرم وقول الحق والنفور من الظلم وأهله، سلكت طريقه في تحليل النص الشعري، وربط النحو بالدلالة من جهة والنص من جهة أخرى، والنظر إلى علوم العربية المتنوعة على أنها كتاب واحد؛ فأفدت في البحث اللغوي من علوم البلاغة والنقد والأدب والأسلوبية وعلم النص فضلا عن علم التفسير.
نصيحة أو وصية توجهها لكل محب أو حامل للغة العربية؟
العربية لغة القرآن، وهُوية الأمة، وهي تواجه اليوم وكل يوم تحديات ومعوقات، وأنتم سَدَنتها الأُمَناء على رسالتها، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائمُ.
تحدثتم في مقالاتكم بمجلة الأزهر "نظرات في بلاغة الحوار النبوي" حول منهجية الرسول الكريم في حواره واستعماله للغة العقل والإقناع، لماذا تغيرت لغة الخطاب اليوم وأصبحنا نمثل الفشل الكبير في كل حواراتنا مع الآخر على كافة المستويات؟
لعل هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها مجلة الأزهر تغدو كتابًا يوما ما؛ فذلك ما أرجوه. أشرت في تلك المقالات إلى أسس الإقناع في الحوار النبوي الشريف، ويكفي أن ألفت الانتباه إلى مثال من أمثلة تلك الحوارات؛ إذ أهدى اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فلم يأمر بقتالهم آنذاك، بل حاورهم حوارا طويلا؛ وأقام عليهم الحجة ببيان كذبهم وحقدهم وأنهم لم يتبعوه حسدا من عند أنفسهم. لك أن تتخيل أن ولي الأمر يتعرض لمحاولة اغتيال من فئة من فئات المجتمع، ماذا سيكون رد الفعل تجاه تلك المحاولة؟ وقارن بين رد فعلنا القائم على محاولة رد الصاع صاعين ورد فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته القائم على محاولة جر الخَصم إلى اتباع الحق عن طريق الإقناع بالحوار الهادئ. إن أخطر ما نعانيه نحن - العرب - اليوم هو ذلك التناحر السياسي وإعجاب كل ذي رأي برأيه وتوظيف وسائل الإعلام في بيان معايب الطرف الآخر بالباطل قبل الحق. كما أننا نعاني من فجوة كبرى في درجة التعليم فتعليم حكومي يعاني من قلة الموارد وعقم في الوسائل وضعف في النتائج، وتعليم أجنبي يستنزف الثروات ويثقل كواهل المصريين ولا يهتم بمظاهر هويتهم من اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا، إن هذه الفجوة في درجات التعلم تؤدي إلى فجوة في الحوار وفشل في أول مواجهة، وتعمق الهوة بين فئات المجتمع، فازداد الانقسام الطبقي والفكري والوجداني. أضف إلى ذلك غياب دور المؤسسات في تجريم الحوار الذي يشعل الفتن وغياب التشريعات التي تحاسب وسائل الإعلام أو تغييبها عن عمد حال وجودها.
أرى إجماعا لدى كافة النقاد والمثقفين حول الدوي الهائل الذي أحدثه ديوان "قبل الشتات"ما السبب ؟
لا شك أنني قد سعدت بذلك القبول لديواني الأول (قبل الشتات) في الوسط الثقافي، وأعتقد أن قبول القراء والنقاد لهذا الديوان مردُّه إلى الصدق الفني ووضوح اللغة وغلبة الطبع على الصناعة الشعرية واستعمال تقنيات فنية ترقى بالقارئ دون أن تتعالى عليه؛ فليس هناك غموض وادعاء ولا قعقعة إيقاعية دون طائل، بل توظيف للرمز والإيقاع والكلمة والمجاز في خدمة التجربة الشعرية، وإذا كان المتلقي ينفر بطبعه من الشعر المصنوع والكلمة المستجلبة والمعاني الملتوية والصور المبهمة والمشاعر الغائمة، فإن الناقد الحقيقي ينفر من ذلك كله أيضا بما أوتي من أدوات تؤهله للحكم على مدى جودة النص ورداءته. إن الغموض والإبهام الذي غرضه التعالي على القارئ والتعمية على الناقد لن يفيد قضية المبدع؛ وفي المقابل أيضا لن يعيش شعر يقوم على الصورة الساذجة والكلمة المبتذلة والمعاني البلهاء. إن الإبداع الحقيقي هو الذي يعبر عن النفس الإنسانية آمالها وآلامها تعبيرا فنيا ليرقى بها في مدارج الجمال والكمال فتطرب له النفس ويخفق له القلب وتهتز له الروح، الفن الحقيق هو الذي يستطيع أن يُبكي المتلقي ويسعده ويدهشه ويملك عليه أقطار نفسه.
(النحو والإبداع)، كانت أطروحتكم الطيبة لنيل درجة الماجيستير، ولكن هل إجادة النحو والتبحر فيه شرط رئيس لأي موهوب يريد أن يكون كاتبا قصصيا أو مؤلفا للروايات، أو حتى شاعرا؟
للنحو العربي مستويات في درسه وفهمه؛ هناك مستوى الصحة اللغوية، وهو ما لابد منه في كل عمل لغوي إبداعيٍّ أو غير إبداعي، وهناك مستوى آخر أعلى وأرقى هو مستوى الإبداع في استعمال اللغة، وذلك باستغلال الإمكانات التي يتيحها النحو للأدباء والكتاب، فهناك الحذف والذكر، والتقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والتعبير بالجملة الاسمية الذي يختلف بالطبع عن التعبير بالجملة الفعلية، إلى غير ذلك من إمكانات، وللمبدع أن يختار من بين كل ثنائية من هذه الثنائيات ما يتلاءم مع المعنى الذي يود التعبير عنه. إنَّ شاعرًا لا يعرف الفروق بين وجوه التقديم والتأخير والحذف والذكر ونحوها، فيأتي بهذه في موضع تلك، لا شكّ شاعرٌ ذو بضاعة رديئة وسلعة كاسدة تموت في مهدها. ويجدر بنا هنا أن نطلع على نص صريح في هذا الباب للناقد المعروف الدكتور مصطفى ناصف –رحمه الله- حيث يقول: (النحو ليس موضوعًا يحفل به المشتغلون بالمُثل اللغوية, والذين يرون إقامه الحدود بين الصواب والخطأ, أو يرون الصواب رأيا واحداً, النحو مشغله الفنانين والشعراء, والشعراء والفنانون هم الذين يفهمون النحو, أو هم الذين يبدعون النحو, فالنحو إبداع).
كان لكم تصريح بأن البرامج الإذاعية مثل برنامج (لغتنا الجميلة) لفاروق شوشة، و(قطرات الندى) لسلوان محمود حسن إسماعيل، شكّلا وعيكم ووجدانكم في الصغر، كيف تقيم الدور التربوي والتعليمي للإذاعة والتليفزيون اليوم، هل يقومان بواجبهما المجتمعي تجاه الوطن؟
كم يؤسفني أن تتوارى أمثال تلك البرامج الجيدة خلف الرداءة التي باتت تزكم أُنُوفنا. إن الفوضى التي نشهدها في القنوات الفضائية، وغياب الرقابة على المحتوى الذي يقدم فيها، وتراجع القنوات الحكومية على حساب القنوات الخاصة المؤدلجة؛ كل أولئك أدى إلى أن يتراكم الغثاء، ففسدت أذواق الناشئة. لقد كنا ونحن صغار نستنشق عبير تلك البرامج، وننصت إليها كل يوم، وهي في أغلبها برامج إذاعية، لكنّ الإذاعة الآن تراجعت، وحل محلها التليفزيون ببرامجه التي غلب عليها الضجيج والصخَب و(الشو الإعلامي)، والكيد السياسي، دون رقيب أو حسيب. وفي كل ذلك خطورة على مستقبل هذا الوطن. ماذا ننتظر من طفل تربّى على متابعة أمثال تلك البرامج؟ هل ننتظر منه أن يكون شاعرًا أو مفكرًا أو عالمًا؟! أو حتى ننتظر منه أن يكون إنسانًا سويًّا!! إن وسائل الإعلام من أخطر الوسائل، ولن يكون المستقبل مبشرًا بالخير ما لم تكن هناك رقابة حقيقة على محتويات وسائل الإعلام، وتفعيل لميثاق شرفٍ إعلاميٍّ حقيقي، وما لم يكن ثمّةَ تصعيد للكفاءات الحقيقية إلى الصف الأول في شتى وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.
هل أنت راض على حال اللغة العربية اليوم لدى طلاب التعليم الجامعي أو تلاميذ التعليم الأساسي، وما العلاج؟
من المعلوم أن اللغة وعاء الفكر، ومدارسنا الآن تعاني من التخلف الفكري والتربوي، وما لم تتدخل الدولة في تحسين منظومة التعليم، وخاصة التعليم الأساسي، فستظل تلك المدارس تقذف إلى الجامعة بأجيال من أشباه الأميين، لقد كان الطالب في زمنٍ مضى عندما يلتحق بدار العلوم –على سبيل المثال- يُجرى له اختبار قبول هو أشبه باختبار لمتخصص في العربية، ولو ذهبنا نعرض هذا الاختبار على خريجي أقسام اللغة العربية الآن لما نجح فيه إلا القليل! إن اكتساب الطفل للّغة أسرع وأيسر من اكتساب الطالب الجامعي لها، وقد أهملت الدولة المدارس الأساسية واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ فغدت لدينا مدارس دولية أجنبية تعتمد الإنجليزية لغةَ تعليم وتعلّم، فأنّى لتلميذ نشأ في حضن الإنجليزية أن يكتسب العربية في مرحلة الجامعة وهو لا يستطيع التفرقة بين الفعل والاسم والحرف؟!
إن العودة إلى حفظ القرآن وتعلّم الخط العربي في (الكُتّاب) هو السبيل الحقيقي لاكتساب العربية في سِنّ مبكرة، ولا يظنّنَّ ظانٌّ أن ذلك رِدة عن تقاليد العصر، فليس هذا رأيي فحسب، بل هو رأي كثير من علماء العربية وعلماء التربية، وهل يستوي طفل معجمه آلاف الكلمات وطفل آخر معجمه اللغوي ضَحْل، يعاني في البحث عن كلمة يعبر بها عن مشاعره وآرائه؟!
لن يتحقق للغة العربية مجدها وعزها ما لم نشعر بقيمتنا نحن العرب في هذه الحياة، عندما نصنع فنسمي ما نصنعه بكلمات عربية، وعندما نؤلف ولا نكتفي بنقل الأفكار فنصوغ مصطلحاتنا بلسان عربي مبين، عندما تتحد الأمة العربية على حب العربية وإن اختلفت مشاربها السياسية، عندما يتحدث العرب اللغة العربية الفصحى في مؤتمراتهم، عندما تصبح لافتات الشوارع بالعربية الفصيحة لا بالحرف الأجنبي المُجتلب أو العامي المبتذل، عندما تؤمن حكوماتنا بأن اللغة هي وعاء الفكر ومرآة النفس وأنها جزء من هوية الأمة.
أثارت دراسة نقدية عن ديوانكم "قبل الشتات" للدكتور مصطفى أبو طاحون، أسئلة عديدة حول تجليات الوطن لديكم، كيف يرى الدكتور محروس الوطن في شعره؟
الوطن في شعري هو الوطن في حياتي، هو مصر (أم الدنيا وحاضرة العالم) كما وصفها ابن خلدون، الوطن هو مصر العظيمة بشعبها وأدبها وكُتّابها وعلمائها وأزهرها وأهرامها وتاريخها المجيد، هو النيل، هو هذه الأرض الطيبة، الوطن هو ملامحنا، الوطن هو حبنا وحزننا، هو فرحنا لحظة النصر، ودموعنا لحظة الانكسار، الوطن ليس مجرد بقعة من الأرض نعيش فيها، الوطن امتداد عبر الزمن، وعقول جبارة حملت مشاعل النور إلى العالم. الوطن هو هذا العناق الأبدي بين المآذن والكنائس، هو هذه الأمة الواحدة بمسلمِيها ومسيحِيِّيها أمَّةً واحدة في الشدة والرخاء. وعلى قدر عظمة هذا الوطن وعلى قدر الحب لهذا الوطن يكون الألم عظيمًا مما نعانيه من تأخر وتشرذم وانقسام. لكن التاريخ يثبت أن مصر تستطيع النهوض كالمارد الجبار في بضع سنين، بفضل مثابرة هذا الشعب وإخلاصه وحبه لوطنه؛ ومهما سرى في جسم هذا الوطن من وهْن، فليست الروح تلِينُ أبدًا.
دائما ما تمثل كلية دار العلوم جذوة الشعر اللغوي والفلسفي في مصر والعالم العربي، ترى هل ما زالت هذه الشعلة متقدة أم أن الأزمات الحالية بمصر أثرت على حال الثقافة بصورة كبيرة؟
نحن نحفظ هذه المقولة (لا شيء يجعلنا عظماء غيرُ ألمٍ عظيم)، والألم الذي تعيشه مصر الآن أشبه بألم المخاض الذي سيَهَبُ الحياة جيلا جديدًا متميزًا من المثقفين والكتاب والمفكرين، و(دار العلوم) خلية من خلايا هذا الجسد العظيم، تعاني لمعاناته، وتتألم لألمه. إنّ حُلم أي شاعر أو كاتب أن تُنظم له دار العلوم ندوة أو أمسية، لقد لمستُ ذلك بنفسي عندما كنت مسئولاً عن (جماعة الشعر) بدار العلوم، كان الشعراء والكتاب يتلقون دعوة دار العلوم ببهجة وسعادة غير خافية، تراها في أعينهم وتسمعها في كلماتهم، لقد شاركتُ في ندوات شعرية في كثير من البلدان العربية، لكنني لم أجد جمهورًا يعي الشعر كما يعي الدراعمةُ الشعر، وقِس على الشعر بقية الأنشطة الثقافية والمؤتمرات العلمية. ما زالت دار العلوم تُخرّج كتّابًا وشعراءَ ومفكرين، وهناك جيل من الشباب أعرفه جيدًا له دور كبير في الساحة الأدبية، وهناك جيل درعمي آخر يتشكل الآن سيكون له دور أكبر. يكفي أن أقول لك إن العام الماضي قد شهد في مصر ميلاد ما يربو على عشرة أعمال إبداعية لكُتّاب وشعراء دراعمة، وأحدث أكثر هذه الأعمال الإبداعية زخمًا ثقافيًّا، ولقيَ قبولا من الجمهور والنقاد على حد سواء. وهناك جيل آخر من العلماء والنقاد والمترجمين الدراعمة بدأ يغزو الساحة الثقافية بقوة، وأغلب هؤلاء من الشباب، ولولا ضيق المقام لذكرت لك أسماء بعضهم. حفظ الله مصر وحفظ دار العلوم وحفظ كل مؤسسة تعمل من أجل صالح هذا الوطن العظيم.