الأستاذ الدكتور أحمد عبده عوض
الداعية والمفكر الإسلامى
من صفات البيوت الحسنة ومنهاجها الرباني تركها ما لا يعنيها فلا غيبة ولا نميمة ولا تطلع لما في أيدي الناس ولا حسد ولا تنافس في الدنيا، إنها بيوت تستظل بالرضا بقضاء الله وقدره وشكر الله على نعمائه والعلم العلم اليقيني أن ما اختاره الله هو خير في الدنيا والآخرة.
إنها البيوت التي تشكر الله في السراء والضراء، ولا تشغلها أمور دنياها عن أمور دينها ..رضا الله غايتها وعبادة الله حياتها والانشغال بالله منهجها.ورد في الحديث الصّحيح الذّي يضع حدودًا راقية للتّعامل مع الخلق كلّهم حين قال النّبي صلّى الله عليه وسلم ((من حسن إسلام المرء تركهُ ما لا يعنيه)) ) حديث صحيح) وهذا الحديث أحد أعمدة الآداب الإسلامية ؛ فقد قال العلماء أن جِماع آداب الخير و أزمّته تتفرّع من أربعة أحاديث : ((من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) (رواه البخاري ومسلم) .
((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) حديث حسن رواه الترمذي وغيره .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن رجلًا قال للنّبي صلّى الله عليه وسلّم : أوصني ، قال صلّى الله علية وسلم ((لا تغضب)) فردّد مرارًا قال: ((لا تغضب)) رواه البخاري.((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) (رواه البخاري ومسلم) هذا الحديث دعوةٌ لـلتّعامل مع النّفس والآخرين، وقد أرشدنا فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلى الطّريق الذّي يبلغ به العبد كمال دينه، وحسن إسلامه، وصلاح عمله، فبيّن أن ممّا يزيد إسلام المرء حُسنًا وكمالًا لإسلامه، أن يدع ما لا يعنيه ولا يُفيده في أمر دنياه وآخرته فـلا يضرّ نفسه بالإساءة لها بارتكاب المحرّمات لأنّها لا تعنيه ولا يؤذي الآخرين بالتّعدي عليهم في القول والفعل، ويبتعد عن التّدخل في شؤونهم بلا داع.
يترك فُضول الكلام، ولغو الحديث؛ لأنه يتعلق بجارحة خطيرة، ألا وهي جارحة الّلسان ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ)) أَوْ قال: ((عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِى النَّارِ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)) ) حديث صحيح) فالغيبة والنميمة والبهتان كلّها لا تعنيه وتُثقله بأوزار عظيمة، {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
وكذلك الحسد والبغضاء وعدم حبّ الخير لأخيه المسلم، والسّبّ والشّتم والسّخرية لا تعني المحسن فلا يفعلها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ
وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11].المحسن يترك كثرة الأسئلة والاستفسار عن أشياء لا تعنيه، وبلا داع فقد نُهينا عن هذا في الحديث: ((وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال)) صحيح ومعنى ((وكَرِهَ لكم قيل وقال)) هو النّهي عن حكاية أقوال النّاس، والبحث عنها ليخبر غيره ، فيقول : قال فلان كذا وقيل لفلان كذا، وكثرة السّؤال يشمل كل أنواع السّؤال، فيدخل فيها سؤال المال لنفسه من غير حاجة، والسّؤال عما لا يعنيه.
والمُحسن يشتغل بما يعنيه ويُفيده ويجلب له الخير في الدّنيا والآخرة بما ينفعه وينفع إخوانه
ويترك فضول النّظر، لما في التّطلّع إلى متاع الدّنيا من إفساد للقلب فلا ينظر للدّنيا وينشغل بها وإلى متاعها من المآكل والمشارب والبيوت والفتن المتنوّعة {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] فلا يكون تفكيره الدّائم في ليله ونهاره في البحث والتطلّع لزهرة الدّنيا.والمُحسِن يترك فضول الظّنون بالقلب والحكم على النّاس وعلى نواياهم وتصنيفهم حسب ما يراه من ظاهرهم إلى صالح وتقيّ وفاسق فهذا مما لا يعنيه ولم يؤمر أن يشقّ على قلوب البشر وكم من النّاس يحكمون على نيّات النّاس بغير دليل بناء على سوء ظنٍّ يُلقيه الشّيطان في قلوبهم.
المُحسن الذّي يترك ما لا يعنيه هو من لا يرى ما يضرّه ولا يسمع ما يضرّه ولا يتكلم إلا بما ينفع {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]. الإحسان ((أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)) ) متفق عليه).
فيعبد الله مُستحضرًا قُرب الله منه واطّلاعه عليه ومراقبته لأحواله وترك كلّ ما لا يعنيه في الإسلام، واشتغل بما يعنيه فيه فيصل بهذا لدرجة الاستحياء من الله ويترك كلّ ما يُستحيا منه فإذا تكلّم، يتذكّر سمع الله له، وإذا سكت، يتذكّر نظره إليه {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80].
وإذا حسن إسلام المرء، ترك ما لا يعنيه من المحرّمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التّي لا يحتاج إليها، فهذا كلّه من الأمور التّي لا تعني المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ درجة الإحسان وكان حذرًا من مغبّة التّكلّم فيما لا يعني فخطره عظيم؛ كما جاء في الحديث: ((قبض رجلٌ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالوا : هنيئًا لك الجنةُ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : وما عِلمُكم لعله قد تكلَّم فيما لا يعنيهِ أو منعَ ما لا ينقصُه)) .
إن المرء ينبغي له أن يهتم بما فيه نجاته وخلاصه، وأن يقصر اشتغاله على ما فيه سعادته وفلاحه، وذلك منحصر فما يجلب له مصالح دنياه وآخرته، وفيما يدفع عنه مفاسدهما، وقد وصف الله عباده المؤمنين المفلحين بالإعراض عن اللغو فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، وقال في وصف عباد الرحمن: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان:72]، وفي إعراضهم عن اللغو وعن مجالسه إشارة إلى ابتعادهم عن الاشتغال بما لا يعنيهم، فإن المؤمن القوي يكتسب قوته من حرصه على ما ينفعه، مع استعانته بالله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم - : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز))) إسناده صحيح).
كل أمر لا تعود على العبد منه منفعة لدينه، ولا لآخرته فهو مما لا يعنيه، وكل أمر يخاف من تركه فوات أجر أو بارتكابه حصول وزر فهو مما يعنيه.
وبعبارة أخرى: فإن كل ما يقرب إلى الله عز وجل فهو مما يعني، وما لا يقرب إليه فهو مما لا يعني. نسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن استخلصهم لعبادته والانشغال به وبمرضاته عن فضول الدنيا وزينتها.
بيــــــــــــوت تترك ما لا يعنيـــــــــــــها
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة