من الحياة .. "حياتى وأنا حُرّ"

قصص وروايات
طبوغرافي

بقلم:

المخرج/ عبدالرحمن سامي

عبدالرحمن سامي

رنَّ هاتف وحيد منبهًا له أن هناك رسالة تقبع في انتظاره لعله يُلقي عليها نظرة، ولكنه كان غير قادر على تحريك قدميه أو حتى فتح عينيه من شدة التعب.. وتثائب في كسل ورفع رأسه قليلاً فبدى شعره ومنكوشًا ذا قَصَّة غريبة بألوان غريبة.
نادى وحيد على أمه في عصبية وبصوت متقطع متحشرج يملأه أنين مبحوح لتُحضر له الهاتف الذي كان على مقربة منه: يا أم وحيد أحضرى لى الهاتف.. من خارج الغرفة ردت أمه: (حاضر يا لولو).. ودخلت مسرعة تجاه الهاتف وفي يدها قطعة ثياب.. وتناولت الهاتف وتقدمت به لوليد: (خذ يا حبيبي)
أخذ وحيد الهاتف في تكاسل وبطء شديد وحاول أن يدقق في الرسالة القادمة بعينه المتورمة، حاولت أمُّه أن تريه ما تحمله لابنها في عصبية أزاح وحيد يدها الممدودة له بعنف وقال: ليس هذا وقته يا ماما، ألا ترين شكلى؟ ما زلت مستيقظًا من النوم منذ لحظات.. لا أستطيع أن أفتح عيني وأنت تقولين لي (بنت البواب وأم الخير)!! وعاد ليستكمل قراءة الرسالة ثم ترك هاتفه بجانب طفاية السجائر المليئة بأعقابها بجواره على السرير.

 
انسحبت الأم بهدوء ودموعها تملأ عينيها من رد فعل ابنها العاقّ المدلل، الراسب في الثانوية العامة لعدة سنوات.. المسلوب الإرادة والشعور والعقل.. الأسير لملذاته ولنزواته.. والمنساق وراء العادات الغربية في ملابسه، وطريقة تسريح شعره وعادات لا تتناسب مع تقاليد مجتمعاتنا الشرقية، كان لا يصلي ولا يرحم المحتاج، وما كان يصوم رمضان ولا يستجيب لنصائح والده.. اعتاد على سماع الموسيقى والأغاني الغربية الصاخبة حتى صار حافظاً لمعظمها، وأدمن على السجائر والمخدرات، كانت أمه في الخمسينات من عمرها.. متدينة تراعي الله في تصرفاتها.. احترفت الخياطة من أجل تحقيق رغبات وحيدها وحيد التي لا تنتهي، وكانت تُذلّ نفسها لتحقيق ما في نفسه، وتحرق نفسها لينعم بالسعادة، وتهين نفسها لكي تكرمه، ولم تشتكِ لأحد بسببه يوماً بالرغم من قسوة قلبه.. وكانت تخفى ذلك عن زوجها الرجل المسنّ المتوسط الحال المحافظ على الصلاة في أوقاتها في المسجد، يقيم الليل بالسنن والنوافل، كان دائم الدعاء لولده عسى أن يهديه الله. اعتدل وحيد بصعوبة من وضعه وبتثاقل شديد قام بالاتصال بشخص ما: لم أفهم رسالتك.. لن أستطيع الحضور الآن لأنى نمت بعد الفجر، ولم أكد أغمض عينىّ فجائتنى رسالتك.. وأبى لا يتركنى أفعل كل ما أريد بسهولة.. سأحاول أن أحضُر بعد ساعة.

 
كانت أمّ وحيد تجلس في صالة المنزل تقوم بتركيب أزرار الفستان، وتقدمَ وحيد وهو مرتدٍ ملابسه الغريبة وبشعره المنكوش، وممسك بهاتفه المحمول متصل به سماعة أذن .. وقال لها: أم وحيد، عندى موضوع مهم وأريد نقودًا الآن.. التفتت إليه وهي تضع يديها في كيس نقودها وقالت: يا حبيبي أنت لم تنم بعد، وتريد أن تخرج بدون أن تأكل أى شيء.. رد وحيد بدلال وهو يأخذ كل ما في داخل الكيس: أعطينى النقود .. وانطلق مسرعاً ورفع صوته بأغنية أجنبية معناها (دى حياتى وانا حر).

 

شاب يرتدى سماعة أذن
وفي لهفة نادت عليه أمه وقالت: لا تتأخّر يا وحيد.. والله صوتك جميل، غنِّ يا وحيد واعتنى بنفسك انطلق وحيد من باب العمارة باندفاع وكان جسده يهتز لشدة إرهاقه وانهماكه في الأغنية التي كان يرددها بصوت مرتفع.. وفي لحظة أتت سيارة من خلفه مسرعة وصدمته صدمة قوية بالرغم من تحذير السائق له بصوت نفيره العالي.. ولشدة إرهاق وحيد وعدم تركيزه وصوت الأغنية التي كان يسمعها وترديده لها لم يسمع صوت النفير.. طار في الهواء وسقط على رأسه وأخذت تنزف بشدة.. وتجمّع الناس من حوله لإنقاذه.. وكان بينهم شاب يبدو على سمته أنه متدين ومثقف وحاول أن يلقنه الشهادة قبل أن يسلم روحه لبارئها.. ولكن لم يستجب وحيد وظلت شفتاه تتمتم بجمل غير مفهومة، فقرّب الشابّ أذنه من فمه لسماع ماذا يقول، فوجده يغني بصوت منخفض (دي حياتي وأنا حر) وأسلم روحه.. اعتدل الشاب في جلسته وقال: أستغفر الله العظيم.. (يبعث كل عبد على ما مات عليه) صدق رسول الله.