أجدادنا الطيبون : وسنوات إخلاص مع الله

قصص وروايات
طبوغرافي

كنت أراه ملازمًا للمسجد فى كل وقت أهرب فيه من جهامة الدنيا ملتمسًا رائحة الآخرة، وأنا صغير كان مسجد العارف بالله ملاذى الذى أغسل فيه هجير آلامى بغرفات ماء الوضوء، فإذا دخلت من باب المسجد وجدته جالسًا، وربما جاء هو فوجدنى أجلس وحيدًا متفكرًا حينًا، وتاليا لآيات الله حينًا، فيرمى على نظرة إشفاق، ثم تتلاقى ألفتنا، وربما باح لى عن حكايا سنين طويلة، كان وجهه الأبيض النضر ينم عن سنوات إخلاص مع الله، كل البلدة كانت تشهد له بالطيبة ، والناس تعلم أنه لا يعرف أن يخبئ فى صدره ضغينة ولا سوءًا.

ذات يوم حدثنى عن شبابه البعيد، وقال لي: إنه لم يكن بهذه الطيبة، حدثنى عن زمن الفتوة، فابتسمت وابتسم، ثم لاحت فى عينيه نظرة ندم على زمن بعيد تولى، ولمحت فى وجهه ملامح التائبين الصالحين، كنت أحسن بسعادة بالغة، وهو يقص لى عن زمن لم أره عن قصر حيدر فى زمن الطيبين والجبارين.

فى يوم من الأيام جاء من بيته خلف مسجد العارف، فوجدنا نغسل أرض المسجد بالماء، وننفض التراب عن فرشه، كنت أنا ومجموعة من أقرانى الصغار نتحدث فيما بيننا أن تراب المساجد هو مهر الحور العين، أعجبه اجتماعنا على طاعة الله، ومد يده ليغرف غرفة من الأجر، ويحظى بمهر إحدى الحوريات.

فى اليوم التالى كان المسجد مزدحمًا، وما إن لمح أبى يدخل من باب المسجد حتى ناداه بصوت عال، مثنيًا عليَّ حتى شعرت بالخجل، ولمحت فى عينى أبى سرورًا ورضًا يحاول أن يخفيهما.

مجالس طوال جمعتنا، وأحاديث كثيرة جمعت بيننا، أذكر أنه أوصانى وصية، وقال لى تذكرها دائمًا .
تفلتت الكلمات منى فى دوامة الحياة، وتباعدت الأيام الجميلة عنى فى رحله المثابرة على الإمساك بشعاع فقدته، وواحة خضراء غابت عن عيني.

فى إحدى أيام عودتى من دروب الاغتراب سمعت صوت ابن عمى عبد الله يخترق دروب قصر حيدر، ويعبر فوق أسطح البيوت، ويصافح جريد النخيل حتى لامس أذني: مات الرجل الطيب، مات الحاج محمدين أبو هلالي.