فصل الخطاب: ابن أم مكتوم .. والقانون السماوى(2)

قصص وروايات
طبوغرافي

بقلم : د. محمد الشوبكى

المتخصص في الحوار القرآني

تكملة للمقال السابق:
تبدأ سورة ( عبس ) بعتاب للحبيب صلى الله عليه وسلم لانشغاله عن ابن أم مكتوم، فى صورة لمسات سريعة، وفى عبارات متقطعة، وفى تعبيرات كأنها انفعالات، ونبرات وسمات ولمحات حية! وهذا العتاب فى حقيقته ليس سوى تنبيه وإرشاد من المولى عز وجل لرسوله؛ ليقرر من الحادث المفرد حقيقة مطلقة. وهى أن الميزان ميزان السماء لا ميزان الأرض.

ومن أراد معرفة نتيجة الميزان فليقرأ آخر السورة؛ ليعرف مصير من جاء يسعى وهو يخشى، ومصير الذى استغنى وأعرض عن الهدى.

محور السورة ومرتكزها الأساس هو " الأعمى ". ففى الوقت الذى نجد فيه العبوس والتولى بداية للسورة، تأتى الخاتمة بالوجوه المسفرة المضيئة المتهللة بشرى، بل الضاحكة المستبشرة، وبالوجوه التى تعلوها غبرة الحزن والحسرة (وهو كناية عن تغير وجوههم)، ويغشاها سواد الذل والانقباض.

مدار السورة – إذن – من المفتتح للنهاية يدور حول تغير ملامح الوجه، وكل ذلك لأن الرجل الفقير كان أعمى. ومن هنا سماها ابن العربى فى أحكامه بسورة " ابن أم مكتوم ".

سر الحماسة
سورة "عبس" سورة مكية عدت الرابعة والعشرين فى ترتيب النزول، وسبقتها فى النزول سورة "النجم" التى كشفت للرسول عن حقيقة العالم الأخروى، وما ينتظر المؤمن والكافر من ثواب وعقاب.

طاقة إيمانية كبيرة بعد رحلة الإسراء والمعراج حوت نفسه – صلى الله عليه وسلم – وجددت نشاطه ودوافعه لهداية الناس، ومن ثَمَّ جعلته يدعو عظماء قريش بلهفة وتشوق راجيا وطامعا فى إسلامهم، ذلك هو سر حماسة النبى – صلى الله عليه وسلم – فى دعوة كبراء مكة، فهم أهله وهو نبيهم نبى الرحمة للناس كافة.

وهنا يأتى العتاب – من خلال سورة "عبس" التالية للنزول بعد سورة النجم – لا ليخفف من طاقته الإيمانية، بقدر ما يخفف من حرصه على دخولهم فى الإسلام (وما عليك ألا يزكى). فالرسول ليس عليه إلا البلاغ، أما دخولهم فى الإسلام فمسألة أخرى تخضع لمن فتح الله قلبه وصدره لنور الإسلام.

ثم تنزل سورة بعد العتاب السابق فيها البشرى التى لم يرد فى القرآن مثلها من قبل ومن بعد، إنها بشرى تعادل عمر الإنسان طاعة وعبادة.. إنها ليلة خير من ألف شهر.

وعلى قدر العتاب كانت البشرى، فكلمة " كلا " الرادعة الزاجرة ناسبها أن تكون البشرى كبيرة وعظيمة، حيث لم يرد فى حق النبى – صلى الله عليه وسلم – بالقرآن كله عتاب ب " كلا " غير هذه المرة، ومثل ذلك البشرى التى لم تتكرر أيضا .. إنها ليلة القدر.