فَضْفَضَةٌ أَدَبيَّةٌ: أبو نواس.. الماجن يتوب !

قصص وروايات
طبوغرافي

د. شعبان عبد الجيد مدرس الأدب والنقد،

 بكلية التربية جامعة مدينة السادات

عاش أبو نواس الحسن بن هانئ بين عامي 145 و 198 هـ وكان واحداً من أكبر شعراء العصر العباسي الأول . ولد في خوزستان و نشأ بالبصرة و تألق نجمه في بغداد. وصفه بعض القدماء بأنه أظرف الناس منطقاً و أغزرهم أدباً و أقدرهم علي الكلام وأسرعهم جوابا و أكثرهم حياء .

كان أبو نواس مدلَّلاً و نرجسياً لم يعانِ شظف العيش و لم يتحمل أعباء الحياة. عاش كولد و ظل كولد حتى انتهي . اعوجت سيرته شاباً ورجلاً ، وساءت سمعته قديماً وحديثاً . اشتهر باللهو والمجون والعربدة والتهتك ووصلَنا عنه أنه كان خليعاً سِكِّيراً يجاهر بالذنب ويفاخر بالمعصية ويستهتر بالدين يشبِّب بالنساء ويتغزل في الغلمان ويتعصب للعجم علي العرب.

وإذا كان صحيحاً أن الأدب هو الترجمة الذاتية كما يذهب بعض النقاد وأن سيرة حياة الشاعر هي مجموع قصائده علي حد تعبير الشاعر الروسي يوجين يوفتشنكو فإن ديوان أبي نواس يصور لنا حياة عابثة لاهية ويعرض علينا رجلاً عربيداً ومستخفاً. وهو وثيقة مكتوبة واعترافاتٌ مسجلة ، تُدين صاحبها في دنيا الأخلاق وتحط من قدره في عالم الفضائل وإن كانت قد جعلت منه واحداً من أبرز شعراء جيله وأشهر أعلام زمانه.

إلي هنا ونحن في صحبه شاعر رجيم لا يستحق منا كبير عناية أو تقدير من الناحية الأخلاقية لا الفنية ؛ بَيْد أن الفصل الأخير من رواية عمره يوجب علينا أن نتمهل عنده قليلاً ويجعلنا نشك كثيراً فيما نُسب إليه من وقائع أو نُسج حوله من روايات. والقدماء الذين صوروه لنا بما مضي هم أنفسُهم الذين قالوا عنه إنه كان عالماً فقيهاً عارفاً بالأحكام والفُتيا بصيراً بالاختلاف ، صاحبَ حفظ و نظر ومعرفة بطرق الحديث . يعرف ناسخ القرآن و منسوخه و مُحْكَمَه ومتشابهه . يجالس العلماء والأدباء و يضرب معهم في كل حديث بسهم فما تجارَوا في شيء من فنونهم إلا جاراهم ثم تفوق عليهم.

و الرجل الذي كان يَغْشَي مجالس اللهو و يتتبع آثار المخنثين و لا يصحو من سُكْر حتى يسأل عن الكأس هو عينه الكهل الضعيف العاجز الذي خلع رداء الفجور و الفسق و تذرع بالنسك و التقوى . و بعد أن كان يقول مستهزئا :
عاج الشقيُّ علي رسم يسائله و عُجْتُ أسأل عن خمارة البلد

بات يردد مستغفراً :
و لقد نَهَزْت مع الغُواة بدلوهم و أسمت سرح اللهو حيث أساموا
و بلـغت ما بـــــــــلغ امرؤ بشبابه فإذا عُــــصارةُ كـــــــلِّ ذاك أثــــامُ !
ويبدو أنه كان علي يقين من عفو الله واثقاً من كرمه الواسع و صفحه الجميل . و لا عجب أن يكون أشدُّ القوم تورطاً في الآثام و المعاصي هو أكثرهم توجهاً إلي الله و ألهجهم بذكر رحمته و مغفرته ؛ فأبو نواس الذي قال :
لست أري لذة ولا فرحا و لا نجاحاً حتى أري القدحا

هو ذاته الذي يقول :
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ولا حرج علي فضل الله . فربك الغفور ذو الرحمة يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار و يبسط يده بالنهار ليتوبَ مسيء الليل . يقبل توبة العبد ما لم يغرغر و يجعل التائبَ من الذنب كمن لا ذنب له . ومن المؤكد أن هذا ما جعل أبا نواس يناجي الله في ضراعة ذليلة و ابتهال خَشوع:

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً فلقد علمت بأن عفــــــــــوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فمن الذي يدعو ويرجو المجرمُ ؟ !
لقد أقر بذنبه واعترف بخطاياه ، ولكنَّ أمله في رحمة الله كان أكبر ورجاءه في غفرانه كان أقوى :
أنا مذنبٌ أنا آثمٌ أنا عاصي هو غافرٌ هو راحمٌ هو كافي
قابلتُــــــــــــهن ثلاثةً بثلاثةٍ و لتَغْلِبَنْ أوصــــافُه أوصافي
و نحن لسنا أوصياءَ علي قلوب الناس ولا حُجَّاباً علي باب الله . و لا أحد منا يمكنه أن يخبر بما خبَّأه الله في طي غيبه للتائبين و المستغفرين . ففي الخبر أن رجلاً قتل مائة نفس ثم تاب إلي الله توبة نصوحاً فقبل الله توبته .

نسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا و يستر عيوبنا و يرزقنا حسن الخاتمة !!