بقلم: أ. د. أحمد عادل
أستاذ مساعد النقد الأدبي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
الفعل (وَرَّى)
اللغة كائن حيّ، تحيا على ألسنة الناس، ويحيا بها الناس أيضًا؛ إذ إنها وسيلة التواصل بين البشرية جميعًا؛ ولذلك أشبهت الهواءَ الذي لا غنى للإنسان عنه؛ ومن هنا تأتي هذه المقالات بعنوان "نسمات لغوية"، نسعى فيها جاهدين لتقديم بعض الفوائد اللغوية في لغتنا العربية.
ونسمة اليوم مع الفعل (وَرَّى)، وهو الفعل المستخدّم في العاميّة المصريّة بمعنى: "جعله يرى"، فنقول مثلاً: "ورّاني مقاله"، و"ورّيت أصحابي جريدة الفتح اليوم"...
ولكن هذا الفعل يُستخدم في الفصحى بمعانٍ أخرى لا علاقة لها بهذا المعنى، ففي المعجم الوسيط: "(ورَّى) عَن فَلان: نَصره وَدفع عَنهُ، وَ_ عَن الشَّيْء: أَرَادَهُ وَأظْهر غَيره-(أي: على سبيل التورية)- وَفِي الحَدِيث «أَن النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- كَانَ إِذا أَرَادَ سفرًا ورَّى بِغَيْرِهِ». و_ َفُلانٌ الزَّنْدَ: أخرج ناره، وَ_ النَّارَ: استخرجَها. وَ_ الشَّيْءَ: أخفاه وَجعله وَرَاءه وستره."
وفي هذا المعنى الأخير تضاد كامل مع المعنى المراد في العاميّة. إذًا فمن أين جاء معنى الفعل (ورّى): جعله يرى؟!
إن الفعل (رَأَى) حين تأتي منه صيغة فعّل المضعّف العين –وعين الكلمة أي الحرف الأوسط فيها- صارت: (رَأَّى)، أي: أرَاهُ، أو: عرض عَلَيْهِ الْمرْآة لينْظر فِيهَا.
وفي القرآن الكريم: «فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى» (20 النازعات). ثم حدث إبدال للهمزة واوًا، فصارت: (رَوَّى)، ثم حدث للفعل ما يسمّى في اللغة بالقلب المكانيّ، وهو عبارة عن تقديم بعض حروف الكلمة على بعض، تبعًا للذوق اللغوي، فكان: (وَرَّى)، ثم اشتُقّ منه سائر الصيغ، فقلنا في المضارع: (يُوَرِّي)، وفي الأمر: (وَرِّينِي)، ويقال أحيانًا في نطق أهل العراق: (راويني).
وظاهرة القلب المكانيّ هذه ظاهرة مشتركة بين مستوى اللغة الفصيح ومستواها العاميّ، وتذخر اللهجات العاميّة المعاصرة بالكلمات التي حدث فيها قلب مكاني، مثل: "مرسح" في "مسرح"، و"أهبل" في "أبله"، و"جنزبيل" في "زنجبيل"، و"عماويد" في "عواميد".
ومن ثَمَّ نعلم أن الفعل (وَرِّيني) في استخدامه العاميّ بمعنى: (اجعلني أرى، أو: أرني)، مقلوب عن (روِّيني)، وأصله من الفصحى من أمر الفعل (رأَّى) بعد إبدال الهمزة واوًا.
نَسَمَاتٌ لُغَوِيَّة
طبوغرافي
- حجم الخط
- الافتراضي
- وضع القراءة